تنقية مياه الشرب: الأساليب، الأهمية، والتحديات المعاصرة
تعدّ مياه الشرب الآمنة من الضرورات الأساسية لاستمرار الحياة والحفاظ على صحة الإنسان، كما تُعدّ من المقومات الحيوية للتنمية المستدامة والاستقرار البيئي والاجتماعي. ومع تزايد التحديات العالمية المرتبطة بتلوث المياه والتغيرات المناخية والنمو السكاني السريع، بات من الضروري تسليط الضوء على مسألة تنقية مياه الشرب، بوصفها حجر الأساس في الجهود الرامية لضمان توفير المياه النظيفة للجميع.
أولًا: أهمية تنقية مياه الشرب
إنّ مياه الشرب النقية ليست ترفًا بل حقٌ إنساني أساسي أقرّته الأمم المتحدة، فهي ضرورة قصوى للحفاظ على الصحة العامة ومكافحة الأمراض. فالمياه الملوثة تتسبب سنويًا في ملايين الإصابات بالأمراض المنقولة بالمياه مثل الإسهال، الكوليرا، الزحار، والتيفوئيد، خاصة في البلدان النامية. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من ملياري شخص حول العالم يستخدمون مياهًا شربًا ملوثة بالبراز، وهو ما يؤدي إلى وفيات تُقدّر بنحو نصف مليون حالة سنويًا.
وتنعكس آثار تلوث المياه على التنمية الاقتصادية أيضًا؛ إذ تتسبب في ارتفاع التكاليف الصحية، وانخفاض إنتاجية الأفراد، وزيادة الأعباء على الحكومات والأنظمة الصحية. كما أن نقص المياه النظيفة في المدارس والمرافق العامة يؤثر سلبًا على جودة التعليم والبيئة العامة، مما يزيد من حدة الفقر وعدم المساواة.
ثانيًا: أساليب وتقنيات تنقية مياه الشرب
تُستخدم العديد من الأساليب لتنقية المياه، تختلف باختلاف مصادرها (سطحية أو جوفية أو مياه بحر)، وطبيعة الملوثات الموجودة فيها. وتُطبّق هذه التقنيات على مراحل متتالية لضمان تحقيق أعلى درجات النقاء والسلامة.
1. الترسيب والترويق
في البداية، تمر المياه بمرحلة الترسيب لإزالة المواد العالقة الثقيلة مثل الرمال والطين، حيث تُترك المياه في خزانات كبيرة لفترة معينة لتترسب الجزيئات الصلبة في القاع. وفي بعض الأنظمة، تُضاف مواد كيميائية مثل الشبة لتسريع عملية الترويق عبر تكوين كتل قابلة للترسيب تُعرف بـ”الندف”.
2. الترشيح
تلي عملية الترسيب مرحلة الترشيح التي تهدف إلى إزالة الشوائب الدقيقة المتبقية. وتتم هذه العملية عادة باستخدام فلاتر رملية أو كربونية. تعمل الفلاتر الرملية على احتجاز الجزيئات الصغيرة، بينما تمتص الفلاتر الكربونية المواد العضوية التي قد تؤثر على طعم ورائحة المياه. وقد تُستخدم أيضًا فلاتر ميكانيكية دقيقة أو أغشية نانوية في الأنظمة المتقدمة.
3. التعقيم والتطهير
تهدف هذه المرحلة إلى القضاء على الكائنات الحية الدقيقة من بكتيريا وفيروسات وطفيليات. وتُستخدم عدة طرق للتعقيم:
- الكلورة: وهي الطريقة الأكثر شيوعًا، حيث يُضاف الكلور بنسبة مدروسة لقتل الميكروبات. إلا أن لها بعض العيوب، مثل التفاعل مع المواد العضوية لتكوين مركبات ثانوية قد تكون ضارة.
- الأشعة فوق البنفسجية (UV): تقنية فعالة ولا تترك أي آثار كيميائية، لكنها تتطلب صيانة دقيقة ونقاءً بصريًا للمياه.
- الأوزون: غاز يستخدم كمطهّر قوي، ويتميز بقدرته على إزالة الطعم والرائحة، غير أنه مكلف ويتطلب تجهيزات خاصة.
