رواية أحببته رغم جنونه الفصل السابع والثلاثون 37

رواية أحببته رغم جنونه

ظهر رجل في منتصف العمر يرتدي بدلة أنيقة، يسير بخطوات واثقة. كان هذا هو فادي، خطيب ياسمين. رجلٌ أربعيني، فقد زوجته في وقت مبكر من حياته، وعُرف بين الأوساط الراقية بأناقته ونجاحه. أسّس شركة رائدة في مجال مواد البناء في المدينة، وتُقدّر ثروته بالمليارات.

قالت ياسمين:
“تعرف على صديقتي المقرّبة جنى، وهي هنا مع زوجها أيضًا.”

ابتسم فادي بأدب ومد يده مرحبًا:
“تشرفت بلقائكما، أنا فادي، خطيب ياسمين.”

بادرت جنى بالرد وهي تبتسم بخجل:
“أهلاً بك، أنا جنى، سررت بلقائك.” ثم أشارت إلى رائد: “وهذا زوجي، رائد.”

قالت ياسمين بمرح:
“فادي، لم ألتقِ جنى منذ وقت طويل، ما رأيك أن ندعوهما لتناول العشاء معنا؟”
وافق فادي دون تردد:
“فكرة ممتازة.”

رغم أن رائد وجنى كانا غريبين تمامًا عنه، إلا أن فادي، كرجل أعمال، رأى في التعارف فرصة. فمن يدخل منتجع ماونتن لا بد أنه من الطبقة الراقية، وقد يكون لهذا اللقاء فائدة مستقبلية.

سحبت ياسمين ذراع جنى قائلة برقة:
“لن ترفضي دعوتي، أليس كذلك؟ لم نتشارك طعامًا منذ زمن طويل.”
جنى لم تكن ممن يُحببن الاعتماد على كرم الآخرين، لكنها لم تستطع رفض ياسمين، فهما نشأتا معًا، وكانت تعتبرها أقرب صديقة لها.

أومأت جنى بالموافقة، وذهب الجميع إلى الغرفة الخاصة رقم 8 في مطعم المنتجع. وعند وصولهم، كان عدد من الأزواج قد اجتمعوا حول الطاولة الكبيرة، وكان من الواضح أن بعضهم تربطهم علاقات قديمة بفادي.

لفت نظر جنى أن الأزواج الحاضرين كانوا أكبر من زوجاتهم بكثير، وقد بدا على اللقاء طابع العمل والتواصل الاجتماعي، أكثر من كونه لقاءً وديًا.

خلال تناول العشاء، التفت فادي فجأة إلى رائد وسأله بنبرة فضول مهذبة:
“هل لي أن أسأل، سيد رائد، ما هو مجالك المهني؟”

أجاب رائد دون أن يرفع عينيه عن طبقه:
“لا أعمل حاليًا.”

ساد الصمت لثوانٍ، وتبادل الحضور النظرات المندهشة. وانعكست في عيني فادي نظرة ازدراء واضحة. بدا له أن رائد مجرد تابع، يعيش على حساب زوجته.

ثم التفت إلى جنى وسأل بنبرة استقصاء خفي:
“وماذا عنكِ، سيدتي؟ ما طبيعة عملك؟”

أخفضت جنى رأسها وقالت بصوت خافت:
“أنا أيضًا… لا أعمل حاليًا.”

كان فادي يظن أن أحد الزوجين على الأقل يتمتع بكفاءة أو مكانة، لكنه اكتشف أنهما، من وجهة نظره، مجرد عاطلين عن العمل. انقبض وجهه، وخيّمت عليه الجدية، وتغيّرت نبرته، متجاهلًا وجودهما تمامًا.

حاولت ياسمين إنقاذ الموقف، فقالت بابتسامة متوترة:
“فادي، أليست شركتك تعاني من نقص في الموظفين؟ هل من الممكن أن يكون لهما فرصة؟”

رد فادي وهو يُعدل من وضع ربطة عنقه، بصوت حاد مغلّف باللطف المصطنع:
“شركتي ليست مؤسسة خيرية، ولا يمكنني توظيف أي شخص بلا معايير.”

