رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة الفصل 57

عشق لا يضاهى

الفصل 57  

نقل ماهر كل ما اكتشفه إلى طارق بصوت منخفض كأنه يهمس بأسرار الكون في أذنه:  

“كوثر؟ وريثة العائلة العريقة؟ تلك التي خُطَّ اسمها على جدران المجالس المخملية؟ والسيدة تهامي؟ كانتا زميلتان في الجامعة نفسها؟ حسنًا… اسمع، السيدة كوثر قد غادرت البلاد فور تخرجها ثم عادت بعد فترة وجيزة من عودة السيدة تهامي… لكن ما كشفته—وهنا تكمن المفاجأة—أن كوثر لم يكن قلبها جامدًا كما يظن الجميع. لقد انشغل فكرها بشاب كان يشاركهم مقاعد الدرس يُدعى نادر، وأظن بل أكاد أجزم أن سبب إقحامها للسيدة تهامي في هذا الموعد الأعمى بدلاً عنها، لم يكن سوى حبها للسيد نادر.”  

تسللت هذه الكلمات إلى أذن طارق كأنها سمٌ حلو المذاق لم يعلّق ولم ينبس بكلمة فقط تمادى في صمته، بينما عيناه تأرجحتا بين الظلال إذ كان ذهنه يكتب سيناريوهات ويربط الخيوط ويُعيد ترتيب الأوراق المحترقة.  

ارتدى طارق ملابسه الجديدة بحركة رتيبة كمن يرتدي قناعًا إضافيًا يخفي وراءه أفكاره ثم نزل إلى الطابق السفلي.

وهناك على مرمى نظره وقف ظافر ودينا… كان مشهد متقن كلوحة زيتية هو بوقفته الواثقة وهي بنظراتها الناعمة التي لا تخلو من الخبث، يبدوان كزوجين خرجا لتوّهما من قصة حب خُطَّت بمدادٍ رومانسيٍّ مُتقن.  

توقف طارق لثوانٍ وكأن قدميه التصقتا بالأرض يتأمل المشهد قبل أن يقرر بصمت مطبق ألا يخبر ظافر بما حدث ذلك اليوم، فببساطة بعض الحقائق تظل أكثر أمانًا حين تبقى طي الكتمان.

في تلك الأثناء ارتجف هاتف سيرين بين يديها مُعلنًا عن اتصالٍ من كوثر، كان صوتها على الطرف الآخر مشوبًا بالشجن كأنها تحاول إخفاء حزنٍ يفيض من بين كلماتها رغمًا عنها، وتمتمت تقول بخفوت:

“سأعود إلى المنزل الليلة يا سيرين.”

ترددت سيرين للحظة ثم سألت بصوتٍ حذر وكأنها تخشى الإجابة:  

“كيف كان الأمر؟ هل وجدته؟”

ارتجفت أنفاس كوثر للحظة كأنها تبتلع غصةً مريرة عالقة في حلقها ثم همست بصوتٍ خافتٍ كنسمةٍ باردة تسللت عبر نافذةٍ مواربة:  

“أجل… وجدته.”

صمتت كوثر للحظات كأنها تجمع شتات نفسها قبل أن تضيف بصوتٍ أكثر وهنًا:  

“لكنه الآن يواعدُ أخرى، انتهى الأمر.”

لم تجد سيرين ما تقوله، فكيف يمكن للكلمات أن تُضمد جرحًا لا يُرى لكنه ينهش القلب كحيوان مفترس؟  

أحسّت كوثر بالصمت المُربك فحاولت الهروب منه بتغيير الموضوع، لتقول بمرح مصطنع:  

“دعكِ مني، أخبريني… كيف كان موعدك الأعمى؟ أتمنى أن ذلك الرجل لم يُزعجك.”  

أطلقت سيرين زفرةً خانقة ثم نظرت عبر النافذة إلى الشمس التي كانت تُلقي بآخر خيوطها على الأفق وكأنها تودّع يومًا كان ثقيلاً على القلب.  

“إنها قصة طويلة…” قالتها وكأنها تؤجل البوح ثم أضافت:  

“سآتي الليلة لرؤيتكِ أنتِ وزاك، ويمكننا التحدث حينها.”  

“حسنًا… سأنتظركِ.”، تلك كانت عبارة كوثر الأخيرة قبل إنهاء المكالمة

***

حين عادت كوثر إلى المنزل مساءً ارتدت قناع الصمود بإتقان، ولم تأتِ على ذكر نادر كأنه لم يكن أو كأنها قد محته من دفتر ذاكرتها بيدٍ مرتجفة.  

أما سيرين وزكريا؟ لم يسألا إذ لم يُرد أحدٌ أن ينبش الچرح قبل أن يلتئم أو بالأحرى قبل أن تتقن كوثر خداع نفسها بأنه قد التأم.  

وبدلاً من ذلك حدّثتهم سيرين عن لقائها المرتقب ذلك اليوم.  

