رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 118 حتى بعد الموت

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 118 

“ماذا ناديتِني للتو؟” سألت كلوي بصوتٍ مخڼوق وهي تحدّق في أوليفيا، وقد اتسعت عيناها من الدهشة كأنها تلقت صڤعة مفاجئة على وجهها، لم تصدق أذنيها، أو لعلها لم ترد أن تصدق.

“سيدة كارلتون…” أجابت أوليفيا بنبرة ثابتة كأنها تلقي حكماً لا جدال فيه، “أم أنكِ نسيتي أنكِ تخلّيتِ عن لقب والدتي منذ زمن؟
طلّقتِ والدي منذ سنوات بعيدة، واختفيتِ من حياتي كأنكِ لم تكوني هنا أبدًا.
زوجكِ الآن هو رجلٌ آخر، السيد كارلتون. ألم أُصِب حين خاطبتك بلقبك الجديد؟ أم أنكِ لا تحتملين الحقيقة؟”

لأول مرة على الإطلاق، لم يظهر في حديث أوليفيا أي دفء تجاه كلوي، لم يكن هناك أي تردد أو شفقة في صوتها.
حتى عندما التقيا أول مرة بعد غيابها الطويل، كانت أوليفيا آنذاك ما تزال مهذبة، لطيفة نوعًا ما، رغم خيبتها الكبيرة، تحاول أن تتعامل معها بقدر من الاحترام، وربما الأمل.

لكن الآن… كان صوتها كحد السکين، ونبرتها قاسېة لدرجة أن الهواء بينهما أصبح أثقل. كلماتها خرجت باردة، قاسېة، كأنها صقيع اخترق القلب.

تلعثمت كلوي، ارتجف صوتها وهي تقول: “ليف… لقد تغيّرتِ كثيرًا… لم تعودي أنتِ، كيف تقولين شيئًا كهذا؟
أنا أمكِ، يا أوليفيا، لا شيء يمكن أن يغير تلك الحقيقة…”

لكن أوليفيا لم تهتز، لم تتأثر. ردّت وهي تنظر في عينيها مباشرة، كأنها تحاكمها:
“أجل، تغيّرت. لم أعد تلك الفتاة الساذجة التي كانت تنتظر رسالة، أو مكالمة، أو حتى سؤال عابر.
تعلّمت بالطريقة الصعبة أن البشر بطبعهم أنانيون، يسعون وراء مصلحتهم فقط.
اكتشفت كم يمكن أن تكون الطبيعة البشرية خادعة، قبيحة، ومخزية.

لو كنت أعلم هذا مبكرًا، لما قضيت كل تلك الليالي أبكي على غيابك،
لما علّقت قلبي بوهم أن أمًا ما زالت تحبني، تنتظرني، ستعود يومًا…
لكنني كنت واهمة، وها أنا الآن أصحح تلك الأوهام.”

قالت كلوي بصوت متهدّج كأنها تُقاوم الاڼهيار: “ليف، أنا أعلم… أعلم أني خذلتك،
أعلم أنني ارتكبت أخطاءً فادحة. لكنني الآن هنا، عدت إليكِ، وسأبذل كل ما بوسعي لأعوّضك عن كل شيء فات.”

طالت نظرات أوليفيا إليها، وكأنها تحاول أن تسترجع في وجهها شيئًا من الماضي… شيئًا من الدفء القديم، لكنها لم تجد.
كانت الملامح شاحبة، باهتة، مألوفة لكن غريبة، مثل صورةٍ قديمة فقدت ألوانها.

“حين قررتِ أن ترحلي، تجاهلتِ أنني كنتُ هناك… أنني كنتُ مجرد طفلة بحاجة لأم.
ذهبتِ دون كلمة، دون وعد، دون حتى وداع.

والآن، بعد سنوات، بعد كل هذا الغياب المؤلم، تعودين لتزعمين أنكِ تريدين تعويضي؟
سيدة كارلتون، هل فكرتِ ولو مرة واحدة أنني ربما لا أرغب في تعويضكِ؟
لأنني ببساطة، لم أعد أراكِ كأم. لم تكوني موجودة عندما احتجتُكِ أكثر من أي وقت.”

سكتت فجأة، وساد صمت كثيف، صمت مؤلم يكاد يُسمع فيه صوت القلوب وهي تنكسر.

ثم همست:
“نجوت وحدي، كبرت وحدي، تحملت كل شيء بمفردي…
والآن، لا شيء يمكن أن تقدّميه لي سيُعيد لي ما فقدته،
ولا شيء سيجعلني أنسى الألم الذي تسببتي به.”

