الفصل 196
“مـن بـاب الإنـصـاف، أخـبـريـنـا بـالمـادة الـتـي تـتـقـنـيـنـهـا، وسـنـقـوم بـاخـتـبـارك فـيـهـا. طـبـعًـا، يـجـب أن تـكـون ذات صـلـة مـبـاشـرة بـالـبـحـث الـجـاري هـنـا. ولـكـن لا تـقـلـقـي، لا نـنـتـظـر مـنـك الإحـاطـة بـكـل شـيء، فـبـمـجـرد اجـتـيـازك للاخـتـبـار فـي تـخـصـصـك، سـنـعـتـبـرك قـد كـسـبـتِ الـتـحـدي.”
قـالـت لـمـيـاء ذلـك بـنـبـرة هـادئـة يمـتـزج فـيـهـا الـكـرم بـالـثـقـة، ولـكـن خـلـف سـخـائـهـا كـانـت تـخـفـي كـثـيـرًا.
ورغـم أن كـلـمـاتـهـا بـدت مـنـصـفـة فـي ظـاهـرهـا، إلّا أن تـوقـيـتـهـا جـعـل مـن هـذا “الإنـصـاف” شـكـلاً آخـر مـن الـتـحـدي.
فـقـد كـشـفـت لـشـيـهـانـة مـا كـان يجـب أن يُـكـتـم، لا لأنـه سـر، بـل لأن فـحـواه كـان كـفـيـلاً بـتـغـيـيـر مـوازين الـتـوقـع.
إذ لـم تـكـن لـمـيـاء هـي الـخـصـم الـذي سـتـواجـهـه، بـل نـخـبـة مـن خـيـرة الـعـلـمـاء والأسـاتـذة، مـا جـعـل مـن الـتـحـدي أمـرًا أعـمـق مـمـا تـوقـعـتـه.
سامي كان يدرك ذلك. لقد شمّ رائحة الخدعة مبكرًا، وها هو الآن يندم لأنه لم يتدخل حين سنحت له الفرصة.
ففي النهاية، التحدي الحقيقي لم يكن بين شيهانة ولا لمياء، بل بين فتاة يافعة وكوكبة من العقول المخضرمة.
مهما بلغت شيهانة من الذكاء، فهي لا تزال في مقتبل العمر.
كيف لها أن تُجاري من يملكون عقودًا من الخبرة والتجريب والتخصص؟
وكأنها أُجبرت على خوض سباقٍ ضد الزمن ذاته.
ولم تكتفِ لمياء بذلك، بل قيّدت التحدي بشرط إضافي:
أن تكون المادة المختارة ضمن المجالات المرتبطة بأبحاث المختبر،
بمعنى أدق: الرياضيات، الفيزياء، الأحياء، أو علوم الحاسوب.
مجالات ليست فقط صعبة، بل تتطلب عقلًا تمرّس في استيعاب التجريد والمنطق المعقّد.
فكيف لشيهانة، بكل عبقريتها، أن تتقن واحدًا منها في سنٍ صغيرة؟
ثم… من يدعمها؟ من يقف في صفّها؟
الجواب كان واضحًا: لا أحد.
الجميع آثروا الصمت، أو التفرج…
الجميع، ما عدا واحدًا.
رجل ضخم، واقف بصمت قرب الباب، يراقبها بعينين تلمعان بفضول وإعجاب…
كان يرى فيها ما لم يره الآخرون.
كان يؤمن بأنها قادرة على أن تُذهلهم جميعًا.
لكن الحقيقة؟
أكبر داعم لشيهانة لم يكن أحدًا سواها.
هي وحدها من دفعت بنفسها لأعلى، دون يدٍ تُمسك بها إن سقطت، أو صوتٍ يُشجّعها إن خافت.
لم تُربكها ألاعيب لمياء، ولم تهتم بمن يكون خصمها.
كانت مستعدة لمواجهة أي عقل، أي مستوى، أي هجوم.
“على الأقل، ما زالت لديكِ ذرة وعي لتدعي غيركِ ينافس عنكِ… للحظة ظننت أن التحدي سينتهي قبل أن يبدأ.”
