رواية أحببته رغم جنونه الفصل 33
بطاقة “سوبريم بلاك” من بنك الشارقة
بطاقة لا تُمنح إلا لقلة من النخبة، أولئك الذين تُجسّد حساباتهم المصرفية معنى الثراء الحقيقي. لقد بلغت من الندرة حدًّا جعلها شبحًا ماليًا؛ يتردّد اسمها في المجالس، لكن لا أحد يراها. كانت تُشبه الأساطير؛ يُحكى عنها، ولا تُلامسها الأعين.
لذا لم يكن مستغربًا أن يتفاجأ وائل حين لمح البطاقة السوداء في يد رائد. لم يتمالك نفسه، فاڼفجر ضاحكًا بتهكم، وقال بازدراء:
“منذ متى أصبح لدى بنك الشارقة بطاقة سوداء؟ هل أنت جاد؟”
ثم الټفت نحو الحاضرين، ساخراً:
“هل رأيتم مثلها من قبل؟”
تجمّع موظفو متجر “غوتشي” عند الضجيج، وبدأوا يتهامسون، ثم أجمعوا بصوت واحد:
“لا، لم نرَ مثلها قط، بل لم نسمع حتى باسمها!”
أعاد وائل نظره إلى رائد، وفي عينيه لمعة سخرية لاذعة، ثم قال:
“بطاقات القراصنة تغزو السوق، ويبدو أن هذا نموذج جديد. من تحاول خداعه يا هذا؟”
حتى جنى، التي كانت ترافق رائد، بدأت تشك. لم ترَ في حياتها بطاقة أرفع من “البلاتينيوم” من بنك الشارقة. أما “سوبريم بلاك”، فاسم لم تعرفه من قبل. نظرت إليه وقالت بيأس:
“رائد… كفى، لا داعي للتمثيل!”
كانت قد بدأت تستعيد ثقتها به شيئًا فشيئًا. ظنّت أن الجراح التئمت، وأن الماضي لم يعد له ظل في قلبه، لكنها كانت تخشى أن يعود ليكسرها من جديد. فكرة الخيبة باتت لا تُحتمل.
رائد، بنظرة ثابتة وصمت مطبق، الټفت نحو وائل وقال ببرود قاټل:
“دع الأوهام جانبًا. التجربة وحدها ستحكم.”
وائل، وقد فقد توازنه، تسلّم البطاقة وقال ساخرًا:
“أحضروا جهاز نقاط البيع… لننهي هذه المسرحية.”
لم يتأخر أمين الصندوق، فجهاز الدفع كان حاضرًا، والفضول يملأ الأجواء.
أدخل وائل المبلغ المطلوب، ومرّر البطاقة… ثم ناولها لرائد قائلاً بسخرية جافة:
“هيا، أدخل الرقم السري، إلا إذا كنت نسيته!”
كانت لحظة صمت مشدودة كالوتر.
أنظار الجميع مُثبتة على رائد.
جنى تُحدّق به، يكاد قلبها يتوقف.
وائل يترقب سقطة يُراهن عليها.
أما رائد، فبهدوء الواثق، أدخل الرقم.
“تم الدفع بنجاح.”
اڼفجرت الصدمة في وجوه الجميع.
الدهشة خيّمت كأن الزمن توقّف للحظة.
وائل أصيب بالذهول، شحب وجهه كمن تجرّع هزيمة مُذلّة أمام جمهور عريض.
ارتبك، وابتلع مرارة الموقف، ثم قال بانفعال يائس:
“حتى لو دفعت، فمن قال إن المال لك؟ قد يكون من جنى… هذا كله استعراض لا أكثر!”
أما وائل، لم يفهم ما حدث، لكنه رفض التصديق بأن رائد يملك هذه القوة المالية. فبالنسبة له، الأسهل أن يُقنع نفسه أن المال ملك لجنى، فهي من عائلة تيمور، ولا غرابة إن امتلكت حسابًا قادرًا على دعم هذا الترف.
استعاد رائد البطاقة السوداء من يد وائل بحركة خفيفة، وقال بنبرة حاسمة:
“ليس من شأنك… الآن حان وقت الوفاء بوعدك.”
كان واضحًا أنه يُطالبه بالركوع.
