الظل اللي في الصورة بقلم سلمى محمد

من حوالي أسبوعين، لقيت ظرف غريب على باب شقتي.

ماكانش عليه اسم، ولا ختم، ولا عنوان. بس كان موجه ليا—أنا، ندى.

كنت راجعة من الشغل آخر اليوم، مرهقة ومخنوقة، وحالة مزاجي كانت تحت الصفر.

مسكت الظرف بحذر. الورق لونه باهت ومصفر، شكله متخزن من سنين.

ولقيت جواه صورة مطبوعة أبيض وأسود.

صورتي. وأنا واقفة قدام باب شقتي، بنفس لبس النهاردة، وبنفس شكل التعب اللي في وشي.

لفت نظري تاريخ صغير مطبوع تحت الصورة. نفس تاريخ النهارده، ونفس التوقيت اللي وصلت فيه البيت.

يعني الصورة دي اتصورت دلوقتي حالًا.

قلبي دق جامد، أعلى من صوت الشارع.

مين صورني؟

وإزاي الصورة اتصورت دلوقتي ووصلت قبلي؟ 

حاولت أهدى.

قلت يمكن كاميرات الجيران، هزار تقيل، أي حاجة. 

بس قلبي كان بيدق بعنف.

اللي فعلاً خلاني أقشعر، إن كان فيه ضل باين ورايا في الصورة.

ضل حد واقف ورايا.

ملامحه مش باينة،

قصير، وشكله لازق في ظلي.

قعدت متخشبة، مش قادرة أفسر ولا أستوعب.

دماغي بيحاول يلاقي أي تفسير منطقي، بس ولا حجة كانت مقنعة.

دخلت الشقة، قفلت الباب، ورميت الصورة على الترابيزة.

حاولت أنسى، أقنع نفسي إنها مش مهمة.

تاني يوم الصبح،

لقيت الظرف التاني.

بس المرة دي فيه صورة جديدة.

صورتي وأنا نايمة. 

وفي الخلفية، شخص واقف جنب السرير.

وشه أسود بالكامل، مافيهوش أي ملامح. كأنه فراغ.

اتجمدت.

قلبي وقع من مكانه.

مين دخل بيتي؟

إزاي؟!

مسكت التليفون ورجلي بتتهز، حاولت أتصل بحارس العمارة.

أكيد حد بيهرّج، يمكن في مشكلة كاميرات، يمكن. 

بس مافيش رد.

قفلت التليفون، وبصيت حواليّا وقلبي بيخبط.

كل حاجة ساكنة. ومرعبة.

وفجأة. 

رنّ جرس الباب.

اللي يعرفني عارف إن الجرس بايظ من شهور، وعمري ما صلحته.

أول ما سمعت صوته، حسيت الدم بيتسحب من جسمي.

 إزاي حاجة بايظة تشتغل من نفسها؟

قعدت أبص في الصورة بصمت.

حاولت أركز على أي علامة تفرق مين الشخص اللي واقف في الخلفية.

وشه مش باين. بس كان فيه نقطة بيضا ساطعة مكان العين الشمال، كأنها فتحة بتبلع النور.

بدأت أتلفت في الأوضة.

كل ركن فيها بقى يبان غريب.

 قلبت كل الشبابيك مقفولة، الباب مقفول، حتى جرس الباب مبيشتغلش.

في نفس الليلة حاولت أنام، لكن في الآخر نمت بصعوبة.

صحيت على صوت خبطة خفيفة جوه الشقة.

جرّيت ناحية الصالة.

الصالة كلها ظلمة. 

 بس لاحظت إن الظرف التالت محطوط فوق التليفزيون.

إيدي اتلجت، بس قربت وفتحته.

جواه صورة ليا. وأنا واقفة قدام باب الشقة.

 بس المرة دي الظل كان ماسك إيدي!

القشعريرة جريت في ضهري.

حسيت حرفياً إني أتحبست في كابوس مفتوح.

