الفصل 106
من المرجح أن جذور ازدراء مالك لدينا لم تكن نابعة من لحظة عابرة أو نزوة آنية بل كانت ضاربة في أعماق نشأته تسقى كل يومٍ بعبارات والدته التي كانت تهمس له بنبرة مملوءة بالتحذير: “تلك الفتاة لا تبتغي قلب عمك ظافر، بل تبتغي ما تحمله دماؤك من إرثٍ ثقيل… إنها لا تسعى إلا لإنجاب وريثٍ يحمل اسم نصران، لتزاحمك به على عرشٍ لم يُحسم بعد.”
كان حديث الأم كسكينٍ يُغرس ببطء لا يمزق بل يخدش حتى ينزف القلب بغير صوت.
وضع زكريا كتابه جانبًا وأدار وجهه نحو مالك، نظراته كانت كموج البحر هادئة من الخارج وعميقة من الداخل، وقال بصوت خافت كأنما يُلقي سرًّا:
“وما هي الخطة؟”
عندها تبادل الصبيان الآخران نظرات سريعة كأنما وقع السؤال على مسامعهما كالصاعقة فاتسعت أعينهما كأنهما شاهدا شبحًا يتسلل بين الكلمات.
تقدّم مالك بخطوات بطيئة نحو زكريا، وعينيه ضاقتا بتركيز تتفحص ملامحه كما يتفحص القائد أرض المعركة قبل أن يُعلن الهجوم، ثم قال بنبرة خافتة أشبه بومضة برق في ليلٍ صامت:
“زاك… ما رأيك؟ ماذا نفعل؟”
كان زكريا يعرف الحقيقة المؤلمة… لم تكن هناك أي خطة إذ لم يكن يحمل أحدهما سوى الحماس والصمت
لكن ذهنه دائمًا كان يسبق خطاهما بخطوتين على الأقل.
ابتسم زكريا بمكر طفولي، ثم انحنى نحوهما كأنما يوشوش الريح بأمرٍ جلل،
وهمس لهم بخطته وسرعان ما تغيرت ملامحهما.
كانت الفكرة كشرارةٍ اشتعلت في عيونهما وحماسةٌ خفية أخذت تتسلل إلى أوردتهما كدفءٌ جديد عليهما يسري تحت جلودهما.
لحظة واحدة فقط وتحولت وجوههم من التساؤل إلى الترقب… ثم الإثارة.
وفجأة اقتربت فتاة صغيرة من ذلك الجمع المريب بخطى خفيفة صوتها يحمل براءة التساؤل:
“زاك… عمّا تتحدثون؟”
لكن مالك وقد عاد إليه شعور الهيمنة دفعها برفقٍ لا يخلو من الجفاء وقال بصوت متعالٍ كأنما يضع حاجزًا بين عالم الرجال وعالم الطفولة:
“ابتعدي… لا تقاطعي حديث الرجال حين يدور حول أمرٍ جلل.”
توقفت الصغيرة وعبست شفتيها، تلك الرقيقة الحالمة التي كانت على وشك الانهيار كزهرةٍ داستها الأقدام قبل أن تُتم تفتّحها.
في تلك اللحظة كانت سيارة صغيرة تشقّ الطريق كما تخرق إبرة الزمن ثوب الأحداث، تترك خلفها سحبًا من ضباب التأمل والصمت المشوب بالترقّب.
في المقعد الأمامي كانت دينا تميل بخفة نحو المرآة، تُسدِل على شفتيها لمسة من لونٍ داكن كأنما تختم صمتها بقبلة قاتلة.
أصابعها تتحرك بدقة ناعمة كراقصة باليه تحفظ كل حركة عن ظهر قلب.
وفي الخلف جلست لارا مساعدتها، تحدق فيها من خلال المرآة ثم نطقت بصوتٍ خافت يتردد بين الجدران الصامتة للسيارة:
“دينا… إنه مجرد طفل أما كان بإمكاننا إرسال أحدهم لاصطحابه؟”
ما إن خرجت الكلمات من فم لارا حتى استدارت إليها دينا ترمقها بنظرةٍ حادة كالسيف كأنها تطلق عليها رصاصة لا صوت لها لكنها تصيب القلب مباشرة، ثم
قالت بنبرةٍ مشبعة بالاحتقار المغلف بالغموض:
“أنتِ لا تدرين شيئًا يا لارا… إنه ليس مجرد طفل… إنه الحفيد الأكبر لعائلة نَصْران، قطرة الدم الأولى في نهر الوراثة المقدّس… أتظنين أن أي يد قادرة على لمسه دون أن تُحرق بنار اسمه؟”**
كانت كلماتها كالرصاص، مُحكمة، موجهة، لا تترك مجالًا للرد فقط تفرض هيبتها كما يفرض السيف سلطته على الرقاب ففي أعقاب الحادثة المُهينة التي دوّى صداها في أرجاء قصر نصران أثناء حفل عيد الميلاد، ظل كبير العائلة يرمق دينا بنظراتٍ لا تخلو من البرود… وكأنها باتت ظلًّا لا يُرى، أو صوتًا لا يُسمع.
كان التجاهل سيد الموقف وكان الصمت من جانبه أبلغ من ألف كلمة، كما لو أن الزمن نفسه قرر التوقف عند لحظة خيبتها، ومع ذلك… كان هناك بصيص أمل متوارٍ بين ثنايا العائلة اسمه “مالك”. الطفل المدلل والابن المُقدّس، كنز العائلة الذي يتحلق حوله مدار الرضا والسخط، وكانت دينا تُدرك بدهاءها الطامح أن طريقها إلى قلب الكبير يمر من خلال هذا الصغير.