قالتها لمياء بابتسامة ساخرة، تحمل في طيّاتها سُمًّا مقنّعًا بالسخرية.
“أنتِ…”
زمّت لمياء شفتيها غيظًا، لكنها تداركت نفسها.
ربما… ربما يمكنها استغلال غرور شيهانة لصالحها.
وبثقةٍ مزيفة، تابعت:
“إذن، أخبروني… ما المواد التي سوف تختارونها؟”
سامي أجاب بسرعة:
“هي متمكنة من علوم الحاسوب والرياضيات. كما لديها اطلاع جيّد على الأحياء والفيزياء.”
لمعت عينا لمياء، وكأنها وجدت أخيرًا ما كانت تبحث عنه.
“حسنًا، سيكون الاختبار في الرياضيات وعلوم الحاسوب!”
قالت الجملة بنبرة واثقة، بينما ابتسامة صغيرة تتسلل إلى وجهها.
كانت تتوقع أن تختار شيهانة علوم الحاسوب فقط، استنادًا إلى حادثة الاختراق التي كشفت عن براعتها.
لكن الرياضيات؟ تلك ساحة أخرى، أشد تعقيدًا، أكثر شراسة.
كانت على يقين أن اختبارًا واحدًا في الرياضيات سيكون كفيلًا بإقصاء شيهانة.
معادلة واحدة فقط… معقدة بما يكفي…
وسيتم سحق ثقتها تحت وطأة الأرقام والنظريات.
ولم تكن لمياء تنتظر فشل شيهانة فحسب، بل كانت تتلذذ بتخيل تلك اللحظة.
ربما كان الأمر مسألة غيرة، أو رغبة دفينة في الهيمنة.
فكلما ارتفعت شيهانة بثقتها، كلما زادت رغبة لمياء في سحب البساط من تحتها.
لن تسمح لامرأة أخرى بأن تخطف الضوء من بين يديها.
كان التحدي سيُعقد داخل المختبر المركزي، حيث يوجد الحاسوب العملاق، المهيأ لأكبر العمليات الحسابية وأدق التحليلات العلمية.
غرفة فسيحة، عالية الأسقف، تحيط بها الشاشات والخوادم من كل جانب.
في العادة، تُجرى فيها التجارب الجماعية… لكن اليوم، تحوّلت إلى ساحة مواجهة.
وبينما تتجه شيهانة بخطًى ثابتة إلى الداخل، كان الحشد يتبعها، بشغفٍ وحماسة…
كأنهم يشهدون انطلاق معركة غير متكافئة.
العمل في المختبر لطالما كان مملًا ورتيبًا، لكن هذا اليوم؟
كان مختلفًا… مشحونًا بالإثارة.
الكل ينتظر الإجابة على سؤال واحد:
هل ستُثبت شيهانة أنها استثناء؟ أم ستغادر مطأطئة الرأس، كأي فتاة مغرورة؟
الفصل 197: المنافسة الشرسة
لم يكن أحد يتوقع أن تخرج شيهانة منتصرة من هذا التحدي.
حتى سامي—الذي دافع عنها أكثر من مرة—بدأ قلبه يرتجف من القلق، كأن الشك تمدد داخله مثل دخانٍ بطيء يحاصر صدره.
قبل انطلاق الاختبار بلحظات، اقترب منها خلسةً وهمس وهو يحدّق في عينيها بنظرة ثقيلة:
“آنسة شهيانة… لا يمكنكِ الاستمرار في هذا. من يعمل هنا ليسوا موظفين عاديين… هؤلاء صفوة العقول، والقائد نور سيتولى الإشراف بنفسه.”
أومأت شيهانة بهدوء، كأنها كانت تعرف كل شيء مسبقًا.
“أعرف، وشكرًا لتنبيهك.”
اقترب سامي، وقد ارتسمت على وجهه حيرة ممتزجة بالخوف:
“تعرفين؟ إذن لماذا قبلتِ التحدي؟”
ردّت ببساطة قاتلة:
“لأنها فرصتي. إما أن يروني كما أنا… أو لا يروني أبدًا.”
