رواية “البارون” وشهد قربان: عبقرية السرد وتشريح النفس البشرية بين الحب والدم
مقدمة: الأدب حين يلامس جرح الروح
في عصر تتسارع فيه الإصدارات الأدبية وتتكرر الحبكات، تبدو أغلب الأعمال كما لو كانت نسخًا مكررة من بعضها البعض، مجرّد تدوير لمواضيع سبق الحديث عنها بصيغ متعددة. ولكن بين هذا الضجيج، تظهر أصوات نادرة تُشبه الصمت العميق… ذلك الصمت الذي يخترق الداخل ويحرك شيئًا ما في القلب. واحدة من هذه الأصوات هي الكاتبة السعودية شهد قربان، التي لم تكتب لتُبهر، بل كتبت لتُوجع، لتُلامس، لتفتح أبوابًا مغلقة في أعماق القارئ.
رواية “البارون”، الجزء الثالث من سلسلة “005”، ليست مجرد تكملة لرحلة أدبية، بل هي قفزة نوعية داخل النفس البشرية، دراسة جريئة ومجردة للشر، للضعف، للحب، وللحاجة الدفينة للغفران والاحتواء. شهد قربان لا تكتب عن الحب فقط، بل تكتبه كأداة تشريح نفسي، كمرآة تعكس ما نخفيه، وما نحاول إنكاره. “البارون” عمل مميز يُعيد تعريف السرد العاطفي والنفسي في الرواية العربية المعاصرة.
من هي شهد قربان؟ صوت أدبي خارج المألوف
في العقد الأخير، برزت أسماء شابة في الساحة الأدبية الخليجية، لكن قليل منها تمكن من فرض بصمته الخاصة، وواحدة من أبرزهنّ كانت شهد قربان. وُلدت في السعودية خلال التسعينيات، وبدأت حياتها الأدبية في الفضاء الإلكتروني، على منصات مثل “واتباد” و”فنتر”، حيث نشرت أعمالها وواجهت مباشرةً تفاعل القراء وآرائهم.
شهد ليست كاتبة نمطية، بل أشبه ما تكون بمحلّلة نفسية تكتب بالقلم لا بالمشرط. شخصياتها مشروخة، متعبة، مليئة بالتناقضات، لكنها حيّة ونابضة لدرجة أن القارئ يشعر وكأنه يراها في مرآته. تتميز كتاباتها بدمجها ما بين العاطفة الحادة والمعرفة النفسية، بأسلوب واقعي لا يتصنّع ولا يتكلّف، بل ينغمس في مشاعر الإنسان حتى العظم.
أعمالها ليست محصورة في الرومانسية، بل تلامس التابوهات النفسية والوجدانية التي يخشى كثيرون الاقتراب منها. كتبت عن الصدمة، عن الطفولة المشوهة، عن العلاقات السامة، وعن الحب حين يكون طريق نجاة… وأحيانًا لعنة.
من أبرز أعمالها:
- سلسلة 005
- رواية ستوكهولم
- البارون (الجزء الثالث والأشهر من السلسلة)
سلسلة “005”: تطوّر الحكاية وصعود التوتر النفسي
1. “005” — شرارة البداية
رواية تفتتح الرحلة، وتضع القارئ أمام علاقة استثنائية بين “روبي” و”مارسيل”، علاقة لا تُبنى على الحب، بل على التهديد. مارسيل قاتل مأجور، جاف، مبرمج على القتل، ومهمته هي إنهاء حياة روبي. لكنها تنجح في خلخلته من الداخل، وتفجّر في روحه شرخًا غير مفهوم: شعور جديد… غير مرغوب… لكنه آسر.