ورغم احتفاظه بقناع اللباقة، كان من الواضح أن فادي لم يكن يرغب في إهدار المزيد من وقته أو ماله على هذا الثنائي. بالنسبة له، مجرد السماح لهما بالجلوس إلى هذه المائدة كان كرمًا غير مستحق.

ثم التفت إلى ياسمين بنبرة ناصحة تخفي سمًّا:
“عليكِ أن تنتقي أصدقاءكِ بعناية… لا تصادقي من هبّ ودبّ.”
ثم نظر إلى جنى بازدراء وأردف:
“من المؤسف أن تكون لك صديقة مثل هذه. لا تجلب لك سوى الإحراج.”
أنهى حديثه بتنهد ثقيل، ثم أضاف ببرود:
“أكره الأشخاص الذين يأكلون على حساب غيرهم.”

ساد التوتر في الجو، وتعالت همسات تهكمية من بعض الجالسين، بينما غرقت جنى في شعور ساحق من الحرج والغضب. أرادت أن تذوب، أن تنكمش داخل نفسها، أو تختبئ داخل الطبق الذي أمامها.

وفجأة، فُتح باب الغرفة الخاصة، ودخل رجل ذو حضور صاخب طاغٍ. ما إن وقع نظر الحضور عليه، حتى وقف فادي وصديقاه الآخران دفعة واحدة، ونادوه باحترام ظاهر:
“السيد جين!”

كان الداخل هو جين، أحد أبرز الشخصيات في مدينة الزهور. رجلٌ في الخمسين من عمره، الجميع ينادونه بـ”السيد جين”، لا حبًا، بل مهابةً. ملامحه تبدو ودودة في الظاهر، لكن خلف عينيه طيف لا يرحم. من يخطئ في حقه، لا يُغتفر له.

وقف أمام الطاولة، وحدّق في الجمع بنظرة شاملة، ثم قال بهدوء لا يحتمل الجدل:
“دعوت بعض الأصدقاء القدامى لتناول العشاء هنا. أحب هذه الغرفة. هل تمانعون في المغادرة؟”

رغم صياغة الطلب بنبرة دبلوماسية، كان واضحًا أنه أمر لا يُرفض.
أومأ فادي فورًا برأسه وقال بخضوع:
“بالطبع، بالطبع، سنغادر حالًا.”

بدأ الجميع بجمع أشيائهم بسرعة، كأنهم تحت تهديد سيفٍ غير مرئي… الجميع، باستثناء رائد.

بقي جالسًا، يتناول طعامه بهدوء مستفز، وكأنه لم يسمع شيئًا.
نظرت إليه جنى بقلق وهمست، وهي تضع يدها على ذراعه:
“رائد… أرجوك، يجب أن نغادر.”
لكن رائد قال دون أن يرفع عينيه:
“كمّلي أكلك. بعدين نروح مكان تاني.”
كانت نبرته جامدة، واثقة، تحمل عنادًا لا يُكسر.

جمدت نظرات الجميع عليه. شحب وجه فادي وسارع يوضح بتوتر:
“سيد جين، أرجوك، هذا أول لقاء لي به… لا أعرفه، فقط دعوته للعشاء.”
وتدافع الآخرون بنبرة يائسة:
“سيد جين، لا علاقة لنا به. لا نعرفه أصلًا!”

انعقد حاجبا جين، وساد صمت كثيف كأن الهواء ذاته توقف.
تقدم خطوة نحو رائد، وحدّق فيه طويلًا بنظرة مميتة، ثم قال بنبرة ناعمة لكنها مسننة كالسكاكين:
“أيها الشاب… هل أنت متأكد أنك ترفض إظهار احترامي؟”

رفع رائد رأسه ببطء، ونظر إليه بثبات لا يرتجف، ثم قال بصوت بارد كالثلج:
“ومَن تكون… حتى أُظهر لك الاحترام؟”

التالي من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top