الفصل 293
توقفت أوليفيا عن البكاء ببطء، وكأن دموعها قد جفّت من فرط ما انسكبت. كانت أنفاسها لا تزال مضطربة، وصدرها يعلو ويهبط، لكنها رفعت عينيها نحو كولين. عيناها كانتا ملبّدتين بضباب من المشاعر، امتزج فيه الحزن بالامتنان، والضعف بالقوة التي تحاول استعادتها. في بؤبؤيهما، انعكست صورتها كما لو كانت مرآة، صورة باهتة لكنها واضحة بما يكفي لتذكرها أنها ما زالت على قيد الحياة، وأن هناك من يراها حقًا.
لم يكن على ملامحه الوسيمة أي أثر لبراءة الطفولة التي ربما حملها يومًا. كانت ملامحه الآن حادة، صلبة، تشي برجولة نضجت باكرًا على أتون الألم. نظرت إليه طويلاً، وكأنها تحاول أن تجد مبررًا واحدًا للبقاء أو المغادرة. لكنها سألت نفسها بصمت: هل هناك ما يمنعها الآن من الرحيل، بعد أن أنقذها، وبعد أن نجا هو أيضًا؟
لقد تمكّن كولين من إخراج جيف من المكان، وأثبت لها أن الحيلة والجرأة ما زالتا سلاحهما. ما دامت على قيد الحياة، فهي قادرة دائمًا على العودة… على الاڼتقام… على استعادة كل ما سُلب منها. ومع ذلك، كان هناك شيء آخر يضغط على قلبها.
مرّت في ذهنها صورة إيثان، فارتعش جفنها بلا وعي، ثم هزّت رأسها بقوة كما لو كانت تريد طرد تلك الظلال من عقلها. قالت بصوت خاڤت، لكنه ثابت:
– “لا… لكن قبل أن نغادر، أريد أن أرى والدي… أيمكن ترتيب ذلك؟”
أجابها كولين بعد لحظة صمت وهو يثبت نظره عليها:
– “حسنًا… سأهتم بالأمر.”
مدّت يدها تواصل تضميد جرحه. كانت تتحرك بحذر، طبقة فوق أخرى، حتى غطت الضمادة كتفه وجانبه، لكن عينيها توقفتا فجأة عند شيء آخر. كانت الندوب على جسده كثيرة، متفرقة كخريطة غامضة لحياة قاسېة. رفعت نظرها إليه، وعيناها تحملان سؤالاً صامتًا قبل أن ينطق لسانها:
– “كولين… من أين جاءت كل هذه الندوب؟”
ابتسم ابتسامة باهتة، لا تحمل مرحًا حقيقيًا، وقال:
– “أوليفيا… أظن أنني لم أخبرك يومًا عن عائلتي. هل ترغبين بسماع قصتي؟”
أجابت بصوت دافئ:
– “أنا كلها آذان صاغية.”
أحضرت حوضًا آخر من الماء الدافئ، غمست القماش فيه، ثم بدأت تمسح بقع الډم المتبقية على جسده. لم تكن حركاتها مجرد علاج، بل كانت تلمس ذكرياته التي ما زالت محفورة على جلده.
قال بنبرة ثقيلة:
– “أمي ټوفيت وأنا صغير… لكنني لم أقل أبدًا إن والدي كان السبب. كان… رجلًا خطيرًا. مسيئًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.”
توقفت يداها عن الحركة، وبقي القماش المبلل بين أصابعها. نظرت إليه بطرف عينها، والضوء الأصفر المنبعث من المصباح القريب ينساب على ملامحه ويبرز خطوطها الناضجة. جسده الممتلئ القوي كان يختلف تمامًا عن صورته كطفل ضعيف.
رفع ذقنه قليلًا وضحك ضحكة مبحوحة، لكن صوته حمل مرارة السنين:
– “كانت حياة والدي تدور حول المال والخمر. كلما فشل في عمله، عاد إلى المنزل ثملاً… وضړب أمي. معظم هذه الندوب منه. وأمي… كانت تتحمل كل ذلك من أجلي.”
أغمض عينيه للحظة، ثم تابع:
– “إلى أن جاء ذلك اليوم… يوم مثلج خسر فيه والدي مبلغًا كبيرًا في سوق الأسهم. كان غاضبًا بشكل لم أره من قبل… أمسك بالمكواة وهي حامية، ووضعها على جلدي. أوليفيا… هل سمعتِ يومًا صوت جلدك وهو ېحترق؟ يشبه الشواء… رائحة اللحم البشري لا تُنسى.”
شهقت أوليفيا بصوت منخفض، بينما كان يكمل بمرارة:
– “أمي حاولت أن تحجب المكواة عني… لكن نصفها التصق بجسدها، والنصف الآخر بظهري. تلك كانت المرة الأولى التي ټقاومه فيها. وفي خضم الشجار… دفعها من أعلى الدرج.”
نظرت أوليفيا نحو العلامة الداكنة على خصره، وتخيلت الألم الذي لا يمكن أن يصفه أي كلام.
قال كولين بصوت متهدج:
– “عندما أخذوني للشهادة، أخبرت الشرطة أنها سقطت عن الدرج. كنت أكرر ما قاله لي والدي… كنت طفلًا سيئًا، أليس كذلك؟ لقد كذبت… وتركت ذلك الوغد ينجو.”
بدأت دموعه تنساب على خديه، واهتز صوته وهو يهمس:
– “لأني لم أرد أن أفقد والدي بعد أن فقدت أمي.”
سقطت قطعة القماش من يد أوليفيا في الحوض، فألقت به جانبًا، ثم عانقته بقوة. همست:
– “كولين…”
لكنه أكمل بصوت يختلط فيه الألم بالامتنان:
– “غادرت البلاد صغيرًا هربًا منه… وأنتِ… أنتِ الشخص الوحيد الذي اهتم يومًا إن كنت قد أكلت أم لا. أخذتِني معك للاحتفال برأس السنة… كنتِ الملاك الذي أنقذني.”
تذكرت أوليفيا تلك الأيام البعيدة، وصمته الغامض في صغره، وكيف تبادلا أرقام الاتصال قبل رحيله. كانت تتحدث معه بانتظام في السنوات الأولى، حتى جاء اليوم الذي تلا لقائها بإيثان. كان إيثان لا يحتمل قربها من أي رجل آخر… ومنذ ذلك الحين، انقطع الوصل.
لم تكن تعلم حتى هذه اللحظة أن كولين كان يخفي جروحًا أعمق من كل ما تخيلته. مدت يدها تربّت على ذراعه وقالت بهدوء:
– “لا تقلق يا كولين… لقد أصبح كل هذا في الماضي.”
كانت يداه، التي كانت مترددة قبل قليل، تلتفان ببطء حول خصرها، كأنه يخشى أن يتركها فتختفي. همهم بصوت مبحوح وهو يضغط على عناقها:
– “نعم… أصبح في الماضي.”