رواية سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة كاملة وحصرية حتى الفصل الأخير (الفصل ٣٠_٣١) حصري على موقع دريمسيز

Prewedding

هذه الرواية حصري على موقع دريمسيز، ممنوع النسخ منعاً باتاً نظراً لحقوق الملكية الفكرية ومن يخالف ذلك سيخضع للمسائلة.

*في سجن الجزيرة تحديداً غرفة مبيت القائد.
عدل “أريان”من وضعية جلوسه على التخت وهو يقترب إلى الشاشة يمعن النظر بها، متسائلاً من هنا يرقب من؟!

فعندما ابتسم منذ ثوان رآها تدفن وجهها في ركبتيها بخجلها المعهود منذ أن كانا يجلسا معاً على درج البناية.

فعندما كان يشخص بها مبتسماً مثلما حدث الآن، تخفض رأسها بنفس ردة فعلها هذه، ومن ثَمَّ ترفع وجهها البشوش إليه، وهي ترجع بعض من خصلات شعرها التي تمردت ساقطة على وجهها خلف أذنها كما فعلت تواً.

سيجن حتماً!!
لم تتم ليلتها هنا وها هو يصبو إليها وهي أمام ناظريه، روحه تهفو إليها ولم يمر على لقائهما المباشر بضعة ساعات، عقله مشتت بين ما كان وما قالت.

الكثير من التساؤلات لا يعرف لها إجابة!!
لِمَ ابتعدت طالما كانت ولازالت تحبه على حد قولها؟!

ماذا كانت تفعل بسنوات البعد مادامت لم تتزوج ولازالت عذراء حتى الآن وقد تخطت الثلاثين؟!

كيف كان حبها له سبباً بإحالتها إلى هنا؟!

أي جنون هذا؟!

تأفف بضجر وشعر بأنه مكبل؛ فلا يوجد إشارة اتصال بقطعة الخردة التي بين يديه، ولا يقدر التواصل مع العالم المحيط بسبب ذلك اللعين الذي برغم بهاظة ثمنه وحداثة إصداره إلا إنه الآن بلا قيمة، قذف “أريان” الهاتف الذي بيده على الفراش.

يهز رأسه بيأس فحتى عندما كان بإجازته، انشغل بعرض هذا الحقير “نك”، ولم يشغل باله بمتابعة أي من الأحداث الدائرة لا على مواقع التواصل ولا عبر شاشة التلفاز.

كما أن المتهمين في قضايا مماثلة يتم الحكم عليهم بأسرع وقت؛ حتى لا يثار الرأي العام على الحكومة من قبل المعارضين.

ويتم ترحيلهم على الفور إلى السجون المخصصة لعتيدي الإجرام كصرحهم هذا، وذلك يعني أنه تمت محاكمتها على وجه السرعة.

أنزل قدميه عن الفراش يعدل من وضعية شاشة الحاسوب،وهو يستقيم من مجلسه يزرع الغرفة ذهاباً وإياباً وعيناه مرتكزة على الشاشة، ولكنه توقف عندما وجدها تعتدل في جلستها تنزل قدميها أرضاً، وهي ترتكز بعينيها على عدسة الكاميرا ومن ثم أخرجت لسانها له.

“أريان” وهو يزأر باستشاطة، قائلاً بحنق وهو يدب الأرض بقدميه غيظاً:

-تبا لك “سو”، تعلمين أنني أكره تلك الحركة.

وقبل أن يكمل وجدها ترفع يديها معاً كعلامة استسلام، فاستطرد قائلاً:

-أكره تلك الحركة إلا منك.

وعندما خرجت جملته الأخيرة من بين شفتيه، ألقت له قبلة في الهواء تماماً مثلما كانت تفعل بالماضي.

أغلق آخر زرين بقميصه المفتوح في عجالة ملتقطاً سترة بذلته يرتديها سريعاً، واضعاً قبعته الرسمية على رأسه بحدة، يخرج من غرفته متوجهاً إلى مكتبه.

وهو يكمل إغلاق الأزرار المتبقية ملتقطاً سماعة الهاتف الداخلي يضغط الرقم سبعة الخاص بخط غرفة التحكم، قائلاً بكلمات مقتضبة:

-اوقف باقي الكاميرات.

