رواية حتى بعد الموت الفصل 18

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 18
لحسن الحظ، لم تسقط نوران على الأرض، إذ أمسك بها كامل في اللحظة الأخيرة. رفعت عينيها فرأت أحمد واقفًا على مقربة، جامدًا، لا مبالٍ.
لم يكن هناك ما يشير إلى قلقه أو اهتمامه. بدا وكأنه ظنّ ما حدث محاولةً رخيصة لاستعطافه، فابتعد عنها بعينيه كأنها لا تستحق الالتفات. وبالنظر إلى كراهيته الصريحة لها، لم تكن نوران تتوقع أكثر من ذلك.
كان كامل هو من بادر بقلق صادق:
“سيدة القيسي، هل أنتِ بخير؟”
ردّت سريعًا وهي تحاول استعادة توازنها:
“أنا بخير، ربما مجرد انخفاض في مستوى السكر.”
اختلقت العذر على عجل، ثم لحقت بأحمد بخطوات مرتجفة.
غطى الثلج الحديقة بأكملها، بياضًا نقيًا خلفته ليلة شتوية قاسية. لم يظهر أي أثر لعمال النظافة، فظلّ الثلج كما هو، يشق طريقه إلى الداخل.
كانت المسافة القصيرة من السيارة إلى المنزل كافية لجعلها تلهث، تقاوم الرياح الباردة والثلوج المتراكمة، تلهث نحو الدفء، نحو ملاذ مؤقت من البرد القارس.
وقف أحمد عند باب المنزل، يبتسم بسخرية لاذعة:
“عليكِ الاعتراف… أداؤكِ هذه المرة كان أفضل.”
في تلك اللحظة، تذكرت نوران كم من الحِيَل استنزفتها سابقًا لتحتفظ به إلى جانبها. البكاء، التهديدات، الاستجداء… أشياء لم تتخيّل يومًا أنها ستلجأ إليها.
رغم إدراكها للسخرية خلف كلماته، اختارت أن تضحك بخفة:
“شكرًا.”
تجاوزته ببرود ودخلت إلى الداخل، حيث لفحتها موجة دفء لطيف أشعرتها ببعض الراحة. خلعت سترتها الثقيلة، سكبت كوب ماء، ثم أسندت جسدها بتعب على الأريكة.
صوته القاطع جاء فجأة:
“فهل ستحصلين على الطلاق أم لا؟”
ردّت بنبرة هادئة، تخفي العاصفة بداخلها:
“سأخبرك عندما يتم الطلاق. حتى ذلك الحين، سأبقى هنا.”
جلست بهدوء، تعبث بكريات الفرو المتدلية من قبعتها، محاولة أن تبدو قوية.
قالت بصوت منخفض، لكنه حمل كل ألمها:
“أحمد، طلبتَ الطلاق في اليوم السابع من ولادتي المبكرة. وقتها حيّرني إلحاحك، لكنني أدركت الحقيقة أخيرًا… عندما رأيتُ الطفل الذي يشبهك. كنتَ مستعجلًا على التخلص مني، لتبدأ حياة جديدة مع مرام.”
ترددت أنفاسها، لكن صوتها تابع مرتجفًا:
“لعامٍ كامل، تجاهلتُ خيانتك وبرودك، متمسكةً بذكرى طيبة، بماضٍ ظننته حقيقيًا. أقنعتُ نفسي أنك تمرّ بمرحلة، وأنني سأتجاوزها معك. حتى ظننتُ أن خيانتك كانت بسببي، لأنني لم أكن كافية.”
خفضت عينيها، وتابعت بانكسار:
“كنتُ مستعدة للتغيير، للتغاضي، للتحمّل… ظننتُ أن الحب كفيل بأن يصنع المعجزات. لكن في كل مرة كنتَ تقضي أوقاتك العائلية مع امرأة أخرى وأطفالك، كنتُ أنتظرك في بيتٍ بارد، وحيدة.”
تنهدت بمرارة:
“عامٌ كامل احتجته لأفهم. ولهذا، سأرحل. ابحث عن سعادتك، أو اصنع عائلتك الجديدة… هذا لم يعد شأني.”
نهضت ببطء، وخطت نحوه بتعثّر، الدموع تنهمر على خديها بحرقة، وتوقفت أمامه. حدّقت فيه، كأنها تنظر للمرة الأخيرة في وجه رجل لم تعد تعرفه.
كان جالسًا بثبات، تعلوه هالة من الصمت الجامد، أشبه بأستاذ صارم قد ينفجر في أي لحظة.