سمعت همسة ورايا:

رجعنا نكمل اللي بدأناه. يا ندى.

أتلفت، وقلبي بيخبط.

ماكانش فيه حد، بس ريحة تراب بارد وريحة ورق قديم دخلت من الشباك!

مسكت موبايلي وقررت أخرج فوراً من الشقة. 

لكن وأنا خارجة، لقيت الباب مش بيتفتح. ولا حتى بيتزحزح.

ظهرت رسالة على الموبايل من رقم مجهول:

اللي بدأ. لازم يكمل .

إيدي اتلجت حرفيًا أول ما قريت الرسالة.

الدنيا لفت بيا، وحسيت الجدران بتقرب عليّ، والهوَ الهوا بقى تقيل في صدري.

وبدأت الهمسة تطلع تاني. 

بس المرة دي أقوى، كأن الشقة كلها بتنطق:

كمّلي. كمّلي. 

قعدت ألف حوالين نفسي، أدوّر على أي تفسير، وقلبي بيجري قبل مني.

 رجعت أبص على الصورة اللي لسه في إيدي، قربتها من نور الموبايل.

 العين الساطعة كانت لسه بتلمع. 

لكن دلوقتي بتتحرك!

العين لفت جوا الصورة. وبقت باصة عليّا!

رميت الصورة من الرعب، وفي نفس اللحظة، سَمِعت صوت تكسير ورايا.

ببص بسرعة. 

المرايا الكبيرة؟

بقت ضبابية، وعليها طبعة كف. لونها أحمر غامق!

جريت على باب الشقة، أضرب فيه برجلي وكتافي. 

 ولا بيتحرك، كأن المكان حابسني.

إيدي على قلبي، صوت أنفاسي بيتقطع، والدموع نازلة من غير تفسير.

 رعب؟ يأس؟

 كل حاجة فيا بتنهار.

فجأة. 

رسالة جديدة نورت الموبايل:

افتحي الدُرج اللي في الصالة.

جريت على الدرج، وفتحت بإيدين بترتعش.

 لقيت جواه ظرف أسود، فتحته بسرعة.

كان جواه مفتاح صغير جدًا، وورقة متنيّة ومكتوب فيها بخط مش طبيعي:

الباب اللي هتشوفيه. مش دايم.

ادخليه قبل الفجر.

في اللحظة دي، الكهربا قطعت.

نورت الموبايل. 

وعلى حيطان الصالة، كان فيه باب مرسوم بالظل!

كنت مرعوبة اوي.. بس كنت كل اللي اعرفه دلوقتي ان مفيش حل تاني.. غير أني أكمل وأكشف لغز اللي بيحصل ليا.

 قربت بخطوات ثقيلة، والمفتاح في إيدي. 

سخن لدرجة بيحرق جلدي.

حطيت المفتاح في حفرة الباب المرسوم، وكنت حاسة إن في حاجة مش طبيعية. 

أول ما لامست الحديد، إيد باردة لمست صباعي.

الباب اللي كان مجرد نقش. اتحول لحقيقي، وابتدى ضباب أسود يتسرّب من حوافه.

دفعته بالعافية، ودخلت.

كل خطوة في الممر كانت بتسحبني أكتر. كأن الأرض نفسها بتبلعني.

الجدران كانت مليانة بالمرايات. وجواه ناس محبوسة وبتصرخ.

عينيا وقعت على مرايه جواه بنت محبوسة خلت قلبي يقع. 

 كنت أنا!

وإيدي في إيده. نفس الظل!

وقتها، الهمسات بدأت:

رجعنا. نكمل اللي بدأناه. 

صوت خبطة قوية خبطتني من ورا، اتلفت بخضة. 

 بنت صغيرة واقفة، عينيها كلها سواد، وباين عليها الرعب:

ارجعي. قبل ما يتقفل الباب. قبل ما تكوني في نفس مكانهم.