لكن سامي لم يكن يرى في هذه الفرصة سوى فخّ مغلق بإحكام.
“أنتِ تواجهين نخبة علماء هذا المختبر. طباعهم قد تختلف، لكن ولاءهم لا يتغير. القائد نور هو مرجعهم الوحيد. أنتِ ستغادرين بعد شهر، أما هم فسيبقون تحت سلطته. لن يجرؤ أحد على الوقوف في صفك.”
قالت بثبات لم يخدش هدوءه أي شيء:
“أعلم.”
تكرارها لنفس الكلمة وبنفس النبرة جعل سامي يشعر وكأنها لا تسمعه، بل تحادث قناعتها وحدها.
ومع ذلك، لم يكن يستطيع الانسحاب… ليس الآن. فمستقبله مرتبط بها. وإذا خسرت هي، فمراد لن يبقيه ساعةً بعدها.
قال بصوتٍ خافتٍ لكنه راجف:
“ماذا لو استدعينا الرئيس التنفيذي مراد؟ يستطيع أن يتحدث مع نور… يقنعه.”
قطعت كلماته بهدوء وابتسامة جانبية:
“لا حاجة. لن أُقحم أحدًا في معركتي. هذه فرصتي، وسأخوضها وحدي.”
ثم نظرت إليه نظرة حانية عابرة، وقالت:
“لا تقلق، لن أجرّك معي مهما كانت النتيجة.”
تورد وجه سامي خجلًا، وانخفض صوته المرتبك:
“أنا… لم أقصد…”
لكنه علم في قرارة نفسه أنها فهمت ما لم يستطع الاعتراف به.
وفي تلك اللحظة، ظهرت لمياء، وعلى وجهها ذلك الهدوء الماكر الذي يسبق اللدغة.
كانت غائبة لترتيب لجنة الاختبار… أو لنقل: المقصلة.
قالت شيهانة بنبرة ثابتة:
“هل يمكننا البدء؟”
أومأت لمياء، ثم فتحت الباب لتُدخِل ثلاثة رجال في معاطف رمادية طويلة، تحمل وجوههم خطوط السنوات والعلم معًا.
“قبل أن نبدأ، دعوني أُعرّفكم بمن سيختبرون آنسة شهيانة: البروفيسور يعقوب، البروفيسور يشار، والبروفيسور شـاهين… نخبة أبحاث الرياضيات في مختبرنا.”
ضجّ المكان بالهمس. حتى الهواء بدا أثقل فجأة.
سامي، الذي نادرًا ما يعارض لمياء، لم يحتمل الصمت:
“المديرة لمياء… هؤلاء الثلاثة هم أفضل علماء الرياضيات لدينا! هل من العدل أن يختبروا فتاة واحدة؟”
لكن لمياء لم تتراجع. على العكس، بدا كأنها استلذّت بالتصعيد.
قالت لمياء ببرود متعمد:
“بما أن آنسة شهيانة واثقة من نفسها لهذه الدرجة، فرفضنا لمواجهتها سيكون بمثابة إهانة لنا… ألا تعتقد؟”
لم يجب سامي. الغضب في عينيه كان أوضح من أي كلام.
أما شيهانة، فاكتفت بعبارة خافتة لكنها عميقة:
“لا تتدخل، سامي.”
ابتسمت لمياء بافتعال، وقالت:
“كما ذكرت، الأساتذة الثلاثة سيُشرفون على اختبارك. لكن لا تقلقي، طلبتُ منهم أن يكونوا… لطيفين معك، بما أنكِ ضيفتنا.”
رفعت شيهانة ذقنها بخفة، وقالت بنبرة أقرب للمزاح اللاذع:
“ثلاثة فقط؟ هذا كرم غير متوقع.”
تلاشت ابتسامة لمياء لتحل محلها نظرة ازدراء:
“ثلاثة أكثر من كافٍ… لأمثالكِ.”