في الماضي، كان يخلط بين برودٍ آسر وحنانٍ مبهم. أما الآن، فقد أصبح غريبًا بالكامل، جدارًا بلا أبواب.
انحنت قليلاً، وقالت بيأسٍ صادق:
“علينا أن نترك بعضنا. أليس هذا أفضل؟”
شعر بشيء يشبه الشفقة، وهو يتأمل التعب المرسوم على وجهها، كجدارٍ صلب انهار أخيرًا بعد أعوامٍ من مواجهة السيل. تفكّك، وتحوّل إلى حطام.
الاستسلام كان أسهل بكثير من البقاء واقفًا. لا أحد يدرك كم من الوقت صمدت قبل أن تنكسر.
نعم، كانت نوران محقة. لقد أراد الطلاق بدافع الانتقام.
تفاجأ أحمد عندما أدرك أن رحيل نوران لم يجلب له الراحة التي كان يتوقعها. بل شعر بفراغ غريب ينهش أعماقه.
قال بحدة، وقد علا صوته بانفعال:
“تظنين أنكِ تخلّيتِ عني؟ استمري في الحلم! من الآن فصاعدًا ستبقين هنا. تذكّري جيدًا، أنتِ لي… إلى الأبد!”
انهمرت دموع نوران، وسقطت على خده دون قصد، فاخترقت كبرياءه، وأيقظت شيئًا خامدًا داخله. ومع ذلك، ارتبك، شعر بتهديد عاطفي لم يفهمه، فمدّ يده إلى هاتفه بسرعة، وأراها صورة كريم وهو في سيارة إسعاف.
قال بصوت بارد خالٍ من الرحمة:
“إذا استمريتِ على تواصلكِ به، فقد يلقى ما تبقّى من عائلته نفس المصير. نوران… من الأفضل لكِ أن تنسي فكرة الحريّة.”
شهقت نوران بغضب مكبوت، وصاحت:
“يا أحمق! لمَ لم تؤذِني أنا؟ لمَ كريم؟!”
كانت يدها مرفوعة لتصفعه، لكن أحمد أمسك بمعصمها بقوة، وحدّق في عينيها بنظرة متصلبة تشوبها الغيرة والغضب:
“تهتمين به أكثر من اللازم. لا تنسي… ما دمتِ ما زلتِ السيدة القيسي، فأنتِ ملكي.”
فغرت نوران شفتيها لترد، لكنها لم تكد تنطق، حتى رفعها بين ذراعيه فجأة، محمولًا بدافع لا عقلاني. ألقى بها على السرير، وقد بدا عليه صراع داخلي غريب بين الانفعال والرغبة في السيطرة.
ارتطامها بالفراش لم يكن عنيفًا، لكن وقع الصدمة تركها شاحبة. سريرها الفاخر لم يُخفِ ما شعرت به من دوار وخوف.
نظرت إليه، فوجدته يفك ربطة عنقه بعصبية، وكأن في صدره بركانًا على وشك الانفجار. اقترب منها، وقال بصوت خافت ينضح بالمرارة:
“كنتِ معه، أليس كذلك؟ لبضعة أيام فقط، لكنه بالتأكيد كان أكثر من مجرد صديق.”
كان صوته ينزف غيرة، ولفظ لقبها القديم بطريقة مريبة، جعلت القشعريرة تسري في جسدها.
أحمد بدا أشبه بوحش فقد السيطرة، قلق، متوتر، كأنّه محاصر بجراحه التي لم تلتئم.
هزّت نوران رأسها، وصوتها يكاد يُسمع:
“لم يكن هناك شيء مما تتخيله… نحن فقط أصدقاء. لا تفتعل كابوسًا من لا شيء.”
ضحك بسخرية، وصوته تغلّف بالقسوة:
“مجرد أصدقاء؟ هل تعتقدين أنني أصدقك؟”
جلس عند قدميها، ونزع حذاءها بحركات مفاجئة، محاولًا استعادة ما فقده منها.
قاومت بجسدها المنهك، وكل خلية فيها تناديه ليتوقف. لكنها كانت كمن يصارع طيفًا من ماضيه، رجلًا لم يعد يشبه من عرفته ذات يوم.
عينيه، المليئتين بالغضب والخذلان، فضحتا كل ما كتمه خلال عامٍ من الغياب والجفاء.
وفي نظرة واحدة، أدركت نوران أن ما يريده لم يكن انتصارًا… بل تفريغًا لما تراكم داخله من وجع.
همست برجاء، وهي تكاد تختنق بعبرتها:
“أرجوك، لا تفعل هذا… ليس بهذه الطريقة.”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 19

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top