ضحك وائل باستهزاء وقال بتعالٍ:
“أنت؟ تريدني أن أركع؟ من تظن نفسك؟ حتى لو كنت تملك ثروة، فأنت تبقى أحمقًا، ولن تستحق الاحترام يومًا.”
لم يكن الأمر يتعلّق بالمال بالنسبة لوائل؛ بل بالغيرة والحقد المتراكم تجاه رائد، الذي انتزع المرأة التي أحبّها. كيف له أن يُذعن، ويركع أمام من يراه أقلّ منه؟
سأله رائد ببرود حاد:
“أتشعر بالندم الآن؟”
في تلك اللحظة، تحوّل بريق عينيه إلى حدة ثلجية، لكن وائل لم يرتجف، بل ظلّ ثابتًا، يتكئ على مكانته في المتجر وثقته بالموظفين من حوله. رفع ذقنه وقال متحديًا:
“حتى لو اشتريت المتجر، لا يحق لك أن تأمرني. ما الذي ستفعله إن لم أركع؟”
وتوالت أصوات التأييد من البائعين:
“مجرد مبلغ زهيد! من لا يملك المال؟”
“من تظن نفسك لتطلب من مديرنا الركوع؟”
“مديرنا لا ينحني أمام أمثالك!”
التفّ الموظفون حول وائل، صفًّا خلفه، كأنهم جيش يُدافع عن قائده.
لكن رائد لم يهتز. نظر إلى وائل بثبات وقال ببطء وحزم:
“الرجل يُعرف بوفائه… ومن لا يفي بوعده، لا يُعتدّ به.”
ثم مدّ يده، وربت على كتف وائل برفق.
كانت لمسة بسيطة، لكنها كانت كالصاعقة.
ما إن سحب رائد يده، حتى ارتجّت ركبتا وائل وسقط راكعًا دون أن يفهم كيف! صُعق الجميع، وتجمدوا في أماكنهم، وألسنتهم عاجزة عن النطق.
ركع وائل… وائل الذي لطالما تباهى بكبريائه، الآن ينحني أمام من كان يحتقره!
مشهدٌ قلب الموازين.
أما جنى، فوقفت مشدوهة، تحدّق في رائد وكأنها تراه للمرة الأولى.
في عينيها لمع بريقٌ جديد، كأن السماء المظلمة تناثرت فيها نجوم.
لقد تغيّر… رائد لم يعد كما كان.
كان مشهد الركوع صادمًا حتى على وائل، الذي ظل يحدّق دون تصديق، يحاول أن يفهم ما جرى.
قال رائد بصوت هادئ عميق:
“لا تستخفّ بالناس مرة أخرى.”
لم يكن يهتم بإهانة وائل له، لكنّه لن يسمح له مطلقًا بإهانة جنى. لقد تألمت بما فيه الكفاية، ولن يدعها تذوق مرارة الذلّ مرة أخرى.
كان وائل لا يزال على الأرض، يحدّق برائد وعيناه تلمعان بالڠضب والارتباك. لم يفهم كيف حدث ذلك. كيف اڼهارت مقاومته؟ كيف سُلب كبرياؤه في لحظة؟ لقد أراد أن يُذلّ رائد أمام جنى، فإذا به يُهان هو نفسه أمامها.
استغرق وائل وقتًا طويلًا ليتجاوز الصدمة. وما إن استعاد صوته حتى صړخ في وجه الموظفين:
“أعطوهم الملابس… واطردوهم من المتجر!”
كان وجهه شاحبًا، وكأنه طُرد من ذاته، وأراد فقط أن يختفي رائد وجنى في أسرع وقت.
لكن رائد ردّ عليه ببرود لاذع:
“الزبون هو من يصنع مكانتكم… أهذا أسلوبكم في معاملته؟”
استشاط وائل غضبًا وصړخ:
“سئمت من وجهك! أنت لست مُرحبًا بك هنا، أفهمت؟”
خاڤت جنى من تصاعد التوتر، فأمسكت بذراع رائد وهمست بتوسل:
“دعنا نغادر… لا داعي للمشاكل.”
لم تُرد أن تنحدر إلى مستوى وائل، ولا أن تفسد لحظتها مع رائد.
وصلت الملابس إليها. أمسكت بحقيبة التسوق كأنها تحتضن حلمًا كان بعيد المنال، والآن بات في متناول يديها.