ثم أردفت وكأنها تغلق الباب على أي مفاجآت:
“أما علوم الحاسوب؟ فلا تشغلي بالكِ بها الآن. اجتازي هذا أولًا… إن استطعتِ.”
ما كانت تريده واضحًا: إسقاطها أمام أعين الجميع…
الفصل 198
كانت لمياء واثقة تمامًا أن اختبار الرياضيات وحده كفيل بكسر شيهانة وإحراجها أمام الجميع. لذلك، لم تُجهد نفسها في التحضير لاختبار علوم الحاسوب، فهي لا تحتاج سوى “ضربة واحدة” مركّزة.
في نظرها، أستاذ واحد يكفي. بل سيكون أكثر من كافٍ!
لكن لمياء لم تكتفِ بذلك… بل دعت ثلاثة أساتذة دفعةً واحدة. لأن ما تسعى إليه ليس مجرد “نجاح أو فشل” في اختبار، بل إذلال كامل… إذلال مدروس!
وفجأة، قطعت شيهانة الصمت بسؤال هادئ على غير المتوقع:
“ما نوع الاختبار؟”
نظرت إليها لمياء وابتسامتها لا تحمل أي ود، بل كانت مشبعة بالتحدي:
“بسيط جدًا… كل أستاذ سيطرح عليك سؤالًا واحدًا فقط. إذا أجبتِ عليهم جميعًا بشكل صحيح، فستُعتبرين ناجحة.”
هزّت شيهانة رأسها وقالت بهدوء أشبه باللامبالاة:
“فلنبدأ إذاً.”
في تلك اللحظة، ضحكت لمياء في سرّها من “برود” شيهانة الذي لم يكن يُخفي سوى وقاحةٍ مغلفة بالغطرسة.
ثم التفتت للأساتذة الثلاثة وقالت بنبرة مريبة:
“أيها الأساتذة، لا ترفقوا بها. أنتم تعلمون، كانت طالبة في كلية الرياضيات… في أكاديمية ‘س’.”
تفاجأ الجميع!
كيف؟! شيهانة من أكاديمية “س” العريقة؟ ومن كلية الرياضيات بالتحديد؟!
ذلك المكان لا يدخله إلا من يتمتعون بقدرات ذهنية خارقة!
أُصيب الأساتذة الثلاثة بشيء من التردد؛ فتاة في هذا العمر وبخلفية كهذه؟
لكن بعد هذه المعلومة، بدأوا يأخذونها بجدية أكبر.
ما لم يعرفوه، وما تعمّدت لمياء إخفاءه، هو أن شيهانة لم تُكمل دراستها في الأكاديمية. تركتها في سنتها الثانية، وانسحبت قبل أن تتعلم نصف ما يجب أن تتقنه.
لكن شيهانة لم تذكر الحقيقة، ولم تحاول حتى تصحيح المفاهيم. بدا الأمر وكأنها تتعمّد إبقاء الغموض قائمًا.
ابتسامة لمياء اتّسعت بطريقة غير طبيعية، مزيج من الحماسة والسخرية!
“أيها الأساتذة… أترك الأمر بين أيديكم!” قالتها بحماس، وكأنها تُطلق إشارة بدء مباراة مصيرية.
تقدّم البروفيسور يعقوب بخطوة، ونظر إلى شيهانة نظرة صارمة:
“بما أنك خريجة الأكاديمية، فالسؤال الذي سأطرحه من المفترض أن يكون مألوفًا لديك. آمل أنك لا تزالين تتذكرين شيئًا مما تعلّمتِه.”
أجابت شيهانة بجفاف:
“تفضل.”
شعر يعقوب بانقباض بسيط، لكنه قرر تلقينها درسًا. تمتم:
“بعض التواضع لن يضركِ… الغرور طريق السقوط.”
توجه نحو السبورة العملاقة، وبدأ يكتب سؤالًا معقدًا، كأنما ينسج طلاسم رياضية.
أحد المهندسين الحاضرين تمتم بدهشة:
“ما هذا السؤال؟! ما أفهم شيء!”