عندما نطقت سيرين باسم طارق اتسعت عينا كوثر دهشة ثم زفرت ببطء:  

“طارق؟ لم أكن أعلم أنه سيكون هو العريس المنتظر، كان عليّ أن أسأل والدي قبل أن أطلب منكِ الذهاب بدلاً مني.”  

ثم هزّت رأسها بأسف كأنها تلوم نفسها على هذا المصادفة غير السعيدة.  

لكن سيرين بعينين يملؤهما الحيرة، قالت:  

“أنا فقط قلقة من أنه قد ينتقم منك.”

قهقهت كوثر بسخرية محاولةً أن تبدو غير مكترثة:  

“اڼتقام؟ إنه رجلٌ ناضج، هل تعتقدين حقًا أنه قد ينحدر إلى هذه الدرجة ليُهاجمنا نحن الاثنين؟”

لكن سيرين لم تشاركها الاستهانة بل تمتمت بشيءٍ من التوجّس:  

“كنت أظن ذلك أيضًا، لكن طارق كان مستعدًا لفعل أي شيء من أجل دينا.”

كان في صوت سيرين لجلجة خفيفة كمن يتذكر مشهدًا لم يكن يتمنى رؤيته.

بينما كان زكريا غارقًا في صفحات كتابه تجاذبت أذناه أطراف الحديث من حوله لكنه ظل صامتًا متظاهرًا بعدم الاكتراث.

في تلك الأثناء لم تكن عيناه على الكلمات بقدر ما كانت يده تتحرك بخفة كأنها عازف بيانو يضغط على مفاتيح غير مرئية يرفع الصورة التي التقطها لطارق في الليلة الماضية ويُلقي بها في بحر الإنترنت المترامي حيث لا يعود للسر مكان.  

وبينما تسلل الليل مودِّعًا المدينة حمل الصباح مفاجأة مدوية إذ تفجَّرت مواقع الأخبار بعناوين جريئة أبرزها واحد ېصرخ:  

“السيد طارق الثري العريق يتبول على نفسه بعد ليلة حمراء من السُّكر!”  

وتحته، صورة مُهينة لطارق وهو يتهادى في ردهات الفندق وسرواله مخضب بالنبيذ الأحمر وكأنه سفينة غارقة وسط محيط من الضحك الساخر.  

***

في شقتها استيقظت كوثر على همسات الإشعارات التي غمرت هاتفها وبينما لم تكد تُزيح الغطاء عن جسدها حتى وقعت عيناها على الخبر.

لحظة صمت أعقبتها انفجار ضحكة مجلجلة أيقظت سيرين من شرودها فدفعت كوثر الشاشة أمامها قائلة:  

“سيرين، أنظري لهذا!”

ضحكت كوثر وهي تتأمل الصورة بذهول قبل أن تهتف بتهكم:

“أهذه عدالة كونية أم مجرد مصادفة ساخرة؟”  

بينما علّقت سيرين وهي تهز رأسها بعدم تصديق:

“من تجرّأ على هذا؟ صاحب قلب من حديد!”  

***

أما في مكتب طارق فقد كان المشهد أشبه بعاصفة قبل أن تهطل الأمطار.

إذ وقف أمام النافذة وعيناه مسمّرتان على الأفق كأنما يبحث فيه عن ثغرة يهرب من خلالها من هذا العاړ الفادح.

كان وجهه متحجّرًا داكنًا كأنه سُحب كثيفة تتوعد بعاصفة، وبجواره وقف ماهر متوترًا يبحث عن الكلمات المناسبة ليمتص الڠضب المتفجّر أمامه:  

“لقد أزلنا المنشور، سيدي، ولكن…”

استدار طارق نحوه ببطء وعيناه كجمرتين تتراقصان تحت رماد الڠضب وقال بصوت حمل من الوعيد ما يكفي لإشعال المدينة:  

“من فعل هذا بحق الچحيم؟ هل توصلتم إليه؟”  

بلع ماهر ريقه بصعوبة قبل أن يرد بحذر:  

“الفاعل محترف استخدم عنوان IP مزيفًا وفريق التقنية خاصتنا حاول التتبع منذ الصباح لكن لا أثر له.”  

قبض طارق على حافة مكتبه حتى أبيضت مفاصله يتنفّس ببطء ثم تمتم وصوته ينذر بعاصفة:  

“حين أكتشف من فعلها سأجعلهم يتبولون فعلاً… لكن هذه المرة من الخۏف.”  

ثم ألقى أوامره الأخيرة ببرود قاټل:  

“لا أريد أن أرى هذا النوع من الأخبار يتصدر مجددًا… واضح؟”  

أجابه ماهر بتوجس:

“أوامرك سيدي.”  

***

وفي مكان آخر استيقظ زكريا على نغمة الإشعارات فمدّ يده إلى حاسوبه المحمول وحين تفقد الأخبار اكتشف أن كل ما نُشر عن طارق قد اختفى كما لو لم يكن قط.  

ابتسم لنفسه، يقول بوعيد:

” صحيح أن الجولة الأولى قد انتهت لكن الحړب… لم تبدأ بعد.”  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top