بس الممر كان بيضيق، الجدران بتقرب، وكل حاجة بتسود.

جريت ناحية نقطة نور في الآخر، بس الأرض كانت بتسحبني لتحت، كأنها بترفض خروجي.

وقبل ما أوصل، الظل مسكني من إيدي.

وشه بدأ يبان. 

 نصه وشي، والنص التاني كأنه شيطان!

صرخت، وكل المرايات على الحيطان اتكسرت، والنور انفجر في وشي.

 بس الهمس فضل مستمر. أقرب وأقرب

الدور جه. واللي بدأناه، لازم يكمّل. 

فضلت واقفة مش قادرة أتحرك. 

 النور اللي كان قدامي بدأ يبهت، وكأن حد بيطفيه بإيده.

 الظل قرب، وبصوته المبحوح قال:

فاكرة الوعد؟

صوته كان صوتي. 

 بس أعمق، أبطأ، مشوّه. كأنه طالع من حفرة مفتوحة جوا روحي.

أنا ما وعدتش. أنا معرفش وعد ايه اللي بتتكلم عليه!

بس الظل ما سمعنيش. أو يمكن سمع، وقرر يتجاهل.

 ضحك. ضحكة غريبة، مش بشرية.

 وبعدين قال:

أنتي اللي ناديتيني. أنتي اللي فتحتي الباب. الوعد ما كانش كلام، كان فعل.

دماغي هتنفجر. مش فاهمة.

 أنا ما عملتش حاجة!

  الأوضة بدأت حيطانها تقع وتتبني من جديد. 

 جدرانها بقيت سودة زي الفحم،

 والأرضية بتتنفّس. آه، بتتنفّس فعلاً!

حاولت أجري، بس الباب اختفى.

 الحيطان اتحولت لساعات. وكل ساعة بتعدّ لورا.

رجعنا نكمل اللي بدأناه. 

صوته بيقرب، وكل كلمة يقولها، كانت بتخلي قلبي يدق بعنف.

نسيتي؟ أنا هخليكي تفتكري؟

أنا. أنا مش فاكرة!

 بس ملامحه بدأت تبان. وكان فيه جزء مني جواه.

وفجأة، نور أحمر خفيف بان في الأرض.

 علامة. محفورة. على شكل عين، بس مقلوبة.

وبمجرد ما لمحتها، كل حاجة حواليا وقفت.

 والصوت قال:

دلوقتي. نكمّل الطقس.

كل حاجة حواليا وقفت. 

 الهوى سكت، الجدران اتجمّدت، حتى العلامة الحمرا اللي على الأرض بقت بتلمع من غير ما تتحرك.

 الظل بصلي، وقرب أكتر. ووشه بدأ يبقى واضح.

كان وشي أنا.

بس مش وشي الطييعي، كان نسخة مرعبة مني.

 وقال بهدوء مريب:

 أنا اللي انسيتيه. أنا اللي دفنتيني.

جسمي بدأ يتقل.

الظل مشي ناحيتي، ولمس العلامة الحمرا، وبصوت غليظ كأن في ألف حد بيتكلم من خلاله قال:

 الطقس بدأ لما نسيتي، وهينتهي لما تفتكري.

كنت عايزة أتكلم، أصرخ، أقول أي كلمة، بس لساني أتشل جوا حلقي. 

فاكرة؟
فاكرة أول مرة وقفتي قدام المراية وبصيتيلي؟ فاكرة الطلب اللي طلبتيه، والورقة اللي كتبتيها بإيدك؟ الورقة اللي حرقتيها وانتي بتبصي حواليكي كأنك خايفة حد يشوف؟
فاكرة؟ 

الظل قرب مني، مدّ إيده ناحيتي، وصوته الهامس نغز ودني: تعالي… وقت الوعد جه.
 

