الفصل 38
كان صوت رائد باردًا حدّ الجليد، وكأنه لا يرى جين أمامه، ولا يُلقي له بالًا. في مدينة الزهور، قلّما تجرأ أحد على مخاطبة جين بهذه الطريقة، فكيف بشاب صغير مثل رائد؟!
صفع جين كفّه على الطاولة بغضب، وحدّق في رائد بحدة، ثم صرخ:
“هل ترغب في الموت؟!”
لقد عاش جين عمره في قلب المجتمع، تهابه الأنظار وتُجلّه الأفواه، ولم يجرؤ أحد من قبل على إهانته بهذه الطريقة. أما اليوم، فقد طاله الازدراء من شاب لم يكد يُعرف اسمه، فاستشاط غضبًا ولم يستطع تحمّل الإهانة.
في محاولة يائسة لتدارك الموقف، قالت جنى بارتباك وهي تنظر إليه بخوف:
“أعتذر، سيد جين… زوجي خرج مؤخرًا من مستشفى الأمراض النفسية، أرجوك لا تأخذ كلامه على محمل الجد.”
لم تكن جنى تعرف من هو جين على وجه الدقة، لكنها شعرت بثقل حضوره من نظرات فادي والآخرين، وأدركت أنه شخصية بالغة النفوذ. إلا أن رائد لم يتردد في تحدّيه، مما اضطرها لإيجاد تفسير عاجل ومُهدئ.
عند سماعها، تبدلت نظرات الحاضرين إلى رائد، إذ شعر بعضهم بالارتياح بعد أن أدركوا أن ما بدر منه قد يكون ناتجًا عن اضطراب نفسي. فادي نظر إلى ياسمين نظرة اتهام، بينما غرقت الأخيرة في الضيق والندم. لقد اعتقدت أن رائد قد تعافى، لكنها فوجئت بما حدث، وتملكها شعور بالخيبة والضيق.
أما جين، فقد نظر إلى رائد مرات عدّة قبل أن يقول بنبرة هادئة لكنها مشبعة بالسيطرة:
“لا يبدو عليه الجنون… وإن كان كذلك، فعليه أن يطيعني. أنا لا أقبل العصيان، حتى من مختلٍّ عقليّ.”
كان صوته مشبعًا بالهيبة، ونظرته تحمل التهديد، فارتعد الحاضرون، باستثناء رائد.
ظل رائد يتناول طعامه بهدوء لا يخلو من البرود، ثم قال بنبرة ثابتة:
“أمامك خياران: إمّا أن تنتظر في الخارج حتى ننتهي، أو أن تغادر الآن.”
صُعق فادي ومن معه، وبدت الصدمة على وجوههم كأنّ صاعقة نزلت عليهم. أما جنى، فاشتدّ قلقها. لقد كانت تعلم أن رائد لا يحسن اختيار كلماته، لكن هذه المرة فاق كل توقع. لم يكن الخطر في جرأته فحسب، بل في توقيتها ومكانها.
قال جين بلهجة تهديدية:
“أحسنت، سأحفظ وجهك جيدًا. يبدو أنك تعرف قوانين منتجع الجبل، ولولاها لما تركتك تغادر سالمًا. تذكّر، لن تبقى هنا إلى الأبد.”
كانت القاعدة واضحة: لا قتال في منتجع الجبل. لا أحد، مهما بلغت سلطته، يتجاوز هذا القانون. ولذلك، رغم غيظه، لم يستطع جين الردّ بالقوة.
بكل برود، قال رائد وهو يرفع رأسه بثبات:
“اسمي رائد.”
كانت تلك الكلمات كفيلة بإشعال نار الغضب في عيني جين، لكنه لم يجد وسيلة للرد. اكتفى بالتحديق فيه للحظة، ثم استدار وغادر المكان غاضبًا.
بمجرد خروجه، سارع فادي إلى تبرئة نفسه:
“سيد جين، أرجوك لا تُسئ فهمي… أنا لا أعرف هذا الشخص حقًّا، لم أره من قبل.”
ثم التفت إلى ياسمين غاضبًا، وقال:
“أنت السبب في كل هذا! تحاولين تدميري!”
ثم واجه جنى وصرخ:
“ألم تقولي إن هذا المجنون أصبح طبيعيًّا؟ يبدو أن حالته ازدادت سوءًا!”
اعتذرت جنى وهي تغالب دموعها:
“أنا آسفة… حقًا آسفة.”
ثم توجهت إلى رائد وقالت بلهجة معاتبة:
“ما الذي فعلته؟!”
ردّ رائد بثقة باردة:
“كان من حسن حظه أنني لم أطلب منه الخروج مباشرة. هذا أقصى درجات اللطف التي أستطيع تقديمها.”
