سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة الفصل الرابع حصري على موقع دريمسيز

Prewedding

هذه الرواية حصري على موقع دريمسيز، ممنوع النسخ منعاً باتاً نظراً لحقوق الملكية الفكرية ومن يخالف ذلك سيخضع للمسائلة.

داخل إحدى الشركات الكبرى لتجارة الأدوية والمستحضرات الطبية، يجلس واحدٌ من كبار رجال الأعمال على كرسيّ مكتبه، وعيناه المحاطة بالتجاعيد تطالع باهتمام شاشةً مسطحة بعرض الحائط.

لكن تلك الشاشة لا تعرض أفلامًا ولا منوعاتٍ، كي يَشْخص بها هكذا بتركيزٍ، كل ما يظهر عليها أرقامٌ ورموز، تبدو كلوغريتماتٍ وطلاسمٍ مبهمة.

بيده البارزة أَوْردتها سيجارٌ كوبيّ مشتعل، زاويًا ما بين حاجبيه يراقب بإمعانٍ، وعيناه تستهدف رمزًا معينًا ضمن الرموز، يجاوره رقم يندرج تحت علامة الدولار، وبتغير هذا الرقم يصعد ويهبط الشريط الحاوي للرمز.

بصعود الشريط تنبلج أساريره، ويظهر هذا جليًا على ملامح وجهه.

وبهبوطه تبدأ جبهته في التعرق، ويديه بالإرتجاف.

إلى أن بدأ هذا الشريط بالهبوط تدريجياً ولم تقم له قائمةً مرةً أخرى، فأصبح يندرج بآخر القائمة.

ثوانٍ وتلاشى الشريط نهائياً.

تلك كانت لائحة بأسعار أسهم الشركات التابعة لرجل الأعمال “نيكولاس هانز” على المنصة التجارية للبورصة.

هبوط الشريط الذي يحمل رمز مجموعة الشركات المالك لها، يعني انخفاض سعر الأسهم، ولكن يبقى هناك أملٌ في ارتفاعها تدريجياً، وحتى ثبات السعر، وإن كان يعني خسارته الفادحة، إلا أن تواجد شريط الرمز يعني تواجده في لائحة التداول.

أما تلاشيه هذا يعني إعلانًا مقدمًا عن إفلاسه القريب، وسيتم الحجز على جميع ممتلكاته،
وقد لا تكفى.

مما يترتب عليه عرض أصول تلك الشركات التابعة له بمزادٍ علنيٍّ تحدده تلك البنوك المدين لها والأخرى التابع لها المساهمين؛ وذلك لسداد مديونيته للبنوك ومستحقات المساهمين بالشركة، وهذا يعني أنه مدينٌ بالمليارات، وإذا لم يقم بالسداد سيلجأ المساهمون لرفع دعوة قضائية ضده، ليست دعوةً واحدة بل دعوات.

كل دعوةٍ منها ستزجه في السجن لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

انقباضة في صدره، مع تباطئ وتيرة تنفسه، ووغزة بجانبه الأيسر ناحية القلب، هذا ما يشعر به، يحاول تكذيب عينيه، يتمنى أن يكون كل هذا هلاوسٌ سمعية وبصرية، امتدت يده إلى رباطة عنقه، يريح انعقادها عَلّه يقوى على التنفس.

واليد الأخرى تسحب مقبض أحد أدراج مكتبه يخرج علبةً زجاجية بها أقراص طبية؛ لتحسين وظائف القلب.

فمنذ أن بدأ بالمشاركة في تلك المضاربات، ووظائف قلبه في تدهور مستمر.

أخذ يلوم حاله، قائلًا:

-ارتحت الآن؟! ضاع ما بنيته في سنوات بلحظة واحدة، مالك ومال تلك المضاربات اللعينة؟!
كان حالك أفضل بالسابق، وأمورك تسير علي خير ما يرام، مخاطراتك بالسابق عندما كنت تستورد تلك الحبوب المخدرة بعد تغيير لاصق المنتج المدون عليه الاسم والإستخدام، أو تلك الأقراص المنشطة مهما بلغت خسائره حينها لم يفد بك الحال إلى ما آل إليه الآن.

دس قرصيْن من تلك الحبوب في فمه، ملتقطًا زجاجة المياه المعدنية الموضوعة جواره على المكتب يرتشف بعضاً منها، وبسبب تلك الرجفة التي داهمت أطرافه، أخذت المياه تتساقط على جانبي فمه.

مبللةً تلك السترة الأنيقة والتي تحمل إحدى العلامات التجارية باهظة الثمن لواحدةٍ من أشهر دور الأزياء العالمية.

رفع زجاجة المياه مرةً أخرى إلى فمه، فلازالت تلك الأقراص عالقةً به؛ بسبب جفاف حلقه، فوقع بصره على تلك الصورة الفوتوغرافية العائدة إليه وبرفقته واحد من زملاءه في الدراسة، ولازال الود قائمًا بينهما حتى الآن.

