الفصل 37
أهلًا بكم في منتجع ماونتن.
جملة قصيرة لكنها دوّت كالرعد في أذهان الحضور. للحظة، عمّ الصمت، وارتسم الذهول على الوجوه. حتى جنى نفسها فوجئت، وراودها شعور غامض يصعب تفسيره. وبينما كانت تحاول استيعاب الموقف، كان رائد يمسك بيدها ويقودها نحو ممر خاص لا يعرف عنه أحد.
رأى شيهاب المشهد من بعيد، وعيناه اتسعتا بدهشة وهو يراقب رائد وجنى يدخلان الممر الخاص. لم يستوعب ما يجري، وشعر أن الأرض تميد تحت قدميه. تمتم غاضبًا: “لماذا يُسمح لهما بالدخول؟!”
استشاط غضبًا وتوجه للموظف مشيرًا إلى ظهر رائد وجنى:
“لماذا لا يصطفان معنا ويمران عبر التفتيش كباقي الضيوف؟”
أجاب الموظف وهو يهز رأسه:
“لا أعلم، لكل فرع من فروع المنتجع ممر خاص، لكن لا أحد يخبرنا من يُسمح له باستخدامه.”
لم يقتنع فيها بالإجابة، فتمتم بسخرية:
“هذان اللذان قدما من الريف بسيارة أجرة؟! إذا سُمح لهما بالدخول، فنحن أولى.”
وما إن أنه كلامه حتى أمسك بهايثم وغادرا الطابور، متجهين نحو الممر الأوسط. لكنهم ما إن وصلا حتى أوقفهما الأمن ومنعا من العبور.
عاد إليهما الارتباك، وشعرا بأنهما في موقفٍ لا يُحسدان عليه.
في الجهة الأخرى، كانت جنى تسير برفقة رائد وقد غمرها إحساس كالحلم. كان منتجع ماونتن فسيحًا، تملؤه الحدائق الغنّاء، والساحات الرحبة، والأجنحة الفخمة، وتزيّنه الزهور والأشجار بألوانها المتناغمة. الهندسة المعمارية مبهرة، والإطلالات تخطف الأنفاس. بدا وكأنه فردوس معلق في قلب المدينة.
كان منتجع ماونتن ملاذًا للأثرياء والمشاهير، لا يدخله إلا أصحاب النفوذ. ولم تكن جنى تتخيل يومًا أنها ستحظى بفرصة كهذه.
همست وهي تنظر إلى من حولها:
“أرى الكثير من الناس يحملون بطاقات كبار الشخصيات، فلماذا لا نحمل نحن مثلهم؟”
شعرت بالحيرة، فما يحدث يتجاوز فهمها.
ردّ رائد بصوت خافت:
“وإن قلتُ لكِ إن هذا الباب فُتح لي فقط، فهل تصدقين؟”
نظرت إليه جنى بشك:
“لا تمزح، قل لي الحقيقة.”
وحينها أدرك أنها لن تصدقه اذا قال الحقيقة، فاخترع عذرًا:
“كان هناك سحب على الجوائز في الفيلا، وفزت بجائزة الضيف المحظوظ، وهذا الممر هو جائزتي.”
صدّقته جنى، وامتلأ قلبها بالسعادة، وكأنها كسبت رحلة إلى الجنة دون مقابل.
ثم التفتت إليه وقالت بحذر:
“سمعت أن الأسعار هنا خيالية، حتى الوجبة الواحدة قد تُكلف الآلاف. لا نملك هذا الترف، من الأفضل أن نكتفي بجولة دون إنفاق.”
ابتسم رائد وقال بثقة:
“لا تقلقي، المال موجود.”
لكن جنى لم تكن مطمئنة، ففكرة الإنفاق المفرط تُقلقها.
قالت له بحزم:
“حتى إن كنتَ تملك المال، لا يمكنك إنفاقه بلا وعي، هل تفهم؟”
أومأ رائد موافقًا، ثم واصلا التجوّل.
كان الغروب قد بدأ يُلقي بظلاله الذهبية على المنتجع، وتلوّنت السماء بدرجات الأحمر والبرتقالي، مضفية جمالًا ساحرًا على المكان.
جنى بدأت تسترخي، وتغمرها البهجة. نسمات الهواء المنعشة، وجمال الطبيعة، جعلتها تنسى كل همومها، ولو للحظة.