مدّت يدها برفق نحو أسفل بطنها دون وعي كما لو أن رغبتها صارت حاضرةً في جسدها تتكوّر كجنين من الأمنيات،
وتساءلت في سرّها متى ستُرزق بطفلٍ من ظافر؟ متى تنبت فيها البذرة التي ستغير قواعد اللعبة؟ فإذا حملت يومًا بطفله فستُولد معه سلطتها، وستخرج من قوقعة الترقب لتصبح هي من ترسم الملامح وتكتب الأقدار… ستُصبح حرّة.
رنّ هاتفها كما لو أنه جرس إنذارٍ خفي يوقظ الأشباح المدفونة في قلبها.
رمقت دينا الشاشة بنظرة مرتابة، وترددت لحظة قبل أن تُجيب كأنها تقف على حافة اعتراف قد يُشعل رماده حريقاً.
وضعت الهاتف على أذنها وهمست بصوت يكاد يُسمع:
“ألم أطلب منك ألا تتصل بي مجددًا؟”
جاءها الصوت من الطرف الآخر مبللًا بندى الرجاء مُثقَلًا بوجع الغياب:
“دينا… أرجوكِ… عودي إليّ… أفتقدكِ حدّ الألم… لا أستطيع أن أتنفّس في غيابك…
أعلم أن زواجك من ظافر لم يتم بعد… لقد مرّت سنوات ولن يحدث… لا تكذبي على قلبك هو لا يحبك مثلما أفعل.”
ارتجفت أناملها التي تشد على الهاتف، وأحكمت قبضتها كالممسك بسرٍ خطير يهدد بانفجاره العالم.
وفي لمح البصر تصلّبت ملامحها وخرج صوتها صارمًا:
“لو كنت تهتم بي حقًا لتمنيتَ لي السعادة لا أن تُقحمني في ألمك… لا تتصل بي مجددًا… أبدًا.”
أغلقت الخطّ بسرعة كما لو أنها تقطع شريانًا قديمًا لا يزال ينبض بالندم،
لكنها لم تسمع كلماته الأخيرة…
**كان سيقول إنه قادم إلى المدينة قريبًا.**
رفعت رأسها فالتقت بنظرات لارا، تلك النظرة التي تتسلّل بهدوء محمّلة بفضولٍ لا يُقال.
فكذبت دينا كما تكذب العيون حين تُخفي الحنين وقالت بهدوءٍ بارد:
“مجرد معجبة… لا أكثر.”
وصلت السيارة أخيرًا إلى بوابة الروضة فتناولت دينا نظارتها الشمسية كأنها ترتدي درعًا من اللامبالاة تستعدّ لحربٍ صامتة ضد كل من يحاول النفاذ خلف ستائرها.
ترجلت من السيارة ومشت بخطى واثقة على الرصيف، تمامًا كما تمشي الملكات الزائفة في ممرات القصور لا تنظر خلفها ولا تكترث بالعيون التي تلتهم حضورها،
جذبت أنظار المارّة، تلتفت إليها الرؤوس كما لو أن المشهد يُبث على شاشة ضخمة في ساحة المدينة.
توقّفت أمام البوابة كأنها تنتظر وعدًا أو معجزة صغيرة تُعيد ترتيب أولوياتها…
لكن الانتظار طال… ومالك لم يخرج.
بدلًا من ذلك اقترب منها فتى صغير قوي البنية يحمل في عينيه ذكاءً مبكرًا ونوايا لا تُقرأ.
قال لها بلطف مصطنع تُغلفه ابتسامة ودودة:
“أأنتِ الآنسة دينا؟ مالك لا يزال في الحمام… وقد طلب مني أن أدعوكِ للانتظار في الفصل.”
راقبته بأعينٍ نصفها حذر ونصفها إعجاب ثم قالت بخفة:
“حسنًا…”
استدارت بخطوات بطيئة تتبع أثر كلماته غير منتبهة للابتسامة المرحة التي ارتسمت على وجه الصبي، تلك الابتسامة التي تُشبه لغزًا يُوشك أن يُكشف.
وفي مكان آخر من المشهد…
وصلت سيرين وكوثر إلى الروضة في ذات الوقت قاصدتين زكريا.
لكن ما إن توقفت السيارة عند المدخل حتى لاحظتا أن شيئًا غير معتاد يحدث إذ تجمهر عدد كبير من الناس، هواتف مرفوعة، وكاميرات تلتقط صورًا كما لو أن نجمًا عالميًا قد هبط للتو من السماء.
نطقت كوثر بقلقٍ واضح تتفحص الوجوه حولها:
“ما الذي يجري هنا؟”
ثم التفتت إلى سيرين وقالت بحزم:
“انتظري هنا في السيارة، سأذهب لإحضار زاك بنفسي.”
“بالطبع.”
لطالما التزمت سيرين بالبقاء في السيارة في مثل هذه المواقف كأنها تعرف أن هناك أشياء لا تُروى فقط تُحس.
خرجت كوثر من السيارة وبدأت تشقّ طريقها بين الحشد وعيناها تلتقطان تفاصيل الوجوه، وأذنيها تلتقطان الهمسات التي تُقال بين الأنفاس…
كلمات مبهمة لكنها كافية لتُشعل في صدرها قلقًا خامدًا على وشك الاستيقاظ.