ثم أغلق الخط دون انتظار الرد، اندفع يغلق باب المكتب خلفه بقوة، يقطع الأرض أسفل قدميه بخطى واسعة، لا يلتفت لهذا ولا ذاك ممن قابلهم في طريقه إليها وهم يؤدن التحية العسكرية فقط إيماءات وقورة، والجميع يتساءل ما به قائدهم اليوم؟!

تخطى المبنى الإداري بعد هبوطه بالمصعد، يجتاز البوابة التي تفضي إلى الساحة الخاصة بالنساء، ومنها إلى المبنى المتواجدة به صغيرته المشاغبة، الذي يحرسه ثلاثة جنود مسلحين.

وقف لقدومه ثلاثتهم انتباه يرفعون يدهم بالتحية، مندهشون؛ لمجيئه في تلك الساعة.

ولكن لم يجرؤ بالطبع أياً منهم على سؤاله، أشار “أريان” للحارس بفتح البوابة الخاصة بالمبنى، ونفذ الآخر على الفور دون كلمة.

وبالداخل قابلته المسئولة عن هذا القسم، تهب واقفة من جلستها على الكرسي خلف مكتبها تؤدي التحية بدورها، فقد كانت تتابع شاشة المراقبة الخاصة بطوابق القسم الذي تخفره، تعبث بها وبوصلاتها ويبدو على ملامحها الاقتضاب والانزعاج.

سألها “أريان” بتلبك:

-ماذا… أعني كيف تسير الأمور هنا؟

ارتعدت أوصالها خوفاً، وعقلها توقف عن العمل، فحتماً لم يأتي القائد إلى هنا؛ ليستفسر عن اللاشيء فبالتأكيد وقع خطب ما في الدقائق القليلة الماضية أثناء انقطاع التيار فجأة عن هذا القسم فقط.

وعندما عاد جاءت لتدير الشاشة وجدت أنه لا يوجد إشارة بث وكل ذلك خلال جزء من الثانية، وها هي منذ دقيقتين فقط قبل قدومه تحاول معرفة ما إذا السبب في العطل، واحد من تلك الأسلاك المتصلة، ولكن دون جدوى فلم تتوصل إلى السبب حتى الآن.

أجابت بتهتهة، وهي تخلي مسؤليتها:

-سيدي القائد يبدو أن هناك خطب ما، فقد انقطع التيار منذ دقيقتين، وعندما عاد وجدت أن الشاشة الخاصة بالمراقبة معطلة.

تنفست الصعداء عندما أجابها، قائلاً:

-لا داعي لهذا التوتر، اعلم ذلك، لقد وردني الخبر من غرفة التحكم؛ لذا قررت المرور بنفسي لمتابعة الوضع
-هل هناك أحد غيرك في هذه النبطشية؟

فأجابت على الفور بنفي:

-لا سيدي القائد، هل يجب أن استدعي دعماً من سكن المبيت؟!

“أريان”:

-لا فقد أحاطوني أنها مشكلة بسيطة سيتم حلها في أقل من ساعة.

  • أين المفاتيح الخاصة بالأدوار؟

مدت يدها إلى أحد أدراج المكتب، تفتحه مخرجة الميداليتين الخاصتين بمفاتيح جميع الطوابق والعنابر تناوله إحداها، تستدير حول مكتبها لترافقه أثناء التفتيش كل المعتاد.

فأشار لها بالتوقف قائلاً:

-الزمي موقعك، هذه حالة طوارئ، لربما يحدث شيئاً، فتكوني بجوار جهاز الإنذار لتطلبي الدعم على فوراً.

أجابت بامتثال:

-عُلم سيادة القائد.

بسط “أريان” يده إليها قائلاً باختصار:

-مفاتيح العنابر.

وبالطبع ناولته الميدالية الأخرى، وتوجه  إلى الدرج يصعده بكل رزانة ووقار، وما إن اختفى عن أنظار الحارسة، أخذ يرتقي الدرج بتعجل يقطع كل درجتين بخطوة، فسكنات السجناء لا يتوفر بها مصاعد، وعنبر مجنونته بالدور الثامن.

وصل إلى الدور الرابع وتوقف ينظر من أعلى الدرابزين يعد الأدوار التي صعدها بانزعاج؛ فلازال هناك أربعة أدوار إضافية، حنقه ليس بسبب المجهود المبذول للصعود.