ولأول مرة، شعرت جنى أن الأغنياء يعيشون في عالمًا آخر لا يمكن فهمه إلا عند دخوله.
فجأة، اخترق صوتٌ مألوف أجواء التأمل:
“جنى، ماذا تفعلين هنا؟
التفتت بسرعة، فرأت شخصًا يقترب منها بابتسامة عريضة.
كانت ياسمين، أعز صديقاتها. فتاة بشوشة، تحمل طاقة مشرقة دومًا. لم يكن لجنى أصدقاء كُثر، لكن ياسمين كانت استثناءً. ترعرعتا معًا، من المدرسة الابتدائية حتى الثانوية، وكانتا لا تفترقان؛ تسيران إلى المدرسة يوميًا، وتعيشان بجوار بعضهما البعض. لكن عندما افترقتا في الجامعة، وانتقلت عائلة ياسمين إلى مدينة أخرى، بدأت المسافات تتسلل بينهما. وبعد زواج جنى من رائد، انقطعت العلاقة تدريجيًا، خاصة أن ياسمين لم تكن تُطيق رائدًا، وكانت ترى زواجها منه خطأً كبيرًا. حاولت مرارًا إقناعها بالانفصال، لكنها رفضت، فقررت الابتعاد.
لم تتحدثا منذ عامين، وها هي الآن تقف أمامها، فجأة. شعرت جنى بفرحٍ خجول، وقالت:
“يا للمصادفة! لم أكن أتوقع رؤيتك هنا!”
ابتسمت ياسمين وقالت مازحة:
“ولم أتوقع أنا أيضًا أن تملكي بطاقة كبار الشخصيات.”
كانت تعرفها مقتصدة في كل شيء، ولهذا فاجأها وجودها في مكانٍ بهذا الترف.
شعرت جنى بالحرج. قبل عامين، كانت لتروي لها كل شيء. أما الآن، فالوضع مختلف. لم ترغب بالكذب، لكنها أيضًا لم تجد الكلمات لتشرح.
وعندما لاحظت ياسمين تلعثم جنى، بادرت بلطف، وإن بنبرةٍ مريبة:
“أفهم… لا بد أن أحدهم هو من أحضرك، أليس كذلك؟ في هذا المنتجع، يُسمح لحاملي بطاقات كبار الشخصيات باصطحاب مرافقين.”
ثم صمتت قليلاً منتظرة ردّها، لكن جنى لم تُجب مباشرة، ما جعل شكوك ياسمين تزداد.
لكن جنى قطعت الصمت بابتسامة خفيفة وهي توضح:
“لا، أنا جئت مع زوجي.” ثم أشارت بيدها إلى رائد، الذي كان يقف بهدوء على بُعد خطوات.
حتى تلك اللحظة، لم تكن ياسمين قد لاحظت وجود رائد. وما إن وقعت عيناها عليه، حتى تبدلت ملامحها، وتمتمت بامتعاض مكبوت:
“جنى… ما الذي تفعلينه؟ كيف تأتين إلى منتجع ماونتن مع هذا الأحمق؟ أنتِ تعلمين جيدًا ما طبيعة هذا المكان… إنه ليس مكانًا للعب أو العشوائية. لو ارتكب حماقة واحدة، ستكونين في ورطة.”
قالتها ياسمين بوجهٍ يختلط فيه القلق بالغضب، فأجابت جنى بهدوء فيه شيء من الإصرار:
“لقد تغيّر، أصبح طبيعيًا الآن.”
رمقتها ياسمين بنظرة شك وقالت:
“حقًا؟ وهل قال الطبيب ذلك؟”
هزّت جنى رأسها نافية، ثم أضافت بثقة:
“لا، لم يُشخّصه طبيب، لكنني أعرفه جيدًا، وأؤمن بأنه تغيّر.”
تنهدت ياسمين بحرقة وقالت:
“لماذا تصرين على التمسك بهذا العبء؟ حتى لو كان طبيعيًا، فهو لا يفعل شيئًا. ليس من النوع الذي يليق بمكان كمنتجع جبل ماونتن.”
كان من الواضح أن كراهية ياسمين لرائد لم تخفت بمرور الزمن، بل تراكمت. لطالما اعتقدت أن جنى أضاعت حياتها بزواجها من رجل لا يليق بها. وكانت جنى على وشك أن تشرح موقفها، لكن قُطع الحوار فجأة بصوت رجل ينادي:
“ياسمين، مع من تتحدثين؟ حان وقت العشاء.”