أنا فضلت واقفة مصدومة، مرعوبة، رجليا مغروسة في الأرض كإني جزء منها، بس في اللحظة دي، صوت ضعيف جدًا، بس واضح، صرخ وقال لي: اهربي!
من غير ما أفكر، رجليا اتحركت لوحدها، واندفعت، عدّيت من جنبه، وحسيت بإيده بتقرب من كتفي، برودها تسلل لروحي، بس تجاهلته وجريت، جريت وأنا حاسة إن الأرض بتتهز تحتي، كأن المكان كله بيقاومني، مش عايزني أخرج.

الأنوار فوقي كانت بتطفي واحدة ورا التانية، الجدران بتتقفل، بتضيق، بتتنفس معايا، والهوا بيصرخ في وداني بصوت مش طبيعي، صوت فيه وجع وحدّة. ولما وصلت لباب الشقة، ملقتش مقبض ولا مكان لمفتاح.
فضلت أخبط بكل قوتي على الباب اللي مش باب، لحد ما حسيت بجلدي بيتسلخ، وإيدي بتنزف.
وفجأة، وسط الظلمة، نور خافت ظهر من فتحة صغيرة في الجدار، شدّني، حسيت إني لازم أروحله، يمكن أخرج، يمكن أهرب، زحفت ناحيته وأنا بقول لنفسي: ده حلم، كل ده حلم، وهفوق أكيد.

ومجرد ما دخلت النور، كل حاجة اختفت.
صحيت، لقيت نفسي ع السرير، التليفون واقع جنبي، الساعة ٣:١٧ صباحًا، مفيش صوت، مفيش حركة، لا ظل ولا علامة، وساعتها ظنيت إني نجيت… لحد ما بصيت في المراية.

كنت هناك… مش واقفة قدامها، لأ، جواها.
إيديا حطها على الزجاج، بؤي مفتوح على الآخر كأني بصرخ، بس مفيش صوت بيخرج، مفيش نفس، مفيش انعكاس.
وهنا، كل حاجة رجعتلي فجأة.
رجعت لطفولتي، للحظة اللي أختي الصغيرة اتولدت فيها، والبيت كله اتقلب، كل الحب والاهتمام راح ليها، وأنا اتحولت لضل.

فاكرة يومها، لما دخلت الحمام وقعدت أعيط وأدعي بدعوة سودة: يا رب تاخدها؟
كتبت كلام على ورقة، مش بإيديا، كأن حد تاني كان بيملي عليا،
وسمعت صوت لأول مرة، هادي وواضح ومخيف:
أنا هنفذ ليكي طلبك… بس هتدفعي التمن.

وبعدها بكام يوم، أختي فعلاً ماتت فجأة.  

البيت كله بكى، وأنا اتصدمت ونسيت كل اللي حصل… نسيت الدعوة، نسيت الاتفاق.. نسيت إن فيه تمن مستنيني.
بس هو ما نسيش.

قريني، اللي كان بيلاحقني من وأنا صغيرة، كان مستنيني أفتح ليه الباب، مستني اللحظة اللي أرجعله فيها.
ودلوقتي؟
أنا جوا المراية.

بحاول أتحرك، أصرخ، أستغيث، بس صوتي بيرتد جوا الزجاج، مفيش حد سامعني،
بشوفهم… أهلي، بيمروا قدامي، أدهم أخويا واقف، بص لي لحظة كأنه حس بحاجة، بس ماما ندهتله ومشي،
أنا بنادي، بصرخ، بخبط،
بس كل ده بيروح ف الهوا.
كل اللي أقدر أعمله.
إني أراقب.

وظلي، اللي في المراية، بدأ يتسلل، يخرج، يلف في الشقة، يلمس الحيطان، يقرب من سريرهم، يحاول يسيب لي أثر، يحسسهم إني لسه هنا.
بس الخوف سيطر على البيت، والقرآن بقى شغال طول الليل،

وأنا لسه محبوسة في المراية ووش قريني بيظهر جنبي في المراية كل ليلة.  

بيهمس ليا: كان اختيارك… كان اتفاق بينك وبيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top