الفصل الثاني عشر
كانت جنى على وشك الانهيار. إحباطها بلغ ذروته، وخطواتها كانت توشك أن تأخذها بعيدًا عن المكان. لكن فجأة، اخترق سمعها صوت مألوف جعلها تتوقف وتلتفت بتردد.
نظرت بسرعة، وإذا بها ترى امرأة تقف في ردهة المبنى، تحدّق بها بنظرة مباشرة.
كانت تلك المرأة زميلتها السابقة في السكن خلال سنوات الجامعة: ليان.
ما إن التقت عيناها بليان، حتى بدت الصدمة على وجه جنى، وخرجت كلماتها متلعثمة:
“ليان؟! ماذا تفعلين هنا؟!”
ابتسمت ليان بخفة، ولوّحت بيديها وكأنها تستقبل ضيفًا عزيزًا وقالت:
“تفضّلي بالدخول، جنى.”
جنى وقفت متجمّدة، تنظر نحو الحارس، تنتظر منه اعتراضًا… لكن المفاجأة؟! الحارس أفسح لها الطريق وكأن الأمر طبيعي تمامًا. شعور من الذهول تملّكها وهي تخطو داخل المبنى بخليطٍ من الحماس والارتباك.
دخلت القاعة، ونظراتها لا تزال تبحث عن تفسير لما يحدث… وهناك رأتها بوضوح:
بطاقة هوية معلّقة على عنق ليان، وقد كُتب عليها: رئيسة الموارد البشرية – مجموعة فاضِل.
تسمرت عينا جنى على البطاقة، وهمست بدهشة ممزوجة بالحسد:
“لم أكن أعلم أنك أصبحتِ رئيسة الموارد… مذهل فعلاً.”
ردّت ليان بابتسامة ذات مغزى، وقالت بفخر مصطنع:
“نعم، كما ترين… والفضل يعود كله لـ ’زوجي‘.”
لفظت كلمة “زوجي” بنبرة تحمل شيئًا غريبًا، وكأنها تشير إلى شيء أعمق مما يبدو.
في لحظة، عادت بجنى الذكريات. أيام الجامعة حيث كانت هي – جنى – تتربع على عرش الجمال والشهرة. الجميلة الثرية ذات الحضور الطاغي. وكانت ليان؟ مجرد ظل. تابعة. مقربة، نعم، لكن دومًا في الخلفية.
ليان كانت ترى في جنى تهديدًا دائمًا. كل الأضواء كانت مسلطة على جنى، حتى أنها شعرت مرارًا بأنها غير مرئية بجانبها. إحساسها بالدونية لم يكن سهلًا.
لكن يبدو أن الزمن قلب الطاولة.
ليان، بعد التخرج، وضعت هدفًا واحدًا أمامها: أن ترتقي. بأي ثمن. تزوجت رجلًا غنيًا يكبرها بعشر سنوات. لم تهتم بالعمر، فقط بما يملكه. الثروة. النفوذ. الفرصة.
أما جنى؟ اختارت بعفوية، وتزوجت رجلًا لا يملك لا المال ولا القوة. وعندما علمت ليان بذلك، شعرت بنشوة انتصار. أخيرًا، تفوقت عليها.
لكنها لم تجد يومًا مناسبة لتُظهر تفوقها… حتى اليوم.
ها هي جنى تُطرد من مبنى شركتها، وتليان تظهر فجأة… كمن أُتيحت له لحظة نادرة لينتقم.
جنى لم تلتقط الرسائل الخفية في كلمات ليان. ابتلعت غصتها وهي تحاول أن تبتسم وتقول بتنهيدة:
“بصراحة… أنا معجبة بك.”
ليان، في داخلها، كانت ترقص من السعادة. لكنها أخفت ذلك ببراعة، وتقدّمت بلطف مصطنع، قائلة:
“تفضّلي، اجلسي.”
خلال حديثها، قادت ليان جنى نحو الأريكة المخصّصة للضيوف في زاوية القاعة، بنبرة واثقة وحضور مهيب.
“فنجانان من القهوة، من فضلك.”
قالتها لموظف الاستقبال فور جلوسهما، وكأن الأمر لا يتطلب شرحًا أو إذنًا.
جلست جنى قبالتها، تحاول إخفاء اضطرابها خلف ابتسامة خجولة. لقد تغيّر كل شيء.
ليان، التي كانت فيما مضى تلك الزميلة الهادئة، باتت اليوم امرأة قوية، تتحكم في المكان، وتصدر الأوامر بثقة الفائز.
وبعد دقائق، وصلت القهوة، فكسرَت ليان الصمت بنبرة هادئة لكن تحمل في طيّاتها خبثًا خفيًا:
“سمعتُ أنكِ تزوجتِ من رجلٍ مجنون… هل هذا صحيح؟”
رغم أنها كانت على دراية تامة بالأمر، إلا أنها تظاهرت بالدهشة، وكأنها تسمع الخبر للمرة الأولى.
