رواية حتى بعد الموت الفصل 68 رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 68

كان أحمد يعتقد أنه يعرف نوران كما يعرف أنفاسه، يعرف تقاسيم وجهها، إيماءاتها، صمتها وكلامها، وحتى حزنها حين تخفيه خلف ابتسامة باهتة. لكنه في تلك اللحظة، حين لمح الندبة التي أسفل بطنها ، أيقن أنه لم يعرفها تمامًا كما ظن، وأن خلف نظراتها الرقيقة عوالم خفية لم تفتح أبوابها له قط.

كان يعلم أنها خضعت في وقت سابق لعملية جراحية معقدة، وأنها رفضت الخضوع للتخدير الكامل بسبب تحسسها الشديد. يتذكر تلك الليلة كما لو كانت أمس، حين بقي واقفًا خلف باب غرفة العمليات، ينتظر، يترقّب، يتناوب في الجلوس والقيام كل لحظة، وقلبه يرتجف مع كل صرخة ألم تصدر من الداخل. لقد سمعها، شعر بها، كأن آلامها كانت تسري في جسده هو. كان يعرف بالضبط كم عدد الغرز التي خيطت بها طبقات جلدها، وكل طبقة منها كانت كأنها غرزة في قلبه.

لكن تلك الندبة التي لم يرها من قبل، لم تكن الوحيدة. إلى جانبها، لاحظ أثر جرح جديد داخل ذراعها اليسرى. بدا حديثًا، وكأنّه وُجد ليُنبّهه إلى ألم آخر لم يخبره عنه أحد. وفجأة، عاد بذاكرته إلى تلك الليلة التي زارت فيها نوران المستشفى بعد أن تسببت مرام في فوضى عارمة. يومها، اعتقد أن نوران تعرّضت فقط لبعض الكدمات السطحية. لم يخطر بباله قط أن هناك جرحًا طويلًا قد تم خياطته دون علمه، وأنه كان غائبًا عن مشهد آخر من معاناة نوران.

تساءل في داخله، بدهشة تملؤها المرارة: كيف يمكن لشخصٍ مثلها، كان يخاف من الألم ويغضّ الطرف عن مجرد وخز إبرة، أن يتلقى كل هذا في صمت؟ كيف استطاعت أن تصمت، أن تتجاوز، أن تتظاهر بالقوة بينما كانت تنهار من الداخل؟

ضمّ شفتيه وهو يمرر يده على جبينها، وتذكّر كلماتها الأخيرة قبل أن تغيب عن الوعي. كلماتٌ خرجت منها كأنها شهقة ألمٍ لا تجد متنفسًا، كأنها محاولة أخيرة للبوح بما لم تستطع قوله طيلة حياتها. شعر أن كل حرف نطقته كان طعنة ناعمة في قلبه، لا تترك أثرًا ظاهريًا، لكنها تنخر في داخله ببطء.

بدّل ملابسها بهدوء إلى بيجامتها الدافئة، ورفع حرارة الغرفة، ثم جلس بجوارها يحتضنها بقوة، وكأنه يخشى أن تذوب بين يديه، أن تختفي كما تختفي الذكريات الحلوة حين يستيقظ الحالم.

لم تمر دقائق حتى دخل هشام يرافقه الدكتور زياد الخالدي، الطبيب العائلي. ما إن رأياه يعانق نوران بهذه الطريقة حتى تراجعا بخطوة لا إرادية، وكأن شيئًا في المشهد طلب منهما التريث.

صاح أحمد، وهو لا يزال ممسكًا بها: “ارجعوا للخلف! تحقق منها حالًا!”

“بالتأكيد، سيد القيسي”، أجاب زياد بسرعة، وهو يتوجه نحو نوران بفحصٍ دقيق. كان معتادًا على زيارات منزلية لحالات بسيطة، إصابات طفيفة أو فحوصات روتينية. أما نوران، فقد كانت رمزًا للصحة والنشاط، وكان يمازحها دومًا بأنها أقوى من جدول دوائي.

لكن هذه المرة، لم يجد أمامه إلا جسدًا شاحبًا، ممدّدًا بصمت، ووجهًا خاليًا من اللون، كأن الحياة قد انسحبت منه بهدوء.