إنه “ويلسون” أستاذ علم الأحياء بكلية العلوم جامعة “بريستون” الأمريكية، صاحب الفضيحة الشهيرة التي قامت الجامعة على إثرها بفصله وشطب اسمه من نقابة “المهن العلمية”.

حيث قام بممارسة إحدى تجاربه على واحد من طلاب صفه، وبرغم نجاح التجربة التي كانت موضوع رسالة الدكتوراة التي اعتمدتها نفس الجامعة.

إلا أن نقابة “العلميين” أدانته في عدم أحقيته بإجراء مثل هذه التجارب على بني جنسه، دون إذن كتابي من المتبرع بالمساهمة في إجراء التجربة بشرط موافقة الجهات المختصة وبمعاونة فريق عملٍ كامل.

هذا العالِم المهووس أقر بقدرته على التحكم بوظائف الجسد الحيوية وإمكانية تجميدها لفترةٍ زمنية بعيدة الأمد، وذلك بوضع المساهم في التجربة على جهاز اخترعه هذا العالم.

وبالفعل تمكن من إيقاف عمل الدورة الدموية لجسم المساهم، و بإجراء الكشف الطبي عليه أقر الطبيب القائم بالفحص، أن هذا الشخص قد فارق الحياة.

فانتشرت أخبار تلك التجربة بكل وسائل الإعلام، مثيرة جدل غير معهود بكافة الأوساط العلمية والطبية، منهم من يدين تلك التجارب، ومنهم من يشيد بفوائدها لخدمة البشرية.

وقد زاد الأمر سوءًا، عندما قامت عائلة هذا الطالب بتحرير شكوى ضد هذا العالِم، وأتهمته بالقتل العمد، وبالفعل تم إلقاء القبض عليه بمعمله في حضور عدد كبير من الصحفيين الذين جاءوا من أجل تغطية الخبر، وبسؤال العالم الذي لم ينكر قيامه بهذه التجربة.

أكد قدرته على إحياء تلك الوظائف الحيوية للمساهم مرةً أخرى، وحَظَّر من فصله عن هذا الجهاز، لحين سماح النيابة العامة بخروجه لإتمام تلك التجربة اللعينة، تحت تشكيك كل الدارسين والعاملين في هذا المجال بإمكانية نجاحه في ذلك الأمر.

يُشْهد الرأي العام أنه قادر على فعلها، ومن يقوم بعرقلة إتمام تجربته، فهو الجاني على هذا الشاب، الذي تعلقت أسرته في أمل نجاح التجربة، وعودة ابنهم إلى الحياة مرةً أخرى، فطالبت هذه الأسرة النيابة العامة بإخلاء سبيله كفرصةٍ أخيرة؛ ليثبت صدق أقواله.

بعد صدور قرار النيابة بإخلاء سبيله المشروط بعد عشرين يوم قضاها هذا المساهم على ذاك الجهاز في غرفةٍ معقمة، نقل إليها كما هو على نفس الوضعية بإحدى المستشفيات التابعة لكلية الطب بذات الجامعة.

توجه هذا العالم “ويلسون” مكبلًا بالأصفاد تحت حراسةٍ مشددة إلى ذاك المشفى الموجود به الجهاز، يرقد بداخله جثمان هذا الشاب، وقد حافظ هذا الجهاز على جثته وحال دون تحللها وتعفنها، الأمر الذي تعجب له سائر من أشرف على هذه الغرفة من طاقم الأطباء و الممرضين.

وإذا كانت عقلية “ويلسون” الفاذة قد خانته في البداية؛ لجهله بتلك الإجراءات القانونية عندما شرع في هذه التجربة، فأقر بعدم وقوعه في نفس الخطأ مرةً أخرى.

فعندما أصبح داخل المشفى أمام تلك الغرفة، توقف ساعده قبل أن يصل كفه إلى مقبض باب الغرفة، مستديرًا يقابل الحشد المُجتمِع في رواق الممر الموجود به الغرفة، قائلًا:

-لن أقوم بفعل شيء قبل حضور المحامي الموكل بالقضية؛ ليعقد إتفاقًا قانونيًّا بموجبه يتنازل المُدعون في هذه القضية عن شكواهم ضدي وعدم المطالبة بأية حقوقٍ مدنية.

وقد كان، وامتثلت لرغبته عائلة الشاب، فتقدم المحامي الحاضر بالفعل وسط هذا الحشد، يجلس على أحد المقاعد، يخرج من حقيبته بضعة أوراق دَوَّن بها تنازلًا خطيًّا، وقع عليه كل المتواجدين من عائلة هذا الشاب.

وبعد ذلك دخل “ويلسون” إلى الغرفة، حالما فُكَّ قيده، رافضًا السماح لأحدٍ من الحضور بالولوج إليها، سواء كان فرد من العائلة المنكوبة، أو أحد الأطباء العاملين بالمشفى؛ متعللًا برغبته في الحفاظ على سرية هذه التجربة لحين توثيقها بشكلٍ قانونيّ.