احمرّ وجه جنى خجلًا، وارتبكت نظراتها. عضّت شفتيها وقالت بنبرةٍ منخفضة:
“أعتذر، لا أرغب في الحديث عن ذلك.”
لكن ليان لم تترك لها مساحة للهرب، وأضافت ببرود:
“أستغرب ذلك حقًا، فتاة مثلك كان من السهل عليها الارتباط برجل مميز… لماذا اخترتِ شخصًا أقل من مستواكِ بكثير؟”
كان السؤال كصفعة قوية. شعرت جنى حينها برغبة عارمة في الفرار. هذا الجرح بالتحديد طالما آلمها، وكان سببًا في ابتعادها عن أصدقائها وزملائها القدامى.
زواجها من رائد الهاشمي كان خطأ دفعت ثمنه غاليًا.
والآن، ها هي ليان تضع إصبعها على الجرح دون رحمة.
قالت جنى بمرارة حاولت إخفاءها:
“دعينا ننتقل إلى موضوع آخر، أرجوكِ.”
ابتسمت ليان وكأنها خرجت للتو من معركة نفسية منتصرة، ثم قالت بلطفٍ مصطنع:
“حسنًا، فلنترك الحديث عن زوجكِ… أخبريني، ما الذي جاء بكِ اليوم؟”
تماسكت جنى، واستجمعت شتات نفسها، ثم أخرجت ملفًا أنيقًا من حقيبتها، فتحته ومدّته لليان وقالت:
“هذه معلومات شركتنا بالتفصيل. جئتُ اليوم لعرض خدمات شركتي في تنفيذ مشاريع الديكور لمجموعة فاضِل. كنتُ آمل أن أجد دعمًا منكِ، فأنتِ صاحبة منصب، ومعاملتك لي كانت دومًا طيبة.”
تناولت ليان الملف، وقلّبت أوراقه بهدوء متأنٍ، ثم قالت:
“الأمر ليس سهلاً، فالطلبات كثيرة والمنافسة شرسة.”
ثم سكتت لبرهة، وأردفت بنبرة مليئة بالغرور:
“لكن… علاقاتي مع كبار المدراء ممتازة. وإن قلتُ كلمة في صالحكِ، فربما تُفتح لكِ الأبواب.”
لمعت عينا جنى بالأمل، وقالت بتلهف:
“هل يمكنكِ مساعدتي؟ أرجوكِ.”
رفعت ليان فنجان القهوة، وارتشفت منه بهدوء، ثم قالت ببرود:
“أفعل ذلك… فقط إذا توسّلتِ إليّ.”
تجمّدت جنى، لا تُصدّق ما سمعته للتو. لم تكن تتوقّع هذا التحوّل.
في الماضي، كانت ليان تلازمها وتُجاملها، بل وتسعى لرضاها.
أما اليوم؟ فالأدوار انقلبت.
باتت هي الضعيفة، وليان تمسك زمام المبادرة بكل ثقة.
شعرت جنى بمرارةٍ تعصف بقلبها، غير أن حاجتها المُلِحّة للمساعدة دفعتها إلى القبول، رغم ما كان يعتصرها من كبرياء.
تنفست بعمق، ونظرت إلى ليان بعينين يملؤهما الرجاء، وقالت بصوتٍ خافت:
“ليان… أنا بحاجة إلى هذه الفرصة. إن لم يكن من أجل العمل، فليكن من أجل ما جمعنا من سنواتٍ جميلة في الماضي.”
امتلأ قلب ليان بلذّة الانتصار. كانت تلك اللحظة التي انتظرتها طويلًا؛ لحظة ترى فيها ظهر جنى المُنحني، وكبرياءها المكسور.
لكنها أخفت ما شعرت به، وبدّلت ملامحها بسرعة مذهلة. ربّتت على الطاولة، ثم نهضت واقفة، وصاحت بنبرة غاضبة:
“لقد سمحتُ لكِ بالدخول فقط لأننا كنا زميلتين، يا جنى تيمور. لم أكن أعلم أنك تجرؤين على محاولة رشوَتي! أتعلمين أي نوع من الأشخاص تظنينني؟!”
كانت كلماتها كالصاعقة في يومٍ صافٍ، فجأةً تزلزل المكان، وتدفّق الموظفون من كل جانب ليشهدوا المشهد.
اصطفّ الموظفون في القاعة كأنهم في مسرح، يراقبون ما يجري بدهشة، وكأنهم يتابعون عرضًا غير متوقع.
أصاب جنى الذهول. وقالت بتردد وارتباك:
“ما الذي تعنينه؟ لم أفهم…”
Pingback: رواية أحببته رغم جنونه الفصل الحادي عشر – dreamses