الرواية تُعيد التفكير في فكرة “الضحية والجلاد”، وتضعنا أمام تساؤلات أخلاقية مربكة: هل يمكن للضحية أن تُحب جلادها؟ وهل يمكن للقاتل أن يجد خلاصه في من أُرسل لقتلها؟
2. “ستوكهولم” — ذروة التوتر العاطفي
الجزء الثاني من السلسلة، يأخذنا أعمق. الاسم مستوحى من متلازمة ستوكهولم الشهيرة، التي يُظهر فيها الرهائن تعاطفًا تجاه آسريهم. هنا، نشهد على تعقيدات نفسية بين “مارسيل” و”روبي”. الذكريات، التوتر، الانجذاب، الخوف، كلها تختلط وتُنتج علاقة خارجة عن التصنيف.
مارسيل، القاتل، يتحول تدريجيًا إلى شخص هشّ، يعاني من ماضٍ ثقيل. وروبي، الفتاة التي لا زالت تحاول النجاة، تبدأ في التقاط ملامح الإنسان داخله… دون أن تنجو هي من تأثيراته.
3. “البارون” — قمة الصراع وكشف الغطاء
الجزء الثالث، والأكثر درامية وتأثيرًا. “البارون” ليس مجرد استكمال، بل تفكيك كامل للشخصيات، إعادة بناء لها، ثم تفجيرها من الداخل. هنا نعرف ماضي مارسيل بالتفصيل، نواجه الشياطين التي صنعته، ونعيش ألمه، صراعه، وجنونه.
البارون: رواية أم تجربة نفسية؟
رواية “البارون” أشبه ما تكون بـ جلسة علاج نفسي عميقة، تقف فيها الشخصيات أمام القارئ عارية من كل الأقنعة. الأحداث تبدأ من لحظة انفجار، حيث روبي ومارسيل وصلا إلى نقطة اللاعودة. العلاقة بينهما أصبحت عبئًا، رغبة، حاجة، ألم، وغضب… في آن واحد.
التحوّلات النفسية:
مارسيل لم يعد الرجل الذي عرفناه. هو الآن حطام رجل، يُصارع داخله، يحاول النجاة من ماضيه، بينما يكتشف فجأة أنه بحاجة إلى أن يُحب ويُحب. هذه ليست مشاعر رومانسية، بل صراع بقاء. أما روبي، فتعيش تمزقًا داخليًا بين الانجذاب والخوف، بين الحب والرغبة في الهرب.
الأسلوب الفني:
شهد قربان تتفنن في عرض المشهد بطريقة سينمائية. كل لقطة مشبعة بالعاطفة، كل سطر يُحدث اهتزازًا داخليًا. هناك مزج عبقري بين اللغة المحكية واللغة الأدبية، بين السرد الداخلي والحوار، بحيث يشعر القارئ وكأنه يعيش داخل رأس الشخصيات.
الشخصيات: بين الجريمة والحنين إلى الطفولة
مارسيل (البارون)
رمز للدمار الداخلي. رجل يحمل في داخله طفلًا جريحًا لم يجد حضنًا، ولا حماية. ارتكب جرائم لا تُحصى، لكنه لم يفقد تمامًا إنسانيته. في “البارون”، يبدأ هذا الطفل في الظهور، يصرخ، يتألم، ويتوسل للحب… لكنه لا يعرف كيف يطلبه.
روبي
تبتعد عن النموذج النسائي المثالي. هي ليست ضحية سلبية، بل شخصية تواجه صراعاتها الداخلية بكل تناقضاتها. ذكية، عاطفية، لكنها أيضًا ضعيفة، خائفة، غاضبة. تمثل المرأة التي تحاول النجاة لا بالهرب، بل بالفهم.
الشخصيات الثانوية
- ليلى: الصديقة والعقل الواعي، تمثل ما فقدته روبي من توازن.
- جوليان وأدريان: شظايا من ماضي مارسيل، يعيدانه إلى حيث بدأت الجراح. يُجسد كل منهما شكلًا من أشكال الخيانة أو الخذلان.
