الفصل 111
أصيبت أوليفيا باضطراب واضح حين سمعت كلمات إيفرلي، وكأن تلك الجمل المطمئنة التي خرجت بنية طيبة، أيقظت فيها شيئًا مظلمًا كان نائمًا خلف ستار من الألم.
ارتجفت شفتيها، واهتزت عيناها ببريق غريب مشؤوم، ثم رفعت رأسها وقالت بصوتٍ حادٍ لا يخلو من الڠضب المكبوت:
“كونور بريء… نعم. لم يؤذِ أحدًا. لكن هل كان طفلي مذنبًا؟ لم يكن كذلك! لقد كان بريئًا… بريئًا تمامًا! الشخص الوحيد الذي كان يستحق المۏت هو… هو!”
ثم وضعت يدها على صدرها كأنها تحاول كتم زلزالًا داخليًا، وفركت مكان القلب بحركةٍ ملتوية، يكسوها التعب والإرهاق، وقالت بصوت متهدّج:
“لو أنه لم يُولد… لما ماټ طفلي. هل تفهمين؟ لو لم يظهر إلى الوجود، لربما كان طفلي الآن حيًّا بين ذراعي!”
أخذت إيفرلي نفسًا عميقًا، محاوِلة أن تُبقي صوتها ثابتًا، رغم الذهول الذي كاد يشلّ تفكيرها، وقالت بنبرةٍ مشفقة:
“يا لكِ من فتاة طيبة، لكنك تتحدثين الآن كأنك شخص آخر. هذه أفكار متطرفة لا تليق بك، يا ليف… اسمعيني جيدًا، أنا لا أهوى الأوهام، أنا واقعية، لكنني أؤمن بالقدر، وبأن لكل شيء في هذه الحياة سببًا وميعادًا.”
اقتربت منها أكثر، ثم تابعت بلينٍ:
“كل ما يحدث لنا، مهما بدا مؤلمًا، له حكمة. طفلكِ أصبح ملاكًا… أسرع منّا جميعًا إلى السلام. وربما، في هذا الوقت بالذات، إذا نظرتِ إلى السماء، ستجدينه يراقبك من هناك، يرسل لك دعاءً صامتًا، لا يريد منكِ سوى أن تواصلي الحياة، لا أن تضيّعي عمركِ في ألم لن يُعيده.”
ثم أردفت بلهجة هادئة مليئة بالرجاء:
“تذكّري المشقّة التي مررتِ بها، والصراعات التي واجهتها وحدكِ. أراهن أنكِ لا تستطيعين تحمّل فكرة أن يمر أحدٌ بكل ما عانيتِه… أليس كذلك؟”
لكن نظرات أوليفيا نحوها كانت باردة، جامدة، أشبه بجليد لا ينصهر. ثم سألتها بصوتٍ أجوف:
“هل تعلمين حقًا ما الذي مررت به خلال العام الماضي؟ هل تتخيلين ما الذي يعنيه أن تفقدي كل شيءٍ دفعة واحدة، وتُجبرين على الاستمرار وكأنك لم تفقدي شيئًا؟”
رفعت رأسها، حدّقت في الفراغ بنظرة كئيبة، ثم تمتمت:
“لماذا أُعاقَب أنا؟ لماذا أنا مَن تدمر عائلتي؟ في حين أن مارينا تعيش بهناء مع أسرتها، تبتسم وتضحك، وكأنها لم تُدمّر حياتي. وإيثان؟ يعيش حرًّا، يفعل ما يشاء، يُعاقب من يشاء، ويهرب من كل شيء دون حساب!”
ثم قبضت على يديها بشدّة، وقالت بصوتٍ متقطّع يملؤه الغليان:
“كل ما أريده… كل ما أريده فقط هو أن يتذوّقوا ما ذُقت، لا مرة… بل عشر مرات.”
نظرت إليها إيفرلي بقلق بالغ، نادت باسمها بصوت مرتجف:
“ليف…”
لكن أوليفيا ابتسمت فجأةً، كأنها وضعت قناعًا فوق كل ما قالته، وقالت بنبرة ساخرة:
“لا تنظري إليّ بهذه الطريقة، فلن أفعل شيئًا. لن أتحرك حتى يستعيد والدي وعيه. بعد ذلك… سيكون لكل شيء حديث.”