ف”أريان” يتمتع بلياقة بدنية ورشاقة عالية، ولكنه اشتاقها منذ أن ابتعد عن الشاشة التي كانت تقلل من لوعة صبوه إليها عندما يرى صورتها تزينها.

الثواني التي استغرقها في صعود الأدوار الأربعة الأخرى بدت له ساعات، وها قد وصل إلى بوابة الدور المنشود.

تمهل ينظم أنفاسه الثائرة، ويعدل من هيئته وثيابه، مخللاً أصابعه بين خصلات شعره القصير باعتدال يهندمها، وكأنه مقدم على مقابلة القائد الأعلى للقوات المسلحة وليس مسجونة تحت رهنه وبسطوة القانون، وها قد انتهى من تأنقه.

لكن بعد أن رمق الميداليتين بيده سب لاعناً كل الأبواب والحواجز التي تحول دون لقائها، متمتماً بحنق:

-تباً هل علي أن أختبر كل تلك المفاتيح؛ لأعرف أيهم سيفتح هذا  fucking door ؟!

استكمل لاعناً حاله تلك المرة:

-ما بك “أريان”؟! منذ أن رأيتها، وقبل أن تراها، بل عندما لمحت اسمها بذلك السجل وأنت مصاب بخلل دماغي وكأنها هكر سطى على كل إعدادات عقلك!! اثبت “أريان” ستضيع هيبتك يا قائد.

-عاود النظر لما بيده، مستكملاً حديث الروح هذا:

-لابد وهناك شفرة، طريقة تحفظ بها الحارسة أي من بين هذه المفاتيح يناسب كل باب، فهي لا تستغرق وقتاً أثناء مروري الأسبوعي أو التفتيش الشهري؛ لتتعرف على ما يتناسب مع قفل كل باب.

أول ما ورد بخاطره أن تكن تلك المفاتيح مرتبة من اليسار إلى اليمين أو العكس حسب ترتيب الأدوار فكلها متماثلة ولا يوجد اختلاف بينها؛ لتتمكن من تمييزها عن بعض.

أخذ الثامن بالترتيب من جهة اليسار ودسه بالقفل يديره داخله، ليُفْتح الباب ويُفْرَج أول همومه، بقى عليه التعرف على شفرة أبواب العنابر.

نظر إلى الميدالية الأخرى بتفرس وجد أن بين كلاً منها خرزة تفصل كل عشرة مفاتيح عن بعضها، وبحسبة بسيطة كل دور به عشرة عنابر، وهي تشغر العنبر السادس بالدور الثامن، فالمفتاح السادس والسبعون من جهة اليسار هو المقصود أي بعد سبعة خرزات بستة مفاتيح.

التقط المفتاح من بينها مُدَلياً البقية، يدخل إلى الرواق وكل عنبر يمر أمامه يجد من مستيقظة منهن به، تقترب إلى باب عنبرها تستكشف سبب قدوم القائد إلى هنا على غير توقع، مخرجةً رأسها من بين القضبان تستطلع بفضول.

حتى توقف عند باب عنبرها، يقول بصوت جهوري، اهتزت لقوته جدران المبنى بكامله:

-على كل واحدة منكن التزام سريرها وفي أقل من ثانية.

هرج ومرج شاب الأجواء لثانية أو اثنتين على الأكثر؛ إثر تنفيذهن للأمر فكل واحدة منهن هرعت إلى مضجعها، تدثر نفسها أسفل الغطاء، وبعدها ساد القسم بأكمله السكون التام لدرجة أن الهامس به سيستمع لصدى صوته يصدح بالمكان.

لكن هي وآه من هي!!

صوته الذي أرعبهن أدخل إلى قلبها الراحة والسكينة.

لم تتفاجئ بقدومه بالعكس كانت تنتظره، بل واستغيبته، فوقفت بتمهل تقترب من الباب تناظره بشغف وما إن أصبحت أمامه مباشرةً أطرقت رأسها لأسفل قائلة باحترام وصوت خفيض بالكاد التقطه:

-هل علي الخلود إلى فراشي الآن سيدي القائد؟! فأنا لا أعرف القوانين واللوائح هنا؟! عذراً.