“ليف…” حاولت كلوي أن تتحدث، لكن أوليفيا قطعتها بنبرة صارمة:

“سيدة كارلتون… تلك التي تنادينها بابنتكِ هناك، في مكانٍ آخر، في زمنٍ مضى.
أنا لم أعد تلك الابنة، ولا أستحق هذا اللقب منكِ، ولا أرغب به.”

في هذا العالم، هناك من يقاتل من أجل الحب، من يُضحي ويصبر ويحتمل لأجل من يحب،
لكن كلوي لم تكن واحدة منهم. لم تكن يوماً عاشقة حقيقية،
لم تُحب جيف بصدق. ولهذا، حين ظهر كريس في حياتها، ألقت بكل شيء خلف ظهرها وسارت وراءه.

سنوات طويلة مرّت، لم تحاول فيها أن تتصل، لم تبعث برسالة، لم تتفقد أوليفيا،
ولا حتى سألت كيف تعيش، إن كانت بخير، إن كانت مريضة أو ضائعة أو تحتاجها.

لكن اليوم، وبعد أن تكسّرت كل أوهام أوليفيا، فجأة تتذكر أنها “أم”،
وتريد أن “تعوّض” ابنتها عن كل شيء؟ أي وقاحة تلك؟

لكن الحقيقة كانت واضحة: أوليفيا لم تعُد تهتم.
لم يعد هناك مكان لأي شعور بداخلها نحو تلك المرأة.

نظرت إلى القاعة المليئة بالضيوف، الزينة اللامعة، الأضواء، الضحكات المصطنعة.
تساءلت في صمت:
هل يخبّئ هؤلاء الأشخاص خلف ابتساماتهم كل هذا الظلام؟
هل يملكون قلوبًا قاتمة مثل تلك التي تخلّت عنها باسم الحب؟
هل كلهم يخفون جروحًا مثل جرحها؟

لم تعد بحاجة لعائلة. لم تعد بحاجة لوعود أو أحضان مزيفة.

كان هناك هدف واحد فقط يُحرّكها:
أن تُذل إيثان. أن تُسقيه من نفس الكأس المرّة التي تجرعتها.
أن تزرع فيه ألمًا لا يُنسى،
جرحًا يرافقه حتى أنفاسه الأخيرة، ظلاً يطارده أينما ذهب.

وبينما فكرت بذلك، ظهرت على شفتيها ابتسامة…
ابتسامة شبيهة بليلة شتاء قارسة، لا دفء فيها، لكنها جميلة… خطېرة.

كان إيثان قد لمح أوليفيا منذ اللحظة التي دخلت فيها القاعة.
كان مستعدًا، حضّر لها فساتين بعدد ألوان قوس قزح، كلها مبهجة، زاهية، احتفالية.

لكنها اختارت الأسود.

فستان أسود ضيّق ينسدل حتى الأرض، شعرها مرفوع للأعلى ومثبّت بعناية،
وحجاب شفاف يغطي رأسها ويتلألأ كلما لامسه الضوء، كأن النجوم تجمعت على قماش واحد.
أقراط ألماس صغيرة تتدلى من أذنيها، تضيف لمسة من الهدوء والهيبة.

كانت كزهرة سوداء تحت المطر… مذهلة، لكنها خطېرة.
كأنها تقول: اقترب إن كنت تجرؤ.

كانت تبدو وكأنها بحاجة لحضن، لكنها أيضًا قد تطعنك دون تردد.

نظراتها سكنت مكانًا ما في قلب الحضور،
ولمّا شعرت بنظرات إيثان تخترقها، رفعت كأس النبيذ ببطء، ونظرت إليه من بعيد، ثم ابتسمت.

“أنتِ… أوليفيا، أليس كذلك؟” سألها صوت ودود من جانبها.

استدارت، لتجد رجلاً في عمرها، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وابتسامة دافئة.
كان يبدو كأميرٍ خرج من حكاية بعيدة، لا أكثرهم مهابة، لكنّ فيه شيئًا ساحرًا لا يُقاوم.

“أنتَ؟” سألت بدهشة خفيفة.

بدأ التوتر يظهر على ملامحه، لكنه حافظ على ابتسامته وهو يقول:

“أنا كولن موريارتي… التقينا عندما كنا أطفالًا.
أتذكرين تلك القطة التي كانت لكِ؟ طاردتني حتى اضطررتُ لتسلّق شجرة، وبقيت هناك لأكثر من ساعة، خائفًا أن أنزل!”

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 119 حتى بعد الموت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top