أمسك فادي رأسه بغضب، وقال:
“أنت مجنون! مجنون تمامًا!”
أما الآخرون، فقد بدأوا في التذمّر:
“كان من سوء حظنا أن جلسنا على مائدة واحدة مع هذا الأحمق.”
“ظننّاه رجلًا ثريًّا، فاتضح أنه بلا عقل.”
“إذا غضب السيد جين، فسيدمرنا جميعًا.”
غادر الجميع المطعم وهم يرمقون رائد بنظرات احتقار وخوف.
بعد لحظات من الصمت، قالت جنى لرائد بغضب مكبوت:
“لم ننتهِ بعد من قضية وليد، وها أنت تدخل في عداء جديد مع السيد جين. ماذا سنفعل الآن؟!”
نظر إليها رائد بثبات وقال:
“ألم تفهمي بعد؟ كلما زاد تسامحك، زاد استقواء الناس عليك. لا فائدة من التسامح.”
توقفت جنى فجأة، وكأن تلك الكلمات اخترقت أعماقها. تذكّرت خذلان أقربائها، وتنمّر الغرباء، ومرارة الخيانة، ولم تجد في قلبها سوى الأسى.
تابع رائد بصوته العميق:
“أنا سأمهد لكِ الطريق… كل ما عليكِ فعله هو المضي قدمًا.”
في تلك اللحظة، شعرت جنى بدفء لم تعهده منذ زمن. بدا وكأن رائد، رغم بروده، هو الوحيد الذي يمكنها الاتكاء عليه في هذه الحياة القاسية.
سكتت لحظة، ثم تنهدت وقالت:
“حسنًا… كنت قد وعدتني أن نذهب إلى مكان بعد العشاء، أليس كذلك؟”
أجابها بهدوء:
“نعم، سيُقام مزاد الليلة بعنوان قلب الملاك الحارس. دعينا نذهب ونلقي نظرة.”
كانت جنى قد سمعت كثيرًا عن “قلب الملاك الحارس”. إنه عقد ألماسي، لا يبدو فريدًا من حيث الشكل، لكنه من صناعة أحد أشهر الحرفيين، ويُقال إن رمزيته العاطفية العميقة وروعته الفنية جعلت له مكانة مميزة في مدينة الزهور منذ أن ظهر لأول مرة. لذا، توافد الناس من كل صوب وحدب إلى منتجع جبل ماونتن، آملين في رؤيته أو حتى محاولة اقتنائه.
أينما سارت جنى في المنتجع، كانت تسمع همسات الفتيات ونقاشاتهن المتحمسة تدور حول العقد. حتى ياسمين، صديقتها المقربة، تحدّثت عنه أثناء العشاء في وقت سابق من اليوم. فقد جاءت إلى المنتجع برفقة خطيبها فادي خصيصًا للمشاركة في المزاد ومحاولة الحصول عليه، إذ كان فادي ينوي تقديم “قلب الملاك الحارس” كهدية لطلب يد ياسمين رسميًا.
كان من الطبيعي أن ترغب النساء في رؤية العقد الماسي الشهير، وجنى لم تكن استثناءً. ورغم تحفظها، فقد اشتعل فضولها ورغبتها في رؤيته بعينيها. وبعد لحظة من التردد، سألت رائد:
“هل يمكننا دخول المزاد؟”
أجابها رائد بنبرة جادة واثقة:
“بالطبع يمكننا.”
لم تُصدق جنى أذنيها، فابتسمت وسألته:
“حقًا؟”
أومأ برأسه مؤكدًا:
“نحن من الضيوف المحظوظين، ويُسمح لنا بدخول أي مكان في المنتجع. هيا بنا.”
أخذ رائد بيدها وسارا معًا نحو قاعة المزاد. وما إن وصلا إلى الباب، حتى خرج شيهاب فجأة. ونظر إلى رائد بازدراء وعبس، ثم قال بحدة:
“هل تفسر لي كيف يُسمح لك باستخدام الممر الخاص، بينما يُمنع عني؟”
أجابها رائد ببرود واستخفاف:
“لأنني وسيم.”
لم يكن مهتمًا بالخوض في جدال مع شخص لا يعرفه، فاكتفى بجواب ساخر، جعل شيهاب يزداد حنقًا. قال بسخرية:
“فهمت… لا تريد أن تجيب. لكنني متأكد أن كل ما تستطيع فعله هو التجوّل ومشاهدة المناظر، ولن يُسمح لك بدخول المزاد، لأنك لا تملك حتى بطاقة VIP.”
ثم توجه هو وشريكه نحو المدخل المعتاد للمزاد.