اقترب يدس المفتاح الخاص بعنبرها بموضع القفل، وهو يدنو برأسه من بين فتحات القضبان يتأملها بوله شرس، بنظراتٍ تحمل الشيء ونقيضه، ناقم عليها وعلى نفسه وعلى الوضع ككل، وفي ذات الوقت قلبه ينبض سعادة لرؤياها أمامه، أما هي لازالت مطرقة الرأس.

“أريان” قائلاً بهمس:

-سأحرص على تلقينك اللوائح بنفسي.

وعندما رفعت رأسها إليه بعد تعقيبه هذا، أخفض نظره عنها مدعياً الانشغال بما تعبث به يده.

فتح الباب، يقتحم العنبر دافعاً الباب خلفه بقدمه، وهو يقبض على ذراعها يدفعها أمامه للداخل، يتوارى بها خلف حائل خشبي يوجد بكل عنبر، تقوم كل سجينة منهن بتعديل أو تغيير ملابسها خلفه.

كما يوجد وراءه مكان مخصص لقضاء حاجتهن محجوب بستارٍ جلدي، وتبقى المساحة خلف هذا الحائل صغيرة نوعا ما، ولكن بكل الأحوال تفي بالغرض.

“أريان” بشراسة بعد أن أقحمها عنوة داخل تلك الكابينة يحتجزها بينه وبين الحائط، يفحها حديثه القائظ من بين أسنانه، وهو على مقربة منها.

بينما تتطلع هي إلى وجهه مدققة النظر بكل تفصيلة في ملامحه، حتى تلك التجعيدة السطحية بين حاجبيه، والتي من المفترض أن تكون علامة لتقدمه بالسن ولكنها تراها علامة نضوج وهيبة.

“أريان” بغيظ:

-أنتِ!! إلام تريدين أن تصلي بأفعالك تلك؟! ها!! أجيبيني؟!

ولكنها لم تجب بل رفعت يدها لتتلمس سبابتها  تلك التجعيدة بجبينه هبوطاً إلى أنفه مروراً بشفتيه.

أما هو فبفعلتها تلك أثارت بداخله استجابات حسية أثلجت بداخله مشاعر، وأشعلت أخرى تضرب حنايا قلبه توقد بداخل صدره مراجل من الأحاسيس المحتدمة التي لا تواتيه إلى بقربها، هي فقط دوناً عن بني جنسها من النساء.

فقد تبخرت بداخله مشاعر الغضب، واستعرت بداخله نيران الوجد والشوق، وعيناه تتابع ما يفعله إصبعها، وهو يشد على عضلات وجهه وجسده حتى لا يبدو عليه أية استجابة.

حسناً لقد نجح في إبراز ثباته الظاهري، فماذا يفعل بالدفوف التي يعلو رتم إيقاعها دون رغبته ولا حول له في ذلك!!

صمت ونظرات وأنفاس ودقات وأنين مكتوم لقلبين وروحين وجسدين يعبث بهما الوصب.

خفضت بصرها إلى صدره تأشر بعينيها جهة اليسار، عائدة بنظرها إلى عينيه مرةً أخرى، تقول بصوتها الناعم:

-“أريان” هنا ينبض بقوة!!

و”أريان” تائه بها، لم يفسر جملتها هل كانت سؤال أم تعجب أم إقرار لواقع.

فاستكملت تقول وأنفاسها القريبة منه قد فعلت به الكثير، القليل منه لا يوصف فكيف يصف شيء مبهم لا يفهمه:

-“أريان”، قلبي يؤلمني “أريان”، أشعر بروحي تنزف!!

انتقل ألمها إليه بمسمعه لشكواها، أو ربما ألمها يوجد مثيله بداخله، ولكن بلفظها لما تعانيه ضغطت على موضع الألم لديه تحيي وجعه.

أغمض عينيه ولم يجب، يزفر أنفاسه ببطئ، يشعر بروحه تسلب من جسده تصيبه بالوهن والضعف، غير قادر على الثبات.

فاستند براحته إلى الجدار خلفها تاركًا مسافة بينهما، ولازال يسبل جفونه يرفع رأسه لأعلى وحالة ضياع تملكته، عندما رفعت كفيها تتمسك بسترته بقبضة مستميتة.
كغريق يتشبث بلوح سيحول دون موته، ولكن تثاقل تلك القبضة تشبه تخاذل جسد هذا الهالك في مقاومة أمواج متوالية في نوة شتاء عتية.