طالبًا ما يحتاجه من أدواتٍ ومواد كيميائية، وفرتها له إدارة المشفى بأمرٍ من النيابة العامة.

لم يستغرق الأمر بالداخل ساعة واحدة، وقد خرج “ويلسون” من الغرفة سامحًا بالدخول لمَن بالخارج، فدخل والد الشاب، والطبيب المشرف على الحالة، وواحدٌ من مساعديه، وكذلك عددٌ من المراسلين الصحفيين لإحدى أشهر محطات البث الفضائي.

تجمدت أطراف الوالجين، عندما وجدوا من أقر الأطباء بوفاته، جالسًا داخل هذا الجهاز، والذي يشبه في تركيبه التابوت.

هرع والده إليه يقبل كل إنشٍ بوجهه، وعيناه تزرف دموعهما بفرحٍ، وأعين الجميع جاحظة بعدم تصديق، فما يحدث الآن فاق كل توقعاتهم، فكيف لميت أن يبعث مرة أخرى إلى الحياة؟!

بعد خروج “ويلسون” قامت أفراد الأمن الموكلة بحراسته بتكبيله مرةً أخرى؛ استعداداً لإعادته إلى سرايا النيابة، ولكنه أبى التحرك دون تقرير طبي من الطبيب المشرف مختومًا من إدارة المشفى؛ ليعزز موقفه أمام النيابة وليقوم المحامي بطلب ضم التقرير والتنازل الذي وقعه أسرة الشاب إلى ملف القضية.

وبعد أسبوع من وضع هذا الشاب تحت الملاحظة، وتأكيد الأطباء على استقرار حالته، وعدم وقوع ضرر عليه جراء ما حدث، قامت النيابة بإخلاء سبيل “ويلسون” بعد سقوط الإدعاء، وإثبات عدم الضرر بالأدلة والشواهد.

مع إلزامه بعدم مزاولة المهنة وإيقافه عن العمل ومنعه التدريس بأية جامعة سواء حكومية أو خاصة.

ولكن هذا لم يفقده شغفه وجنونه، فلازال دؤوب البحث، يجري تجاربه الخارقة على الحيوانات، بمعملٍ أعده وجهزه بمنزله على أعلى مستوى، يفكر كيف يستفيد بمهاراته وعلمه في جمع المال، مادام فشل بتحقيق الذات، غير عابئٍ بالطريقة كل ما يهمه الآن المال وحسب.

وقد زاد نبذه بعد تلك الحادثة من عدوانيته، فانتابته حالة من الهوس تقُوده إلى رغبةٍ في الدمار والخراب.

وذات يوم منذ ما يقارب شهر، توجه إلى مكتب صديقه “نيكولاس”، بعد أن هاتفه، طالبًا مقابلته لأمرٍ هام، قد يدر على كليهما مالًا كثيراً.

ونظرًا لجشع “نيكولاس” وحبه للمال؛ وافق على الفور.

وتمت المقابلة التي شرح فيها المهووس للإنتهازي تلك الفكرة الخبيثة التي طرأت بخاطره، وهي أن يقوم “ويلسون” بتخليق نوعاً من الفيروسات يهاجم إنزيمات الدم المحملة بالأكسچين، مسببًا حالة من الإرهاق، والضعف الشديد لحامل الفيروس، تسمى تلك الحالة “البورفيريا”، مخفيًا عنه الأعراض الأخرى لتلك الحالة.

وكذلك سيقوم بإعداد تركيبة الترياق المعالج للحالة، حيث يقومان بنشر هذا الفيروس بين الناس؛ لتحتكر شركات “نيكولاس” إنتاج هذا المصل، ويزيد الطلب على هذا العقار، ومن ثم تتضاعف مبيعات شركاته، محققًا أرباح خيالية في وقتٍ قصير، على أن يتقسما الأرباح فيما بينهم مناصفةً.

في تلك الأثناء لم ينجذب “نيكولاس” للفكرة، خاصةً وأن تلك المضاربات في البورصة العالمية، يجني من وراءها أموالًا طائلة، فما حاجته أن يشاركه أحداً في أرباحه.

أما الآن فهو بحاجة لأي وسيلة تعوضه خسارته الفاضحة فإن استطاع التفاوض مع المساهمين؛ لمنحه بعض الوقت، وتمكن من تأخير الإجراءات البنكية المتخذة في حالته تلك، لن يستطع المراوغة لفترة طويلة، فعليه الإسراع ل”ويلسون” ليشرعا في تنفيذ مخططاتهما الدنيئة.

عودة إلى مكتب “نيكولاس” الذي دبت بجسده الحياة؛ بعد لحظات شروده تلك.

ينتصب من مجلسه، ملتقطًا هاتفه ومفاتيح سيارته، يركض بلهفة شاب في ريعان شبابه، خارجًا من مقر شركته.

ولم ينتظر حتى يهاتف السائق، وإنما استقل سيارته منطلقًا بها، مخلفًا وراءه سحابة من الغبار الناجم عن احتكاك إطارات سيارته المسرعة بالأسفلت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top