الفصل 44
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا في منزل الزهراء، وقد عمّ المكان نشاط غير معتاد. فاليوم ليس كغيره، إذ دبّت الحياة من جديد في أرجاء المنزل، بعد سنوات خفت فيها البهجة وغابت الألفة. ومع عودة الرخاء إلى عائلة الزهراء، تغيّر كل شيء. تم تجديد المنزل بالكامل، وأعيد ترتيبه بذوقٍ رفيع، ليعكس ازدهار العائلة ومكانتها المتصاعدة.
ومع هذا التحوّل، لم يقتصر التغيير على أفراد العائلة المقربين، بل حتى أولئك الأقارب البعيدين الذين بالكاد كانت تجمعهم صلة، بدأوا يتقاربون ويتآلفون من جديد. لقد أصبحت عائلة الزهراء بحق عائلة كبيرة مترابطة، تنبض بالحياة والمودة.
وكان لبشير الزهراء، كبير العائلة، دور أساسي لا يُنسى في هذا التحول، إذ قاد أبناء العائلة بحكمة وعزم، وأسهم في نهضتها بعد أن كانت على شفا التفكك. رأى الجميع هذا التغيير بأعينهم، من الفتور إلى الحيوية، ومن التراجع إلى التقدم، فامتلأت قلوبهم بالامتنان والإعجاب بهذا الرجل الذي أعاد للعائلة مجدها.
أما اليوم، فقد كان مناسبة استثنائية: عيد ميلاد الشيخ الكبير، بشير، وقد بلغ السبعين. اعتبرت العائلة هذا اليوم حدثًا بالغ الأهمية، وفرصة لتجسيد ما بلغوه من تماسك وازدهار. لم يدّخر أحد جهدًا، فالتحضيرات كانت على قدم وساق. تزيّن المنزل بزوجٍ من اللافتات الحمراء كتب عليهما “طول العمر”، وكانت أجواء الفرح والاحتفال تملأ المكان، فيما انشغل الجميع في الإعداد لهذا اليوم الكبير بكل حب وفخر.
في مثل هذا اليوم، لم يكن أحدٌ من عائلة الزهراء غائبًا تقريبًا. من أي مكانٍ جاؤوا، سواء من أعمالهم أو مساكنهم البعيدة، سارعوا جميعًا إلى المنزل في وقت مبكر، وكأن نداء القلب سبقهم إلى هناك.
كان بشير، بطل حفل عيد الميلاد السبعين، يرتدي زيًا أحمر زاهيًا، يفيض بهجة واحتفالًا، وقد بدا بصحة جيدة وعافية واضحة. وإلى جواره، في بهو المنزل الكبير، وقف أبناؤه الثلاثة يحيطون به.
لكن ملامح بشير لم تكن تنطق بالفرح؛ سأل فجأة بنبرة جادة تخلو من أي احتفال:
“هل من أخبار عن جنى؟”
في يومٍ كهذا، كان من المفترض أن يغمره السرور، إلا أن اسم جنى كان كفيلًا بأن يسلبه راحته. لقد كانت مصدر قلق دائم له، حتى أنه بات يكنّ لها كرهًا دفينًا.
هي التي تسببت، في نظره، في إذلاله أمام وليد بدلًا من إرضائه، ومع غيابها غير المبرر، خشي أن يتخذ وليد من ذلك ذريعة لإثارة المشكلات، خاصة بعد حصوله على قرض ضخم قد يُستغل ضدهم.
عندما سمع سلمان الزهراء، الابن الأكبر، حديث والده، نهض وقال بصوت هادئ لكنه يحمل القلق:
“لم أتوصل إلى أي شيء حتى الآن، رغم أنني أرسلت الناس للبحث في كل أرجاء مدينة الشيخ. لا نعرف أين ذهبت.”
كان سلمان وريث العائلة والمسؤول الأول عن شؤونها منذ تقدم والده في السن، وهو من يتولى إدارة الأمور برويّة واتزان.
لكن بشير لم يملك نفسه، فقال بغضبٍ غاضب:
“يا لها من ابنة مشؤومة… نحسٌ حلّ على العائلة.”
أما يان، الابن الثاني، فزمّ شفتيه وصرّ على أسنانه قائلًا بحدة:
“حين أجدها… سأقتلها.”
كان يان معروفًا بفظاظته ومزاجه الحاد، ولم يكن له موهبة تُذكر سوى القوة والقتال.
تدخّل الابن الثالث أخيرًا، محاولًا تهدئة الأجواء، وقال بنبرة ودّية:
“أبي، اليوم عيد ميلادك، إنه يوم فرح. دعنا نحتفل كما يليق، لا تدع القلق يعكر صفوك.”
قال جيان، الابن الثالث، بنبرة هادئة:
“الكثير من الأقارب ينتظروننا في الخارج.”