وصوتها الذي تسرب إلى أوردته أشعره بصقيع ووحشة، وهي تقول بوهن وضعف وقد اختنقت نبراتها بالعبرات:

-ألمي ليس من وجودي بالسجن هنا، سجني معك جنة ورحمة من وجودي بعيد عنك حرة، ألمي من كرهي لنفسي “أريان” من غبائي ومكابرتي، ما عدت أقوى بدونك.

تلاشى صوتها وهي تميل مستندة بجبينها إلى صدره فهناك فارق في الطول بينهما، ولازالت متشبثتة بثيابه، ينتفض جسدها برهبة وضياع استشعره من رعشة يدها القابضة على سترته.

لم يقترب ولم يلمسها بل أخفض رأسه الشامخة ليحط بذقنه أعلى رأسها.

وبداخله حيرة مؤلمة لا يعرف ماذا يفعل؟!
يريد أن يحتويها بين ذراعيه يطمئنها، ولكن عقله وكرامته التي سحقتها يأبيان ذلك.

وكأن حركة رأسه تلك كانت تصريح منه لها بالاقتراب، فأفرجت عن السترة، تحاوط خصره بذراعيها وتمسُكِها به يشبه انتفاضة لجسد قد أنهكته المقاومة ونُفِخ فيه الأمل ليُحيي داخله عشق الحياة.

آهة ألم لكبرياء هُدِر بدرت عنه، عندما احتضنته إليها.

خنجر الخذلان والغدر لازال مغروزًا بجرح كرامته للآن، لا يقدر على الصفح، ولا يقوى البعد ولا حتى بإمكانه أن يُبدِ الجفاء والزهد.

وكيف لقلب يشعر بالعوز وروح جائعة لها وجسد يهفو لكل ما بها أن يزهدها وينفرها حتى ولو بالإدعاء.
مد يده كي_
من يواسي من؟! الظالم يطلب الدعم من المظلوم، لقد جَنَت عليه بغدرها به.

الفصل ٣١…

قلبه يؤلمه منها وعليها، رؤيته لها بهذه الحالة من الضعف والانهيار، جعله كوحش كاسر تمكن منه مهاجمه غارزاً نصل سلاحه ذو الحدين بشراسة في مقتل وأداره بوحشية؛ ليخلف جرحاً عميق لا يندمل.

هبط كفه المستند إلى الحائط، يقبض بكلا راحتيه على كتفيها، رافعاً رأسه عنها، يبعدها عنه بجفاء تقمصه، قائلاً:

-كفاك تصنعًا، اللعنة “سو”، ألم يكفيك ما فعلته بي؟! فجئتِ؛ لتدمري ما بنيت!! لم وضعك القدر في طريقي الآن، بعد أن أخرجتك من ذاكرتي وكأنك لم تكوني!!

بعد أن قابلها بهذا النفور ابتعدت عنه مرغمةً، تستند بظهرها إلى الحائط خلفها، تضغط جفنيها وكأنها تجبر عينيها على أن تكف دمعها، يكفيها ما جعلته يعانيه

فهي تعلمه جيداً، ما يفعله معها الآن ليس بغضاً، إنه استياءٌ وخزلان؛ فلن تزيدها عليه بعد الآن.

أما هو فصمتها هذا زاد من ثورته، فامتدت يده تقبض على فكها بشراسة.

وقد جحظت عيناها بعد أن انفرجت أهدابها بتشوش وتفاجئ بعد فعلته تلك ولكنها لم تقاوم، وتركته يِفرِّغ ما به من قهرٍ ؛ عله يستريح ويهدأ لهيب عذابه الذي تستشعره الآن.

“أريان” بحنق:

-لا تصمتي هكذا! اجيبيني؟!

اختنق صوته مستكملاً بلوعةٍ مضنية:

-لِم رحلتي “سو”؟! لم تركت…

توقف الحديث على طرف لسانه، وأبى كبرياءه استكمال سؤال، إجابته فيها خلاصه من عذاب وحيرة خالجته لسنوات.

