“الظل في الزجاج”
كانت أجواء الشتاء القارسة قد حلّت على المدينة، وكان الثلج يتساقط بغزارة على الأرض، ليغطي كل شيء بطبقة بيضاء كالحرير. في أحد الأحياء الهادئة، كان منزل قديم يقبع في الزاوية، حيث لا يكاد أحد يمر من هناك. كان هذا المنزل مهجورًا منذ سنوات طويلة، ولم يعد يجرؤ أحد على الاقتراب منه. بعض القصص تقول إنه كان يسكنه أشخاص غريبو الأطوار، وآخرون يذكرون أنهم رأوا نوافذه مغلقة، وأن الضوء لم يدخلها منذ زمن بعيد.
لكن ما لم يكن يعرفه الجميع، هو أن تلك الجدران كانت تحتفظ بسر مظلم.
ذات مساء، بينما كانت الرياح تعصف بالأشجار، قررت “هالة” زيارة هذا المنزل الذي طالما سمعته في قصص الجيران. كانت دائمًا تشتاق للمغامرة، ولا تخاف من الأماكن المهجورة. بمجرد أن وقفت أمام الباب المتهدم، شعرت بشيء غريب في الهواء، وكأن الهدوء الذي يلف المكان يخفي وراءه شيئًا غير طبيعي. لكن الفضول دفعها إلى طرق الباب.
لبت الرياح دعوتها وأغلقت الباب خلفها بشدة، مما جعل قلب هالة ينبض بشكل أسرع. فجأة، ارتفع صوت خشب الأرضية المتهالك تحت قدميها. كانت خطواتها تُسمع في كل زاوية من زوايا المنزل، وكأن كل خطوة تؤدي إلى أسرار قديمة دفنت تحت الأنقاض.
في الطابق العلوي، وجدت غرفة صغيرة، مليئة بالغبار والمخلوقات الصغيرة التي كانت تختبئ في الزوايا. لكن ما جذب انتباهها أكثر كان مرآة كبيرة كانت تغطي الجدار بأكمله. كان سطحها مغطى بغطاء من الغبار، ولكن بلمسة واحدة، تحرك الغبار عن الزجاج ليكشف عن انعكاسها.
وعندما نظرت هالة في المرآة، شعر شيء غريب في قلبها. لا شيء كان في البداية غير عادي. ولكن سرعان ما بدأ انعكاسها يتغير ببطء. كان وجهها في المرآة يبتسم بطريقة غير مألوفة، رغم أن وجهها الحقيقي كان في حالة من الرعب. حاولت هالة أن تبتعد عن المرآة، لكن ظلها بقي فيها، يتمايل ويبتسم بشكل غير طبيعي.
في تلك اللحظة، سمعت صوت خطوات قادمة من الطابق السفلي. ظنّت هالة في البداية أنه ربما يكون أحدهم قد دخل المنزل دون أن تراه، لكن الصوت كان غريبًا جدًا. كان يشبه الصوت الذي يصدره شخص يسير على أطراف أصابعه.
تسارعت خطواتها نحو السلم، وفي اللحظة التي وضعت قدمها على الدرجات القديمة، شعرت بشيء يلامس عنقها برفق. التفّت بسرعة، لكن لم يكن هناك شيء، فقط الظلام الدامس الذي ملأ المكان. استمرت في صعود الدرجات، لكن الصوت كان يلاحقها، يقترب مع كل خطوة.
عندما وصلت إلى الطابق العلوي، رأت شيئًا لم تكن تتوقعه. كان هناك شكل غريب يقف أمامها، ضبابي وغير واضح. فجأة، تجمدت الأنفاس في صدرها. كان ذلك الشيء يحدق بها بنظرات مظلمة مليئة بالكراهية. كانت عيناه مظلمتين، لا حياة فيهما، وكأنهما يغليان من داخلها.
“من أنت؟” همست هالة بصوت مرتجف.
لكن الإجابة كانت صمتًا مطبقًا، فقط زفير بارد يخرج من الظل الذي بدأ يقترب منها. بدأت الحواف الظلية تتحرك، وتبدأ في الانسحاب نحو زوايا الغرفة، تمامًا مثل شيء لا يمكن رؤيته، ولكن هالة كانت تشعر به، يحيط بها من كل جانب.
ثم حدث شيء لا يمكن تفسيره. تحركت المرآة فجأة، وكأنها كانت تعيش بنفسها. تجسدت صورة غريبة في داخلها، وكانت هالة ترى ما لا يمكن تصوره. كانت صورة لامرأة، ولكن ملامحها كانت مشوهة، وعيناهما مليئتان بالحقد، وكأنها كانت تنتقم.
“اذهبي من هنا!” همست هالة في خوف، لكنها لم تستطع الهروب. الظلال بدأت تلتف حولها، وكأنها كانت تُسحب إلى داخل المرآة. حاولت أن تبتعد، لكنها كانت محاصرة بين جدران الظلام.
وفجأة، توقفت الظلال، وكان هناك صوت خافت يتسرب من خلفها، الصوت الذي كان يأتي من المرآة. “هل تريدين معرفة الحقيقة؟”
التفتت هالة بسرعة نحو مصدر الصوت، وفي تلك اللحظة، هزّت الأرض، واندفع من الزجاج شيء مظلم، شيء ضخم، وقوي. كان كائنًا غير بشري، وكان يتشكل من الظلال والأشباح التي تمزقت عبر الزمن.
“أنتِ تجرئين على الدخول إلى هذا المكان، ولكنك لا تفهمين.” قال الكائن بصوتٍ عميق ومرعب.
حاولت هالة الهروب، ولكن الجدران كانت تضيق حولها، وكأن المكان قد أصبح سجنًا لا يمكن الفرار منه. وعندما نظرت في المرآة مجددًا، رأت شيئًا مروعًا: كانت صورتها قد تغيرت، وجهها أصبح مشوهًا، وأعينها مليئة بالكراهية، تمامًا كما كانت تلك المرأة التي رآتها في البداية.
أدركت هالة الآن أن المرآة كانت حبيسة أرواح قديمة، وأنها كانت تعكس ظلال الماضي، تلك التي ظلت تحوم في هذا المنزل لعقود طويلة. والأرواح التي كانت في تلك المرآة أرادت أن تكون حرة، وكانت تستخدم هالة لكي تحررها.
بصوتٍ خافت، قالت هالة لنفسها: “لن أخرج من هنا أبدًا، سأظل في الزجاج، سأكون جزءًا من هذا الظل إلى الأبد.”
ومع تلك الكلمات، تحولت صورتها في المرآة، وأصبحت جزءًا من الظلام الذي لن يتركه أحد أبدًا.