أومأ بشير برأسه وقال بجدية:
“هيا جميعًا، لنبتهج… ولنبدأ وليمة عيد الميلاد.”
ثم خرج عدد من أفراد العائلة من الغرفة الخلفية معًا، متوجهين نحو قاعة الولائم في المنزل الرئيسي. وهناك، بدأ الضيوف وأفراد العائلة يتوافدون واحدًا تلو الآخر لتقديم التهاني لبشير بمناسبة يومه السبعين. وكان بشير يردّ عليهم بابتسامة واسعة، تُخفي خلفها توترًا خفيًا.
وفجأة، وبينما كان صدى التهاني يتردد في القاعة، شقّ صوت نسائي القاعة وهو يصرخ بانفعال:
“أين جنى؟ هل رأى أحد ابنتي؟!”
اندفعت امرأة ذات شعر أشعث إلى الداخل، بعينين حمراوين من السهر، تتلفت في الوجوه المزدحمة وكأنها تبحث عن طوق نجاة. كانت تلك المرأة غادة والدة جنى.
لم تنم منذ يومين. منذ أن غادرت جنى فيلا الزهراء مسرعة، بدأ شعور مرير يتسلل إلى قلب غادة… الندم. لم تدرك خطورة ما حدث إلا بعد فوات الأوان، والآن لا شيء يهدئ قلبها سوى أن تراها… أن تطمئن فقط أنها بخير.
كانت جنى هي ابنتها الوحيدة، وعماد حياتها التي اعتمدت عليها لسنوات طويلة. طوال تلك السنوات، كانت جنى تعيل الأسرة وحدها، تعمل بجدّ دون أن تنبس بكلمة شكوى، متسامحة دومًا مع والدتها، حتى عندما كانت تُهدر المال في لعب الورق كل يوم.
كانت جنى حقًا ابنةً بارة، مخلصة حتى النخاع. لكنها، في لحظة ضعف، خانت ثقة جنى فيها من أجل مستقبل وهمي، خضعت فيه لضغوط والدها ورشوته. فقدت رشدها، وضحّت بابنتها.
تخيلت غادة كم كانت خيبة أمل جنى عظيمة، وكم كان قلبها مكسورًا وهي ترحل عن المنزل في يأس. كانت غادة هي من دفعت جنى للهرب، وهي الآن تجرّ خلفها ندمًا ثقيلًا وخوفًا لا يُحتمل.
بحثت عنها بجنون، من “مدينة الزهور” إلى “مدينة الشيخ”، ولم تستطع التواصل معها منذ لحظة مغادرتها. وعندما أيقنت أنها اختفت، هرعت إلى الشرطة للإبلاغ، لكنها فوجئت بأنهم رفضوا فتح بلاغ، لأن جنى لم تُعتبر “مفقودة” قانونيًا بعد، إذ لم يمضِ على غيابها أكثر من 48 ساعة.
شعرت غادة بالعجز، بالذعر، وكادت تنهار. الخوف على ابنتها الوحيدة كان ينهشها بلا رحمة. جنّ جنونها، صرخت، وركضت في كل مكان، تسأل الغرباء، وتبكي أمام الأبواب، لكن دون جدوى.
حين لم تجد أملًا في الخارج، عادت أخيرًا إلى فيلا الزهراء، تتشبث بأمل أخير. كانت تبدو كمتسولة، تفوح منها رائحة الإهمال والتعب، وقد تلاشى تمامًا عنها ذلك المظهر الأرستقراطي الذي عُرفت به.
وعندما ظهرت بهذه الهيئة، تراجع الحاضرون عنها، ينظرون إليها باشمئزاز، وكأن مجرد وجودها قد يجلب لهم النحس.
حدّق بها بشير ببرود شديد وقال:
“من سمح لك بإحداث هذه الفوضى هنا؟”
كانت كلماته كصفعة أعادتها جزئيًا إلى وعيها. رمشت بعينيها لحظة، ثم اندفعت نحوه فجأة، وهي تبكي بحرقة:
“أبي… أرجوك، لا أريد بيتًا، لا أريد منك عملًا… أريد ابنتي فقط! أرجوك، أعد لي جنى!”
لكنّ الرد جاء قاسيًا.
صفعها بشير على وجهها صفعة مدوية، صرخ فيها:
“مِن أجل ماذا تصرخين هكذا؟! حين أجد ابنتك، سأربطها وأرسلها بنفسي إلى السيد وليد!”
سقطت غادة على ركبتيها، والدموع تخنق صوتها:
“أبي، جنى ابنتي الوحيدة… لا يمكنني أن أراها تتأذى! إنها حفيدتك أيضًا… أرجوك، اسأل السيد وليد إن كانت عنده… فقط أخبرني أنها بخير!”