نفض يده عنها، يواليها ظهره، وهو يمسح على وجهه براحة يده، زافراً بحنق، ثم تخصر بكلا يديه، يغمض عينيه مطرقاً رأسه أرضاً.

بينما تحركت من خلفه بجسد واهن، وخطى خائرة تتجاوزه، متوجهةً نحو سريرها، تستند إليه، ومن ثم مالت بجذعها تضجع على جانبها، متقوقعة على حالها تأخذ وضعية الجنين يدٍ تتوسدها، والأخرى تقبضها ضامةً إياها إلى صدرها، وهي مغمضة العينين، ودموع القهر تجري على خديها بصمت.

-لا “سو”، لا حبيبتي، لا تفعلي هذا بحالكِ وبي، أقسم أني أموت صغيرتي، فقط لو تتحدثي!! اريحني من تلك الحيرة، قولي إنك لم تحبينني كما أدمنتك “سو”.

لم تجب لأن رجاءه واستجداءه راوده وآلمه، ولكن لم تنبث به شفاهه، لم يقل ولكنها استمعت، قلبها ذلك الذي لم يُطأه خيال رجل غيره يشعر به.

تنهيدة ألم لفظها صدرها، والآخر يقف بمنتصف العنبر، عقله يحثه على الإبتعاد فلا جدوى من البقاء أو معرفة السبب.

ولكن قلبه مسيطر تلك المرة، فقد تسمرت قدماه بأرضه، وإحساس القيد والضياع هذا ينفره.

زأر برفض يحث ساقيه على الحراك، مكوراً قبضته يضرب بها الحائط إلى جواره بقوة وشراسة، خارجًا بخطى وطيدة، يغلق الباب خلفه بحدة يوصده من الخارج.

ابتعد، بل هرب وخليط غير متجانس من المشاعر يستنزف روحه، هبط الدرج بتثاقل مميت وكل درجة يتخطاها ينظر خلفه بتردد، والدرج الذي اعتلاه في دقائق بدى له رحلة الألف ميل.

بينما في غرفة الكشف.

“ريكا” بتساءل وقح وكأنه يسألها عن حالها اليوم:

-سمرائي!! أنت لازلت عذراء أليس كذلك؟!

انتفضت تبتعد عن أحضانه واتسعت عيناها بذعر، وأحمرت وجنتيها خجلا،ً وتشتت عقلها؛ لسؤاله الوقح هذا.

وهبت واقفة، تشهر سبابتها بوجهه، قائلة بتساؤل أكثر منه تحذير:

-لِم تسأل؟! إياك وأن تكن استغليت الموقف وقمت بأفعالك الوقحة تلك.

لمعت عيناه بإعجاب؛ فسمرائه قطة شرسة بمخالب ناعمة، دهش لجرأتها على مخاطبته بتلك الطريقة، فلا أحد بالسجن هنا من سجناء وضباط وكذلك القائد بنفسه وقد رأت بعينيها سولت له نفسه أن يقدم على فعلة كهذه.

ويقف أمام الداهية يناطحه بالحديث، أو يرفع إصبعه لا بل عينيه إليه بتحذير كما تفعل هي الآن.

وللحق رهبة تملكتها بعد ما قالت، ولكن الثبات الذي تحاول إظهاره الآن لا يمت لباطنها بشيء، وأخذت تأنب نفسها على ما زلف به لسانها.

فبالأخير هي المخطئة كيف لم تنتبه على حالها؟!
وغفت إلى جواره على السرير، هي من تستحق النهر والتوبيخ، فما ذنبه هو!!

بينما على عكس العادة لم يغضب أو يثور، وإنما قبض على إصبعها فجأة، يقترب لاثمًا طرف أنملتها، فسرت بجسدها رجفة لذيذة، أدت إلى إثارة ضجة بمشاعرها وربكة في التفكير.

رفع بصره إليها يعض على شفته السفلية قائلاً بصفاقةٍ ودون حياء:

-لم أستغل سمرائي، ولكنني أتوق لأستمتع بتلك الشراسة بوقاحة.

شهقت بحياء وخجل وهي تنفض يدها منه، تدعي الثبات وعدم المبالاة، مبتعدة عنه تواليه ظهرها قائلة بعملية:

-استرخِ من فضلك حتى أفحص مؤشراتك الحيوية.