وضعت إيفرلي يدها على يد أوليفيا، وقالت بصوت يختلط فيه الرجاء بالحزن:
“ليف، أعلم أنني لست في موقع يسمح لي أن أُعطيكِ النصيحة، فأنا لم أعش ما عشتيه، ولم أفقد ما فقدتِه. لكنني فقط… أتمنى أن تظلي بخير. أن تبقي في أمان، جسدًا وروحًا.”
ابتسمت أوليفيا ابتسامة باهتة، ثم قالت:
“لا تقلقي، أنا بخير… أنا هادئة الآن كما كنت دائمًا.”
رغم كلماتها، كانت إيفرلي تشعر پاختناق داخلي، إحساس غير مريح يعتريها، كأن شيئًا ما غير طبيعي يدور في أعماق أوليفيا، شيء لا تستطيع لمسه ولا فهمه. لم تكن تعرف تحديدًا ما الذي تخبئه، لكنها كانت متأكدة من أمرٍ واحد: أوليفيا لم تعد كما كانت.
حين غادرت المنزل، وقفت في الخارج لحظة، قبل أن تسمع من خلف الباب صوتًا خافتًا. لقد كانت أوليفيا تُغنّي تهويدة ناعمة، بصوتٍ حزين، كأنها تُهدّئ طفلًا لا وجود له.
حين كانت أوليفيا حاملًا، كانت متحمسة لدرجة لم تُخفِها. اشترت الكثير من الألعاب الصغيرة، وحمّلت عشرات التهويدات والأغاني الهادئة في قائمة تشغيل خاصة.
في إحدى المرات، ضحكت إيفرلي وقالت ممازحة:
“لم يُولد طفلكِ بعد، وقد حفظتِ كل التهويدات! حذاري أن تنامي أثناء الغناء!”
فضحكت أوليفيا، ثم وضعت يدها على بطنها بلطف، وقالت برقة:
“لن يكون هناك وقت لتعلّم شيء بعد الولادة. سأكون غارقة بالتعب والدموع. هذه فرصتي الوحيدة لأتجهز.”
أضافت، وهي تبتسم بحنان:
“إنها المرة الأولى التي أكون فيها أمًّا. بالطبع يجب أن أكون مستعدة. وهو يشعر بي، حقًا. كلما همهمتُ له بالأغاني، أراه يهدأ.”
ثم وضعت يدها على بطنها برفق، وتابعت:
“هو لا يركلني. أظنه سيكون طفلًا هادئًا، محبًّا… يهتمّ بي.”
ضحكت إيفرلي بخفة، وقالت:
“أنتِ مذهلة. لا بأس، طالما أنه سيشبهكِ، أو حتى يشبه والده، فأنا متشوّقة لرؤيته.”
لكن ذلك اليوم لم يأتِ أبدًا.
ظلّت أوليفيا تنتظر، تحلم، تُحضّر، تبتسم… من أجل طفلٍ لم ترَه، لم تحتضنه، لم تسمع بكاءه الأول.
وفي مكانٍ آخر من العالم، كان إيثان، الذي غاب عن الأنظار لأيام، يعيش لحظة فارقة تهدّد حياته.
في مطاردةٍ دامية، قفز وهو مقنّع من فوق أحد الجسور العالية، وأمطر من خلفه وابلًا من الړصاص، يغطي الجسر كالمطر الڼاري.
تناثر الډم في الماء، ليتحوّل السطح الأزرق إلى بُقعٍ حمراء متّسعة.
صاح أحد المطاردين وهو يشير:
“لن يبتعد كثيرًا… الحقوا به!”
غاص إيثان في النهر، يتخبّط بين الأمواج، يحاول النجاة. كان الډم ېنزف من ذراعه اليمنى، لكنه لم يتوقف.
وحين وصل إلى ضفة النهر، مدّ يده المرتجفة، ضاغطًا على جرحه، وهو يلتقط أنفاسه.
في يده الأخرى، كان يحمل صندوق المكعبات.
رفعه قليلًا، تمتم بشفتيه وكأنه يُخاطب روحًا غائبة:
“جيثرو… هل ترى هذا؟ لقد استعدته من أجلك.”
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 112 رواية حتى بعد الموت