كان ذلك موقفًا مؤلمًا.
أما وليد، فقد شعر بإهانة بالغة حين ضربها رائد وأجبرها على الركوع والسجود. لكنه لم يجرؤ على الاعتراف بما حدث، لا لعائلته ولا لعائلة الزهراء. كيف له أن يواجههم بهذا العار؟
في تلك اللحظة، انفجر غضب بشير، وركل غادة بقسوة وهو يصرخ:
“هل تدركين كم من المتاعب سببتها لي جنى؟ لقد أهانت الرئيس وليد، وتسببت في تورّط العائلة بأكملها! إنها ليست حفيدتي!”
حدّق فيها بازدراء، وأضاف ببرود:
“هذه المرأة العاصية لا تستحق رعايتي، حتى لو ماتت متشرّدة في الشارع!”
تقدّم أحد أبنائه، بنبرة حادة:
“أبي، لا داعي للكلام معها. الضيوف سيصلون قريبًا، ووجود هذه المرأة المجنونة هنا عار على عائلتنا. اطردها فورًا!”
كان من غير المحتمل أن يسمح بشير بأن تُفسد أجواء الاحتفال، لا سيما في هذا اليوم الذي أراد له أن يكون مظهرًا لهيبة العائلة ووجهها الاجتماعي. توالت الأصوات تهمس وتعلو من حوله:
“يا لها من امرأة مجنونة… سيضحك علينا الجميع.”
“الضيوف سيظنون أن هناك متسولة في المنزل!”
“إنها فأل سيئ… حضورها جالب للنحس!”
“اطردوها حالًا!”
بدأ عدد من أفراد عائلة الزهراء يبتعدون عن غادة ويوبخونها، وكأنها لطخة على ثوبهم الأبيض. بالنسبة لبشير، كان مظهر العائلة أهم من كل شيء، ولا سيما في مثل هذا اليوم المميز. لم يكن مستعدًا لأن يسمح لغادة بإذلال اسم الزهراء أكثر مما فعلت.
صرخ فيها بجمود:
“اخرجي من هنا!”
لكن غادة هزت رأسها بعناد، وقالت بإصرار مخنوق بالدموع:
“لا… لن أخرج. سأبقى هنا في انتظار ابنتي. هي تعرف أنني هنا… وستعود إلي.”
ازداد غضب بشير، فقد خشي أن تبقى تُثير الضجة بجنونها حتى بعد طردها، وتُفسد حفلته أمام الضيوف. ولمّا فكّر في الأمر، أمر على الفور بصرامة:
“خذوها واحبسوها في سقيفة الحطب!”
كانت تلك السقيفة القديمة في نهاية القصر، شبه متهدمة منذ سنوات، وقد استُخدمت سابقًا كـ”سجن تأديبي” للخدم إذا أخطأوا. أما الآن، فقد قرر بشير أن ابنته لم تعد تستحق حتى أن تُعامل كأحدهم.
صرخت غادة، مذهولة:
“لا! لا! أرجوكم… لا! يجب أن أبقى هنا لأنتظر ابنتي!”
كانت يائسة، تتوسل بحرقة، تقاوم السحب والطرد، لكن لا أحد أصغى لندائها. أمر بشير رجلين من الخدم، فسحباها بالقوة وهي تصرخ وتقاوم حتى اختفت عن الأنظار.
وحين أُغلقت الأبواب، تنفست هيام، شقيقة زوج غادة، الصعداء وقالت باستخفاف:
“أخيرًا… عاد الهدوء.”
ثم التفتت للحضور وقالت:
“استعدوا جميعًا لاستقبال الضيوف.”
جلست هيام على الطاولة، وقد ارتسمت على وجهها ملامح الجبروت، وكأنها تجلس على عرش إمبراطوري، لا على مائدة طعام.
تحرك الآخرون من حولها بخفة وهمّ بالاستعداد، إذ وصل أحد الخدم ليعلن بصوت مرتفع:
“سالي، صاحبة متجر مجوهرات ووفو، وصلت لتهنئة السيد بشير!”
كانت سالي سيدة أعمال ثرية، تمتلك سلسلة متاجر “ووفو” الشهيرة للمجوهرات، ولها تعاملات قديمة مع عائلة الزهراء. حضورها لم يكن عابرًا… بل يحمل دلالات ثقيلة في ميزان العلاقات والمصالح.
في هذا العام، وبينما كانت أضواء قاعة الولائم تتلألأ احتفالًا بعيد ميلاد بشير الزهراء، وصلت سالي – سيدة الأعمال الثرية، وصاحبة سلسلة متاجر “ووفو” للمجوهرات – برفقة صديقها الشاب وائل.