أما سامي، الذي يتمتع بخلفية رياضية جيدة، فقد عبس وهو يتأمل المسألة:
“معقّد جدًا…”
لكن ما لفت انتباهه أن وجه شيهانة لم يتغيّر أبدًا. لا توتر. لا انفعال.
هل هذه برودة أعصاب؟ أم ثقة مطلقة؟
قال يعقوب أخيرًا وهو يلتفت نحوها:
“تفضلي، حان دورك.”
كادت لمياء تنفجر من الحماسة، وقالت بنبرة متذاكية:
“صحيح، قد يكون صعبًا قليلًا… لكنك من الأكاديمية، أليس كذلك؟ لا بد أن الأمر سيكون سهلًا عليك.”
لكن قبل أن ترد شيهانة، تدخّل البروفيسور يشار بنبرة حادة:
“لا أحد يحل هذا في أقل من ساعتين!”
قالها وهو يغلي من الداخل، فقد اضطر لترك مختبره لحضور ما اعتبره “مهزلة”.
ثم تمتم وهو يستدير للخروج:
“إذا انتهت من الحلّ، نادوني… سأكون في المختبر.”
الفصل 199
ثم استدار ليرحل، دون أن يكلّف نفسه نظرةً أخيرة.
تبعه البروفيسور شـاهين بخطًى باردة، لا تخلو من اللامبالاة. قال بهدوء:
“كذلك أنا.”
كلاهما لم يعتقد للحظة أن شيهانة تملك أدنى فرصة في حل تلك المسألة الرياضية. بالنسبة لهما، كانت المسألة منتهية قبل أن تبدأ.
لم يفهما لماذا أبدت لمياء كل هذا الاهتمام، ولماذا أصرّت على استدعائهما. فهي، على حد علمهم، كانت كفيلة بطرح سؤال الاختبار بنفسها، دون الحاجة لكل هذا الاستعراض.
قال البروفيسور يعقوب وهو يتبع رفيقيه:
“سأغادر أيضًا. سأعود عندما تُحلّ المشكلة.”
بدأ الحشد بالتفرق، كمن يشاهد عرضًا مخيبًا انتهى قبل أوانه.
بمجرد أن خُط السؤال على السبورة، أدرك الجميع أن لا شيء يُرجى من الموقف.
شيهانة كانت واقفة وحدها، تحدّق في السبورة بصمتٍ مطبق. لا ملامح على وجهها، ولا حتى إشارة إلى أنها بدأت تفكر.
ربما ستظل هكذا حتى نهاية اليوم، دون أن تكتب حرفًا.
لكن فجأة، شق صوتها الأجواء، واضحًا، قاطعًا، حادًا كالسيف:
“هذا كل شيء؟ أين السؤالان الآخران؟”
توقّف الحاضرون عن الحركة، وكأن الزمن تجمّد لوهلة.
نظرت شيهانة نحو البروفيسور يشار وشـاهين، وقالت بثقة لا تقبل التشكيك:
“كل أستاذ سيطرح سؤالًا، صحيح؟ إذن، اطرحوهما الآن. سأجيب عليهما معًا.”
شهقت إحدى الطالبات، وسُمعت همسات مترددة في الصفوف الخلفية:
هل طلبت منهما حقًا أن يطرحا سؤاليهما دفعة واحدة؟
أشار البروفيسور يشار إلى المسألة على السبورة، وقال متشككًا:
“هل تعرفين حل هذا السؤال أصلًا؟”
هزّت شيهانة كتفيها بلا مبالاة، وقالت ببساطة:
“ستعرفون عندما أُجيب على الأسئلة الثلاثة.”
ارتفعت الحواجب، وسادت لحظة صمت متوترة.
همس أحد الطلاب، محاولًا تفسير تصرفها:
“إنها تحاول صرف النظر عن السؤال الأول، تراهن على أن السؤالين الآخرين أسهل.”
أجابت لمياء بلطف، موجّهة كلامها لزميليها:
“البروفيسور يشار، البروفيسور شـاهين، لما لا تُجاريانها؟ لعلّها تُبهرنا.”