بعد التفاتتها تلك، وخطواتها التي حرصت على الحفاظ على جديتها ووقارها، ولكن ما شأن الوقار بتلك المنحنيات المثيرة التي جالت عيناه بتفحص تستكشف مدى توازن المحيط والكتلة مع شدة الجاذبية.

“ريكا” مغمغمًا:

-أوف “غادة”، يالا دقة المنحنيات!!

التفتت برأسها تناظره من أعلى كتفها، متسائلة فهي لم تستطع تفسير ما قال، ولكن وجدته يمعن النظر إلى أماكن محظورة، فالتفتت بكامل جسدها تواجهه، زاجرة إياه بنظراتها، قائلة بحدة:

-هااي، أنت، إلام تنظر؟!

رفع رأسه، وعيناه ترمي انحناءات الخصر والصدر متطرقة إلى الشفاه وتلك العيون، يصوب نظره إلى مقلتيها، قائلاً ببراءة:

-ما بكِ سمرائي؟! ماذا فيها إذا نظرت؟! فقط أحاول التركيز حتى أتمكن من رفع المقاسات بدقة.

وقبل أن تنطق أو تعترض، وجدت من يطرق الباب بشدة، وشخص ما يحاول إدارة المقبض من الخارج ولكنه عالق، فنظرت إلى الباب باضطراب.

وداخلها يتساءل:

  • من المفترض أن يكن الباب مغلقاً، لكن ليس موصود، وإن حدث وأحكم أحد إغلاقه فلابد وأن المفتاح بالباب من الخارج!! إذا لِم لَم يفتح الطارق ويلج؟!

تقدمت نحو الباب؛ لتستكشف ما في الأمر، ناظرة إلى معصمها لتعلم كم الوقت الآن وأثناء ما هي مطرقة الرأس وقعت عيناها على مفتاح ملقى على الأرض، مالت بجذعها إلى الأمام؛ لتلتقطه.

وهو يناظرها بتسلية، عائداً إلى استلقائه، مستنداً بنصف جلسة إلى ظهر السرير، يرفع ذراعيه ليعقد كفيه خلف رأسه، باسطًا ساقيه أمامه مسند مرفق قدمه أعلى الأخرى.

وكأنه مسترخيًا على شاطئ البحر، منسجماً مع الطبيعة، وللحق المناظر الطبيعية التي يتأملها أمامه الآن أكثر متعة وإثارة.

أطلت برأسها من فتحة الباب، فوجدت أنه “أريان” ولكن ما به عابس هكذا؟!
فمن يراه يظنه عائد تواً من معركة حربية قد خسرتها صفوف قواته، جالباًً معه الخزي والهزيمة.

“أريان” بتأفف:

-افتحي دكتور “غادة”، لم تغلقين الباب من الداخل؟!

“غادة” بتلبك، وقد تكهنت أن المفتاح الذي بحوزتها هو ذاته المفتاح محل الخلاف، فدسته سريعاً بموضعه بالباب تديره، فاتحة وصده:

-لم أغلق.. أعني لقد أغلقته من الداخل بالخطأ عندما دخلت تواً.

ثم نظرت تجاه ذلك المتابع بمرح، تستجديه المساندة، تضيق عينيها برجاء، قائلة:

-أليس كذلك “ريكا”؟!

جاهد في تمالك حاله حتى لا ينفجر ضاحكاً على من كانت تقف أمامه منذ قليل، تخاطبه بنبرة تحذيرية، هو الزعيم الداهية تقف أمامه امرأة لا وتحتد عليه بالحديث، والآن تخشى القائد، تتحدى الداهية وتهاب القائد!!

هز رأسه بيأس من صلادة عقلها، فظنته سيقول ما يجعلها تقع بمأزق كبير، وقد بدأ ثباتها في الانهيار موشكة على البكاء.

ولكنه قال بقوة وهيبة للواقف يتابع بشرود، وكل ما تقوله لم ينتبه إلى حرف منه، وذلك بالطبع لم يخفَ على الداهية:

-ما بك “ريا”؟! تقدم يا قائد، لابد وأنك لم تقوَ على النوم قبل أن تطمئن ما إذا كان الداهية بسلام أم أنه فارق الحياة .

سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top