وائل، الذي كان يصغرها بأكثر من عقد، لم يكن يخفي طموحه. لم يكن الحبّ ما يجمعه بسالي، بل ذلك النوع من العلاقات التي تُبنى على المصالح المتبادلة. كانت هي تملك المال، وكان هو يعرف جيدًا كيف يبدو أنيقًا حين تسلط عليه الأضواء.
عشق الواجهة اللامعة للحياة، وتعلّم أن يصعد السلم الاجتماعي مستندًا إلى النساء لا إلى نفسه. وقد بدا اليوم في أفضل حالاته، مرتديًا بذلة أنيقة بعناية، يخطو خلف سالي كظلّها، وكأنه شريك لا غنى عنه في هذه المسرحية الاجتماعية.
تقدّمت سالي نحو بشير، وابتسمت بودٍّ مصطنع وهي تقول:
“السيد البشير، أطال الله في عمرك، وبارك لك في هذا اليوم الميمون. إن حضورنا لا يضاهي مكانتك، لكننا جئنا نحمل خالص التهاني.”
قدّمت له هدية باهظة دون أن تُفصح عما بداخلها.
ابتسم بشير ابتسامة هادئة، تحمل من اللباقة أكثر مما تحمل من الامتنان، وردّ:
“شكرًا لحضوركما، هذا لطفٌ كبير منكما.”
لكن سالي لم تكن وحدها.
فقد بدأ الضيوف بالتقاطر واحدًا تلو الآخر… ليس من عامة الناس، بل من الصفوة.
رجال أعمال، شركاء تجاريون، رؤساء تنفيذيون، وأسماء تلمع في سماء المال والسياسة.
لم يكن المشهد مجرد حفل عائلي، بل أقرب إلى عرض قوة اجتماعيّ، تُثبت فيه عائلة الزهراء أنها لم تَعُد كما كانت.
لقد كانت في الأمس القريب في قاع الانحدار، أما اليوم، فها هم ينهضون من الرماد كطائر الفينيق، محاطين بهالة من المجد القديم المستعاد، يحيطهم التبجيل من كل اتجاه.
وسط هذا الحشد، كان من يملك ملايين، ومن يفوقهم بثروات تُقدّر بمئات الملايين، وكلّهم جاؤوا ليُظهروا الاحترام… أو ليحجزوا لأنفسهم مكانًا في الدائرة المتّسعة من نفوذ عائلة الزهراء.
لقد تغيّر كل شيء. حتى الطريقة التي يُعامل بها بشير تغيّرت.
كانت هذه الوليمة أكثر من مجرد عيد ميلاد… كانت إعلانًا رسميًا عن عودة اسم الزهراء إلى الصدارة.
عند رؤية هذا المشهد غير المسبوق، ارتسمت ابتسامات عريضة على وجوه أفراد عائلة الزهراء، امتلأت بالفرح والفخر. كان حضور هذا الكمّ الكبير من الشخصيات الرفيعة لتهنئة بشير في يوم ميلاده السبعين دلالة واضحة على أن العائلة استعادت مكانتها، وربما أصبحت أقوى من أي وقت مضى.
تعالت التهاني في قاعة الولائم، وتنوّعت العبارات:
“عيد ميلاد سعيد، سيد بشير!”
“نتمنى لك العمر المديد!”
“عافية دائمة وسعادة لا تزول!”
امتلأت القاعة بأصوات التبريكات والضحكات، وكانت الطاولات تُزيَّن بالأطباق الفاخرة والمشروبات الفوّارة، فيما راحت الموسيقى الهادئة تنساب برقيّ في الأرجاء.
كان بشير واقفًا في صدر المجلس، يبتسم برضا وهو يرى كبار الضيوف يتوافدون واحدًا تلو الآخر لتقديم التهاني. كان يعلم أن هذا اليوم سيحمل بعض المجد، لكنه لم يتوقع أن يأتي هذا العدد من الوجوه اللامعة… لقد فاق الحضور توقعاته.
وبحلول الساعة الثانية عشرة ظهرًا، كانت القاعة قد غصّت بالمدعوين. الأضواء، والكاميرات، والروائح العطرية… كل شيء بدا وكأنه أُعدّ بعناية ليُعلن مجد الزهراء المستعاد.
شعر بشير حينها بسعادة غامرة.
لقد عاد اسم الزهراء يلمع من جديد، بفضله هو، وبحكمته وقوته في إعادة لمّ الشمل.
لكن…
وفي ذروة الاحتفال، وبينما كانت الضحكات تتعالى والكؤوس تُرفع، صرخ المُرحِّب فجأة بصوتٍ مرتفع اخترق ضجيج القاعة:
“السيد رائد… وجنى، قد وصلا لتهنئة كبير عائلة الزهراء!”
صمتٌ مفاجئ خيّم على القاعة.
التفتت الرؤوس… وتجمّدت بعض الابتسامات.