ثم التفتت إلى شيهانة وابتسمت:
“لكن تذكّري، هذه هي قواعد التحدي. عليكِ حلّ الأسئلة الثلاثة جميعها. لديكِ يوم كامل، فلا داعي للعجلة.”
همس أحدهم ساخرًا:
“ستبقى واقفة هنا حتى الغد، ولن تُنجز شيئًا…”
ردّ عليه آخر بنبرة حالمة:
“أو ربما… تحلها كلها أمامنا.”
نظر الأول إليه بدهشة:
“أتصدقها؟ هذه المسألة وحدها لم يستطع أحد منا حلّها.”
ابتسم رجل يقف في الخلف، ابتسامة واثقة، وقال:
“سمعتُ أنها عبقرية في علوم الحاسوب. والرياضيات ليست بعيدة عن ذلك. ربما تُفاجئكم.”
ردّ الآخر وهو يعبس:
“لكن هذا مجرد غرور.”
لم يُجبه الرجل، لكن ابتسامته لم تفارقه.
في داخله، كان يضحك بسخرية من الحشود من حوله.
عقول محدودة، لا تملك حتى القدرة على تمييز العبقرية حين تكون ماثلة أمامها.
لقد كان ينتظر تلك اللحظة… لحظة الانقلاب.
قالت شيهانة أخيرًا، بنبرة هادئة لكنها تحمل وعدًا خفيًا:
“بالتأكيد، سأحلّها جميعًا. أعطني الأسئلة الثلاثة دفعة واحدة. لا أرغب بإضاعة وقتي.”
نفخ البروفيسور شـاهين في الهواء، ساخرًا:
“فخر الشباب هذه الأيام…”
ثم أكمل، وهو يتقدّم نحو السبورة:
“بما أنكِ طلبتِ ذلك، فلننتهِ من هذا سريعًا.”
رفع الطباشير وبدأ يكتب.
في لحظات، ملأ سؤاله نصف السبورة. سؤال معقّد، متشابك، كُتب بثقة المتحدّي.
وعندما أسقط الطباشير، خيّم الذهول على المكان.
السؤال بدا أصعب من الأول بكثير، وعلامات الحيرة ازدادت على الوجوه.
عدد أولئك الذين شعروا أن لديهم فرصة لفهم السؤال تقلّص.
وحتى من فهمه، علم أنه سيستغرق وقتًا طويلاً في محاولة حلّه.
الفصل 200
ولم يكن أيٌّ من السؤالين سهلًا.
وفي تلك اللحظة، امتلأت النظرات الموجَّهة إلى شيهانة بالشفقة.
كل من في القاعة اعتقد أن مصيرها قد حُسم.
اليوم، على الأرجح، ستخسر.
كان الأمل الوحيد ألا تكون التحديات التي طرحها البروفيسوران قاسية إلى حد تدمير ثقتها بالكامل.
فعلى عكس لمياء، لم يكن الهدف من الاختبار كسر معنوياتها.
لكن شيهانة فاجأت الجميع حين رفعت رأسها وقالت بثقة هادئة:
“السؤال التالي، من فضلك.”
همس أحد الواقفين في الخلف وهو يراقبها:
“يبدو أنها ترمي بالمقبض خلف النصل…”
تعبير معروف بين أهل الحرفة، يُقال عمّن يندفع في مواجهة الخطر دون تراجع.
وسرعان ما راودت الفكرة الجميع:
بما أنها لا تستطيع حل أيٍّ من المسألتين السابقتين، فربما الأفضل أن تُكتب المسائل الثلاث على السبورة لتُواجهها دفعة واحدة… كأنها تسعى لاختصار لحظة الفشل.
وربما، فقط ربما، يشفق الأستاذ الأخير ويمنحها سؤالًا أبسط.
ولم يكن مفاجئًا أن البروفيسور يشار، الذي شعر بالشفقة نحوها، قرّر أن يمنحها مسألة بسيطة.
وهو يضع الطباشير، قال بنبرة ساخرة مغلفة باللطف:
“بالتأكيد، أنت تعرفين هذا السؤال.”