كانت القاعة مكتظة بالحضور، والجميع جاؤوا من أجل رؤية “قلب الملاك الحارس”، حتى إن أولئك الذين علموا أنهم لن يستطيعوا المزايدة، أرادوا على الأقل مشاهدة هذا العقد الأسطوري.
اصطفّت طوابير طويلة أمام القاعة، بينما تجاوزها رائد دون أن يُلقي لها بالًا، وسلك ممرّ الموظفين الخاصّ، ممسكًا بيد جنى. فإذا بصيحة من خلفه:
– هذا مدخل الموظفين!
التفت البعض دفعًا بالفضول، من بينهم فادي وياسمين. نظر فادي إلى رائد بازدراء، قائلاً ساخرًا:
– الأحمق لا يفعل إلا أشياء حمقاء…
رمقت ياسمين جنى بنظرة إحراج، إذ شعرت أن تصرّف رائد يضعها في موقفٍ محرج أمام الجميع. خفضت جنى رأسها خجلًا من نظرات الحاضرين وسخريتهم، لكن رائد لم يُعر ذلك أدنى اهتمام، ومضى بثبات نحو الباب.
عند مدخل الممر الداخلي، استقبله موظف أنيق ببدلة رسميّة، فانحنى أمامه وقال بلياقة:
– تفضل بالدخول، سيدي.
ذاك المشهد صدَم الحضور، وهم يرون الباب يُفتح أمام رائد وجنى، ويتوجهان بكل هدوء إلى قاعة المزاد. لم يصدق شيهاب عينيه، بل بدا عليه الذهول، وكذلك فادي وياسمين.
سأل يو، أحد أصدقاء فادي، بدهشة:
– كيف تمكنت صديقتك من الدخول عبر ممرّ الموظفين؟ هل تعمل في المكان؟
أجابته ياسمين في حيرة:
– قالت إنها عاطلة عن العمل… هل كذبت؟
في الداخل، كانت جنى تتبع رائد بحماسةٍ لا تخفيها، حتى وصلت إلى القاعة الضخمة المزدانة بأفخم التصاميم والمكدّسة بالمقاعد. وكانت أفضل المقاعد في الطابق الثاني، حيث ثماني غرفٍ خاصة لا يُسمح لغير كبار الشخصيات بدخولها.
لم تُصدّق جنى عينيها حين وجدت نفسها تدلف إلى إحدى تلك الغرف الفاخرة، فارتعشت، وسألت بدهشة:
– هل يُمكننا فعلاً الجلوس هنا؟
ابتسم رائد لها بهدوء:
– للضيوف المحظوظين امتيازات خاصة… ويبدو أن هذه إحداها.
ابتسمت جنى برهبة وامتنان، ولم تجد ما تقوله.
في الخارج، كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً، وبدأ الحشد يتوافد إلى القاعة. دخل فادي وياسمين ووجدا مقعديهما في موقع متميّز. بحثت ياسمين بعينيها عن جنى، لكنّ كثافة الحضور أعاقت رؤيتها.
مالت إلى فادي بصوت ناعم قائلة:
– عزيزي، يجب أن تفوز بهذا العقد.
كانت في أبهى حلّة، ومظهرها يفيض بالجاذبية والأنوثة. لمس فادي شعرها، وأجاب:
– سأزايد عليه بالتأكيد.
تبسّمت ياسمين، ثم تظاهرت بالصرامة:
– إن لم تفز به… فلن أتزوجك.
ضحك فادي بثقة:
– ومن ستتزوجين إذن؟
ردّت مازحةً بنبرةٍ جدّية:
– سأتزوج من يحصل على «قلب الملاك الحارس».
لم يُجب فادي، واكتفى بابتسامة واثقة من انتصاره.
وسط ضجيج القاعة، انطلق المزاد أخيرًا. قدّمت قطع ثمينة تراوحت أسعارها بين مئات الآلاف وثلاثة ملايين دولار، لكنها لم تُحدث الضجة التي صاحبت إعلان القطعة الأخيرة: قلب الملاك الحارس.
وعندما فُتح الصندوق ليُبهر الحضور بما فيه، أطلقت النساء في القاعة شهقات انبهارٍ لا إرادية، إذ لمع العقد ببريق ساحر تحت الأضواء. كانت سلاسله مرصّعة بالألماس الأبيض، وفي قلبه حجر ياقوتٍ أحمر تحيط به ألماسات صغيرة، في تصميمٍ يرمز إلى الحماية والحب.
لم تستطع جنى إخفاء دهشتها، فهتفت:
– إنه رائع… أتساءل من سيحظى به!
سألها رائد بصوت منخفض:
– هل أعجبكِ؟
أومأت برأسها وقد لمعت عيناها:
– جداً.
نظر إليها رائد طويلًا، ثم قال بنبرة دافئة:
– إن أعجبكِ، فسأهديه لكِ.