رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك 55

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 55

أدركت مرام، وإن كان إدراكًا متأخرًا، أنها وقعت في شركٍ نصبته ليان بإتقان وخبث لا يخلو من جرأة. كانت الكلمات التي اختارتها ليان تحمل بين طيّاتها استفزازًا مقصودًا، يدفع مرام إلى الدفاع عن نفسها… وبهذا قد تفضح ما ظلت تحرص على إخفائه طيلة الشهور الماضية. فلو انفلت منها أي تصريح غاضب أو توضيح انفعالي، قد تُسلِّم الجميع — دون قصد — مفتاح الحقيقة: أنها كانت على علاقةً مع أحمد بينما لا تزال نوران على ذمته.

تلك الحقيقة التي تعلم مرام جيدًا أنها لو كُشفت، فسيتحول وجهها الاجتماعي المصقول إلى وصمة لن تُمحى بسهولة.

وهي، بكل كبريائها وحرصها على صورتها، لن تسمح بذلك.

نظرت إلى ليان نظرة باردة، ثم سحبت نفسًا عميقًا واستجمعت قواها المنهكة، وأجبرت ملامحها على الاتزان. رفعت رأسها بشموخ وقالت بنبرة هادئة مصطنعة يغلفها التوتر:
“لستُ من هذا النوع. ومن غير اللائق، لا أخلاقيًا ولا اجتماعيًا، التطرق إلى مواضيع حساسة مثل هذه في مناسباتٍ رسمية كهذه.”

بدت كلماتها محاولة يائسة للهروب إلى رصانة ظاهرية، لكنها لم تخفِ ارتباكها عن عينَي ليان.

لكن ليان، التي شعرت أن مرام بدأت تتراجع خطوة للوراء، تقدّمت بكل جرأة خطوة للأمام، غير عابئة بمظاهر اللباقة. فقد كانت تضع العدالة أمامها هدفًا، وترى أن مرام تستحق أن تُواجه بالحقيقة مهما كانت محرجة.

قالت ليان بصوت واضح ونبرة مشحونة بالازدراء:
“المرأة التي تقيم علاقة مع رجل متزوج، يا آنسة الزهراني، لا يمكن وصفها سوى بأنها خانت شرفها، بغض النظر عن المبررات. كسر العهود ليست حكرًا على الرجال فقط. بعض النساء يقتحمن حياة نساء أخريات دون خجل… ثم يتحدثن عن الأخلاق!”

توقف الحاضرون عن الأحاديث الجانبية، وكأن جملة ليان جمّدت المشهد بأكمله.

ثم تابعت بصوت أكثر تحدّيًا، وهي تراقب تعابير مرام التي بدأت تتشقق من الداخل:
“أما أنا، فلا أخشى شيئًا. ضميري نقي. لكنكِ تبدين متأثرة للغاية، كأن هذا الحديث يخصكِ أنتِ شخصيًا. أخبريني بصراحة، هل وجدتِ نفسكِ يومًا في موضعٍ مماثل؟ هل ارتبطتِ برجلٍ كان قلبه مملوكًا لامرأة أخرى؟”

تصلبت ملامح مرام. لم تكن مستعدة لمواجهة بهذا العنف، لا سيما أمام هذا الجمع.

لاحظ أحمد تصاعد التوتر، فتدخل بنبرة خافتة تحمل تهديدًا صريحًا وهو يحدّق في ليان بعينيه الغاضبتين:
“سيدة ليان…”

لكن ليان، التي لم ترتعب من نظرة أحمد، ردّت بخفة مُتعمدة، وهي ترفع حاجبيها بافتعال ساخر:
“أوه، مع زوج ثري مثلك، يا دكتور أحمد، لا أظن أن السيدة الزهراني بحاجة لأن تتوسّل القرب من رجلٍ متزوج. بل يبدو أنها ستكون الضيفة الدائمة في سريرك أنت.”

ضحكت ضحكة قصيرة كالسهم، وساد صمت مُحرج من حول الطاولة، صمت يعجّ بالإدراك والارتباك والتوتر.