انتهزت لمياء اللحظة، وقالت بصوت رقيق يحمل نبرة تلميح واضحة:
“أستاذ يشار، كم أنت لطيف!”
كان واضحًا للجميع أن ما عنته في الواقع هو العكس تمامًا.
ابتسمت شيهانة بهدوء، وقالت بنبرة رصينة:
“أُقدّر اهتمام الأستاذ يشار. هذا السؤال بسيط جدًا.”
وسرعان ما بدأت الهمسات تتصاعد في الحشد.
“هي فتاة مغرورة.”
“الجميع هنا يعرف حل هذه المسألة!”
“هل وصل بها الغرور أن تتحدث الى الاستاذ يشار هكذا؟”
وما إن ساد الازدراء، حتى قطعت شيهانة الهمسات بقولها الواثق:
“ولكن، من باب الإنصاف… أستاذ يشار، من فضلك، قدّم سؤالًا حقيقيًا.”
سادت الدهشة.
هل سمعوها جيدًا؟ هل طلبت بملء إرادتها سؤالًا أصعب؟
هل فقدت صوابها؟ أم أنها… تخفي ما لا يتوقعه أحد؟
نظرت لمياء إليها باستغراب ممزوج بعدم التصديق، ثم قالت بفتور:
“آنسة شيهانة، من المهم أن يعرف المرء حدوده.
الأستاذ يشار يمنحك فرصة لتخفيف حدة الموقف. لا حاجة للتكبر.
الإجابة الصحيحة على سؤال واحد أفضل من الفشل في ثلاثة، أليس كذلك؟”
لكن شيهانة رفعت نظرها بثبات، وردّت بنبرة حاسمة:
“لقد استُدعيتم لأنكم أردتم أن تمنحوني تحديًا عادلًا.
فإن كان كذلك… فلا داعي لأن تقدموا لي شيئًا سهل.”
شحب وجه لمياء، وظهرت ابتسامة غاضبة على شفتيها.
قالت بتهكم:
“حمقاء عنيدة! أستاذ يشار، يبدو أن لطفك غير مُقدّر. من الأفضل أن تُعيد صياغة سؤالك.”
لم يكن البروفيسور يشار بحاجة إلى سماع طلب لمياء..وبسبب شعوره بالغضب من سلوك شيهانة المغرور..عاد إلى السبورة، عازمًا هذه المرة على كسر كبريائها.
ما كتبه كان مسألة معقدة للغاية، تفوق في صعوبتها ما طُرح سابقًا.
امتلأت السبورة بالرموز والمعادلات، وتحوّل صمت القاعة إلى دهشة مطبقة.
حتى زميلاه، اللذان طرحا السؤالين الأولين، بدا عليهما التأمل والتفكير العميق في السؤال الجديد.
كان المشهد كمن يشهد حُكمًا بالإعدام يُنفذ على الملأ.
“ها أنتِ، كما أردتِ… الأسئلة الثلاثة أمامك.”
قالها يشار بصوت جاف، ثم أضاف بسخرية:
“تعالي… وحلّيها. كما قيل: الكبرياء يسبق الهلاك، يا آنسة.
قليل من التواضع يُغني عن كثير من الألم.
هل تظنين حقًا أن الرياضيات لعبة؟”
ضحكت لمياء باستهزاء وقالت بصوت مرتفع:
“شيهانة، بناءً على طلبك، ها هي الأسئلة الثلاثة على السبورة. أبهرينا إن استطعتِ.
أما إن عجزتِ، فأنصحك بجمع أشيائك والانسحاب بهدوء. لقد أضعتِ وقتنا بما فيه الكفاية.”
ضحك أحد المهندسين الواقفين بجانبه، وقال:
“أراهن أنها لا تعرف حتى من أين تبدأ!”
هزّ رفيقه الأصغر كتفيه وقال باستهزاء:
“كان من الأفضل أن تغادر حين أتيحت لها الفرصة.
لكن، كما ترى… الأحمق المغرور لا يتعلم إلا بالطريقة الصعبة.”