قال زياد بهدوء متزن: “سيد القيسي، من الفحص الأولي يبدو أنها فقدت وعيها بسبب ضعف جسدي شديد. تعرّضت للبرد مؤخرًا، وكان لابد من تدفئتها بسرعة. أما الجروح في معصميها فهي سطحية، لكنها تستدعي عناية دقيقة لتفادي أي مضاعفات.”

سأل أحمد، ووجهه مليء بالتوتر: “هل هي ضعيفة لهذا الحد؟ لقد بدت متعبة منذ أيام، لكنها تجاوزت الإنفلونزا، أليس كذلك؟”

أجاب زياد وهو يتفقد نبضها: “صحيح، لكنها الآن في حالة حرجة. نبضها أضعف من الطبيعي، والتنفس بطيء، وهناك مؤشرات على حرقة معدة شديدة. كل هذا يدل على إجهاد داخلي عميق. أنا لست مختصًا في هذا المستوى، لذا أنصح بإدخالها المستشفى فورًا.”

ثم أخرج من حقيبته إبرة وسحب عينة دم صغيرة. “أخذتُ عينة لإجراء تحاليل عاجلة. نحتاج أن نعرف نوع العدوى قبل أن نقرر العلاج المناسب.”

ردّ أحمد بكلمة واحدة، لكنها كانت مشبعة بكل التوتر: “جيد.”

مرت الليلة كأنها دهر. كانت نوران تغط في نومٍ غير هادئ، تتقلب وتتنهّد، فيما كان أحمد يتأمل ملامحها التي أحبها دومًا. كانت عيناها مغمضتين، لكنها تهمس بكلماتٍ غير مفهومة، كأنها تحلم بشيء بعيد.

في الحلم، التقت بشابٍ لأول مرة في ساحة المدرسة، كان يرتدي قميصًا أبيض، وابتسامته تأسر قلبها. كانت لحظة حب من النظرة الأولى، لا جدال فيها.

ثم تكرر اللقاء حين أنقذها من الغرق في لحظة رعب. تتذكّر كيف شعرت بحرارة جسده، بعضلاته التي أمسكت بها، وذراعيها الملتفّتين حول عنقه. خجلت من اقترابها، لكنها لم تتراجع. ذلك الشعور ظلّ محفورًا في ذاكرتها.

بعدها، وقعا في حب عميق، حبٍّ لم يختبره أي منهما من قبل. كانت علاقتهما ملاذًا من العالم، لكنها لم تكن خالية من الألم.

تمنت لو توقف الحلم عند تلك اللحظة الجميلة، ليحميها من وجع ما تلاها.

وبينما كانت تغط في حلمها، تمتمت بكلماتٍ قطعها الألم: “يا صغيرتي… أحمد القيسي… أعد لي صغيرتي…”

ثم بصوت مخنوق: “أحمد، سأضحي بحياتي من أجلك… أرجوك، دعني أذهب…”

كل كلمة خرجت منها كانت مثقلة بالحزن، بالندم، بالحب، وربما بالخوف. أمسك أحمد بيدها، وأغمض عينيه، وهمس بصوت متهدج: “نوران… كيف لي أن أحرركِ، وأنا نفسي لا أحد يستطيع أن يحررني؟”

كانت يدها حارّة، كما توقع زياد، الحمى بدأت تشتعل فيها. أسرع أحمد بوضع ضمادة خافضة للحرارة على جبينها، وأعدّ بعض الحبوب، لكن هشام اقتحم الغرفة فجأة، يلهث كمن رأى مصيبة.

قال وهو يلوّح بورقة في يده: “سيد القيسي، حصلنا على نتائج الدم!”

أضاف بصوت مرتجف: “كل المؤشرات منخفضة! عدد خلايا الدم الحمراء والبيضاء أقل من الطبيعي بكثير! عدد خلايا الدم البيضاء لا يتجاوز ٢.٣، وهذا يعني أن جسمها لا يتحمل الحمى إطلاقًا. حالتها حرجة! نحتاج إلى إعطائها حقنة نيولاستا فورًا!”

شهق أحمد بصوت خافت، وتبعثرت الحبوب من يده على الأرض.

قال بكلمات مكسورة، بالكاد تخرج من فمه: “ماذا قلت؟…”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 69

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top