كانت تحب ذلك الفستان منذ زمن، لكنها لم تكن تملك ثمنه.
والآن… ها هي تحمله بيدها.
التفتت إلى رائد وقالت بابتسامة خفيفة:
“انتظرني هنا… سأذهب لتبديل ملابسي.”
لم تعد تطيق ارتداء شيء قديم، بعد أن امتلكت ما تحب.
أومأ رائد بهدوء، وراقبها وهي تدخل غرفة تبديل الملابس، بنظرة لم يسبق أن رأتها من قبل.
زمجر وائل وهو يتمتم بغيظ مكبوت:
“يا له من أحمق… يتظاهر بالهدوء في متجري! لولا كاميرات المراقبة، لكنتُ لقّنتك درسًا لا تنساه!”
كان الڠضب ينهش قلبه، فمجرد رؤية رائد واقفًا بثقة أمامه كانت كفيلة بإشعال نيرانه، ولم يجد ما يُسكّن سخطه سوى اللعنات.
بعد خمس دقائق، خرجت جنى من غرفة الملابس.
وكما يُقال: “الإنسان يُعرف بما يرتدي.”
تحوّلت جنى إلى شخصية أخرى تمامًا؛ لم تعد الفتاة التي دخلت الغرفة منذ لحظات، بل خرجت كأنها أميرة من عالم خيالي، أشبه بسندريلا وقد تحولت إلى سنو وايت. كانت طاغية الجمال إلى حد أن المتجر بأكمله بدا وكأنه سُحر بحضورها، حتى البائع نفسه لم يستطع أن يشيح ببصره عنها.
واندهش وائل، الذي نسي غضبه تمامًا أمام هذا التحول المذهل؛ لم يعد يرى أمامه سوى جنى.
بصوت بدا عليه الانبهار، قال:
“جنى… مضى وقت طويل منذ كنا زملاء دراسة. هل تسمحين لي بدعوتك للعشاء؟”
كانت نبرته مغلّفة بالإعجاب، كما لو أنه نسي أنها لم تعد جزءًا من عالمه.
لكن جنى التفتت إليه ببرود وقالت دون أدنى تفاعل:
“ألا ترى أن زوجي واقف بجانبي؟”
فقال مستخفًا:
“وما شأنه؟ الأمر لا يعنيه!”
لم ترد عليه، بل تجاهلته تمامًا، واتجهت نحو رائد وسألته بابتسامة خفيفة:
“كيف أبدو؟”
كانت نظراتها تقول: لا يهمني رأي أحد… إلا أنت.
نظر رائد إليها بعينين صادقتين، وقال بجديّة:
“تبدين رائعة.”
وائل كان يراقب المشهد، وعيناه تتوهجان من الغيرة؛ أراد أن يتفوه بشيء، لكن المفاجأة قطعت أفكاره.
دخل المتجر فجأة مجموعة من الرجال، بخطى صاخبة وواثقة.
تقدمهم رجل يحمل وجهًا متجمّدًا كالجليد، تتوسّطه ندبة عميقة تُشبه أثر سيف.
اسمه يو… رجل اشتهر في الأحياء بأنه لا يرحم، ويُلاحق ضحاياه عبر الأحياء حتى لو كان ېنزف؛ اسمه وحده يكفي لبث الړعب.
ما إن رآه وائل، حتى تبدّلت ملامحه، وسارع إليه بخنوع، قائلاً:
“مرحبًا بك في متجرنا، أخي يو!”
كان يو بالنسبة له بمثابة سيدٍ لا يُرد له طلب.
لكن يو لم يلتفت إليه قط، بل سار مباشرة نحو جنى.
توقف أمامها، وحدّق بها طويلًا، ثم أخرج هاتفه، وبدأ يقارن ملامحها مع صورة على الشاشة.
قال ببرود مريب:
“أنتِ جنى، أليس كذلك؟”
ارتجفت جنى داخليًا، فندبة الرجل كانت مخيفة كدودة ضخمة ملتصقة بوجهه، ونظرته الحادة اخترقتها كالسيف.
سألته بتوتر ظاهر:
“ما الأمر؟”
فردّ يو بصوت جامد كالصخر:
“هاجمتِ المدير وليد… هل ظننتِ أنكِ ستفلتين من العقۏبة؟ يجب أن تأتي معي حالًا.”