حتى أكثر الحضور بساطةً فهم أن ليان لم تكن تمزح، بل كانت توجه سهامًا مُباشرة نحو مرام، تسخر من علاقتها الملتبسة بأحمد.
لكن كامل، بحدسه الحاد، التقط تفصيلة صغيرة لم ينتبه لها غيره. كيف عرف أحمد اسم عائلة ليان بالكامل؟ لم تُعرّف عن نفسها رسميًا أمامه. كانت تلك الملاحظة كشرارة في ذهنه… أشعلت تساؤلات لم يجبها أحد.

أما نوران، فوقفت بين الإعجاب والقلق. لم تصدّق الجرأة التي واجهت بها ليانُ أحمد، وهي التي كانت تعرف كم هو قادر على إسكات من يعارضه. ومع ذلك، أدركت أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة.

تقدّمت نوران، بنظرة هادئة ونبرة لا تخلو من الألم، وقالت بوضوح:
“أيًا يكن ما جرى، فهو في الماضي. زوجي الراحل… لن يعود. لن يُغيّر الكلام شيئًا. أرجو منكم أن نُبقي هذا الحديث في حدوده. فالرجل الذي خان امرأةً، لا يستحق أن يكون محور نقاشنا.”

أعقب كلماتها صمت ثقيل. كانت جملتها أشبه بحكمٍ نهائي، أغلق الباب في وجه كل من حاول الخوض في تفاصيل مؤلمة لا أحد يعرف عمقها سواها.

كادت ليان أن تُصفّق بإعجاب لردّها المتماسك.

لكن، كعادتها، جاءت بسمة منصور – التي لطالما افتقرت إلى الذكاء الاجتماعي – لتُفسد اللحظة بكاملها. نظرت إلى نوران بفضول ساذج، وسألت بصوتٍ عالٍ أشبه بالطلق الناري:
“يعني… هل هذا معناه إن نوران غير مرتبطة؟ هل كريم بيحاول يطلبها؟”

انفجر المكان بصمتٍ ثقيل… ثم بضحكة مكتومة هنا وهناك، تنمّ عن توتر ودهشة.

لم تكن بسمة تعرف أن كلماتها ستكون أشبه بزلزالٍ صغيرٍ هز الطاولة.

نوران، وعلى الرغم من الحرج الذي خيّم، لم تمانع أن يرى أحمد بعينيه كيف تحوّل الحديث كله إلى نقاش علني عن حياتها… عن قلبها… عن من يحق له أن يقترب منها اليوم.

في الماضي، كانت نوران فتاة الجامعة التي يتهافت عليها الخطّاب، ثم اختفت فجأة. وعندما تركت دراستها، تساءل الجميع عن الرجل الذي جعلها تختفي… الذي كسرها.

تغيّرت ملامح مرام. كانت تحاول فهم موقِف أحمد. لماذا لا يتدخل؟ لماذا لا يُنكر؟ لماذا لا يدافع عنها؟

أحمد ظلّ صامتًا، كأنه اختار الانسحاب من الساحة. تناول قطعة لحم أخرى بهدوء مصطنع، كأن الموضوع لا يعنيه إطلاقًا.

وبينما كانت نوران تُفكر إن كانت ستتدخل لتنقذ الموقف، جاء صوت كريم، حاسمًا، دافئًا، وواضحًا، يخترق الأجواء:

“ليس من الغريب أن تُثير امرأة مميزة مثل نوران اهتمام الكثيرين. ولو أُتيحت لي فرصة الاقتراب منها، فلن أكرر أخطاء من سبقني. سأُقدّرها، وسأحمي قلبها. من تركها… هو الخاسر الأكبر.”

توقّف أحمد عن المضغ. تجمّد في مكانه. كانت تلك الكلمات صفعة في وجهه، أمام الجميع.

ونوران… لم تُصدّق أذنيها. نظرت إلى كريم بذهول، وهي التي طلبت منه ألا يتدخل. ألا يُربك المشهد أكثر. لكن كريم، على عكس المتوقع، لم يصمت… بل تحدّى أحمد صراحة.

نظرت إليه، وقالت بخفوت:
“كريم…”

قرأ عينيها قبل أن تنطق. ثم ابتسم، وقال أمام الجميع:
“نوران… الآن وقد أصبحتِ حرة، هل تسمحين لي أن أدعوك إلى عشاء… فقط أنا وأنتِ؟”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 57

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top