4. التناضح العكسي (RO)
يُعد التناضح العكسي من أكثر التقنيات تقدمًا في مجال تنقية المياه، حيث تُجبر المياه على المرور عبر أغشية شبه منفذة تقوم بحجز الأملاح والمعادن الثقيلة والملوثات الدقيقة. وتُستخدم هذه التقنية على نطاق واسع، خصوصًا في تحلية مياه البحر والمياه المالحة، لكنها تحتاج إلى طاقة عالية وصيانة دورية.
5. التحلية
في المناطق التي تعاني من شحّ الموارد المائية العذبة، تُستخدم تحلية مياه البحر أو المياه المالحة كحل بديل. وتتم التحلية إما عبر التقطير (التبخير ثم التكثيف) أو باستخدام الأغشية (مثل تقنية RO). وعلى الرغم من فعاليتها، إلا أن تكلفتها العالية ومشاكل التصريف البيئي للمياه المالحة المتبقية تُعد من أبرز التحديات.
ثالثًا: التحديات المعاصرة في مجال تنقية المياه
مع تطور الزمن وتعقّد المشهد البيئي والتكنولوجي، برزت مجموعة من التحديات التي تعيق جهود تنقية المياه، نورد منها ما يلي:
1. التلوث الصناعي والزراعي
تُعد المخلفات الصناعية والمبيدات والأسمدة الزراعية من أبرز مصادر تلوث المياه، إذ تحتوي على معادن ثقيلة ومواد كيميائية يصعب إزالتها بالوسائل التقليدية. وتتطلب هذه الملوثات حلولًا متقدمة وتقنيات خاصة مكلفة، ما يشكّل عبئًا على محطات التنقية.
2. نقص البنية التحتية
في العديد من المناطق، وخاصة في الدول النامية، تعاني شبكات المياه ومحطات المعالجة من ضعف البنية التحتية، سواء بسبب نقص التمويل أو الإهمال أو الفساد الإداري، مما يؤدي إلى ضخ مياه غير مطابقة للمواصفات الصحية.
3. التغيرات المناخية
تؤثر التغيرات المناخية بشكل مباشر على مصادر المياه، سواء من خلال الجفاف أو الفيضانات أو تلوث الأنهار والمياه الجوفية، ما يزيد من تعقيد عمليات المعالجة والتنقية.
4. المياه الملوثة بالبلاستيك الدقيق
أصبحت جزيئات البلاستيك الدقيقة (microplastics) من الملوثات الناشئة التي تُكتشف بشكل متزايد في مصادر المياه، والتي يصعب على تقنيات الترشيح التقليدية التعامل معها. ولا تزال الدراسات حول آثارها على صحة الإنسان غير مكتملة، ما يزيد من الغموض والقلق.
5. ارتفاع التكاليف التشغيلية
تشكل تكاليف الطاقة، والمواد الكيميائية، وصيانة الأجهزة تحديًا كبيرًا لاستمرارية محطات التنقية، خاصة في المناطق الفقيرة أو المعزولة.
رابعًا: الاتجاهات المستقبلية والحلول الممكنة
في مواجهة هذه التحديات، يجري تطوير تقنيات حديثة أكثر كفاءة واستدامة، مثل استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين مراقبة جودة المياه، وتطوير أغشية نانوية جديدة، واستخدام الطاقة الشمسية في عمليات التحلية. كما يُشجَّع على إشراك المجتمعات المحلية في مراقبة مصادر المياه والتوعية بأهمية الترشيد والحفاظ على النظافة البيئية.
وتُعد الشراكات الدولية وتمويل مشاريع المياه من قبل المؤسسات العالمية، كالبنك الدولي ومنظمة اليونيسف، من الأدوات المهمة لتجاوز فجوة البنية التحتية، وضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف السادس المتعلق بالمياه النظيفة والصرف الصحي.
ختامًا
إنّ تنقية مياه الشرب ليست مجرد عملية تقنية، بل هي ركيزة للعدالة الاجتماعية والصحة العامة والاستدامة البيئية. وبينما تتقدم التكنولوجيا وتتوسع المعرفة، يبقى التحدي الأكبر هو تحويل هذه الإمكانيات إلى واقع ملموس يضمن وصول كل فرد إلى مياه نظيفة وآمنة. ومن هنا، فإن تنقية المياه تُمثل قضية أخلاقية وإنسانية لا تقل أهمية عن أي قضية عالمية أخرى، وتتطلب تضافر الجهود على جميع المستويات لبناء مستقبل مائي آمن للجميع.