ثيمات فلسفية ونفسية عميقة
- هل الإنسان شرير بالفطرة أم بالظروف؟
الرواية تُجبر القارئ على إعادة التفكير في ماهية الشر. مارسيل لم يُولد قاتلًا، بل صُنع هكذا… بالخذلان، بالعنف، بالعزلة. - الحب كقوة شفاء… وكقوة تدمير
الحب في “البارون” ليس ورديًا. هو معركة نفسية، طوفان. ينقذ ويُحطّم، يُحرر ويأسر. يظهر كأداة للغفران، لكنه يحمل ثمنًا غاليًا. - الهوية والسؤال الكبير: من أنا؟
عبر مارسيل وروبي، نتساءل: هل يمكن للإنسان أن يتحول؟ أن يبدأ من جديد؟ أم أن الماضي يحكم مصيره؟ - العدالة الشخصية مقابل العدالة المجتمعية
الرواية تسائل القارئ: هل كل مجرم يستحق العقاب؟ وهل كل ضحية بريئة بالكامل؟
لغة الرواية: جمالية الألم
شهد قربان تستخدم لغة فصيحة سلسة، تتداخل فيها الصور الشعرية مع الجمل المباشرة. لا تُغرق في البلاغة، بل تكتفي بالتصوير البصري المكثف، مما يجعل الرواية مشحونة بالمشاعر دون ابتذال. تراوح بين ضميري الغائب والمتكلم، وتستخدم الحوار الداخلي كأداة كشف وتحليل.
“البارون”: رمز القوة الزائفة
الاسم ليس فقط لقبًا، بل مرآة تعكس قناع الشخصية الرئيسية. البارون هو من يظهر قويًا، لكن كل ما فيه هشّ. تتعرى سلطته، وتتكشف أوجاعه، لنكتشف أن البارون الحقيقي ليس من يُخيف، بل من يتألم بصمت.
تأثير الرواية وجمهورها
رواية “البارون” لاقت صدى هائلًا على وسائل التواصل. انتشرت اقتباساتها، وتحولت بعض مشاهدها إلى ترندات نقاشية. المراهقون والكبار تفاعلوا معها، لأنها ببساطة تكلمت بلغة الشعور الحقيقي، دون تنميق.
هناك من اعتبر الرواية جريئة أكثر من اللازم، خاصةً في تصوير العنف والعلاقة المعقدة بين مارسيل وروبي. لكنها في ذات الوقت، لامست قلوبًا كثيرة جعلت البعض يراجعون تجاربهم الخاصة، وعلاقاتهم المؤذية، ويتساءلون: هل كنت أنا روبي في علاقة سابقة؟ وهل قابلت يومًا من يشبه مارسيل؟
“البارون” في ميزان الأدب العالمي
عند مقارنة “البارون” ببعض الأعمال العالمية، نلحظ تشابهات مثيرة:
- مع “لوليتا”: في استكشاف العلاقة المربكة بين القاتل والضحية.
- مع “المريض الإنجليزي”: في الحنين، الجراح، والحب الذي يولد من الموت.
- مع “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي: في الغوص في أعماق الجاني، وليس الضحية فقط.
لكن رغم كل هذا، تبقى الرواية بطابع عربي محلي خاص، تستلهم من المجتمع الخليجي، وتكسر صمته فيما يتعلق بالعنف الأسري، العواطف المكبوتة، وأزمة الهوية في عالم يرفض الضعف.
خاتمة: الحب كخطر… وكفرصة نجاة
رواية “البارون” ليست مجرد عمل أدبي، بل مرآة تُجبر القارئ على النظر في نفسه. تُعرّيه، وتدعوه لطرح أسئلة كان يهرب منها. بأسلوبها النفسي العميق، وجرأتها العاطفية، صنعت شهد قربان ملحمة داخلية، حيث لا توجد إجابات سهلة، ولا نهايات سعيدة تقليدية.
في “البارون”، لا شيء أبيض تمامًا، ولا أسود. فقط رماد… وحب يحاول أن يُولد من وسط الرماد.
هذا العمل هو شهادة حيّة على أن الرواية العربية قادرة على أن تكتب الإنسان، بكل تناقضاته. وشهد قربان، بهذه السلسلة، رسّخت مكانتها كواحدة من أبرز الأصوات السردية الخليجية التي لا تكتفي بكتابة قصة، بل تكتب تجربة لا تُنسى.