رواية أحببته رغم جنونه الفصل 28

رواية أحببته رغم جنونه

الفصل 28

مستشفى كانغتاي للأمراض النفسية

حين رأت جنى والدتها ملقاة على الأرض، كأن الحياة انسحبت من عروقها فجأة. ارتعش قلبها، واحمرّت عيناها بالدموع، فصرخت بجزع:
“أمي!”

أسقطت حقيبتها من يدها، وأسرعت نحو غادة لترفعها عن الأرض.
صرخت بوجه أردوغان، غاضبة لا تعرف الخوف:
“لماذا تضربها؟! ما الذي فعلته لتستحق هذا؟!”

لقد عانت جنى بما يكفي. كل من حولها بلا رحمة. أقاربها، أعداؤها، حتى القدر نفسه بدا كأنه تآمر عليها.
قصيّ وانِس استغلها حين تخلّت عنها عائلة تيمور، واختطفها وكاد أن يغتصبها. وها هو الآن أردوغان، مجرد بلطجي يتلذذ بإذلال الضعفاء.

تساءلت في نفسها:
ما خطب هذا العالم؟ لماذا لا تصادف سوى القساة؟

ردّ أردوغان بجفاء واستهزاء:
“هل أحتاج سببًا لأضرب أحدًا؟ ضربتها، فماذا ستفعلين؟”

كلماته كانت كطعنة خنجر. لم تجد جنى ما ترد به. لم يكن هناك قانون يحميها، ولا أحد يدافع عنها.
غادة، هي الأخرى، خمدت روحها. لم تعد تجرؤ على الحديث، وكأنها استسلمت تمامًا للقدر.

رأى أردوغان صمتهما علامة ضعف، فمد يده إلى جنى وقال ببرود:
“إن لم تُسددي الدين، فسآخذها بدلاً منه.”

شهقت غادة. لم يكن هناك وقت للتفكير. خلعَت الساعة من معصمها بسرعة ومدّتها إليه:
“انظر إلى هذه الساعة، سعرها الأصلي 200 ألف دولار. جديدة تقريبًا. خذها مقابل الدين.”

كانت الساعة هدية ثمينة من قصيّ، وغادة تعتز بها كما تعتز بروحها. لكن حين أصبح الخطر يُهدد ابنتها، لم تتردد في التخلي عنها.

أخذ أردوغان الساعة وفحصها بعينه الخبيرة. كانت أصلية.

ابتسم بسخرية، ثم قال:
“يبدو أنكِ محظوظة اليوم.”

غادر مع رجاله، وترك وراءه جنى وغادة مثقلتين بالخوف والخذلان.

تنفّست جنى ببطء. لم تكن الراحة ما شعرت به، بل شعور مشوّش بين النجاة المؤقتة والانكسار العميق.
نظرت إلى والدتها وقالت بعتب ممزوج بالألم:
“أمي، ألا يمكنكِ التوقف عن القمار؟”

غادة خفضت رأسها. لم تجد ما تقوله.
نعم، هي تحب القمار أكثر من أي شيء آخر، لكن هذه المرة… هذه المرة فهمت أن اللعب لم يعُد له مكان. الخسائر تجاوزت المال.
قالت بهمس:
“أعلم… لن أكررها.”

جنى لم تعلّق، بل نظرت إلى وجه والدتها المتورم، وشعرت بوجع عميق.
لم تهتم بالمال، لم تفكر في الدين. كل ما أرادته هو الهروب، ولو مؤقتًا.

قالت بحزم:
“هيا، لنغادر هذا المكان.”

حملا ما تبقى من أمتعتهما، وتوجّها إلى فندق قريب، آملتين في ليلة هادئة… لكن جراح القلب لا تُشفى بغرفة دافئة.

لم تكن حالة الفندق على ما يُرام، وما إن دخلته غادة حتى ضاقت ذرعًا بالمكان. لم تستطع أن تمنع نفسها من الشكوى:
“هل يعقل أن يعيش أحد في هذا المكان القذر؟ جنى، علينا تغيير الفندق فورًا.”

ردّت جنى بفتور، وكأنما أنهكها التعب:
“إن لم نأخذه نحن، فسيأخذه غيرنا.”

وما إن أنهت جملتها حتى ارتمت على السرير، منهكة القوى.

كانت قد قضت يومًا كاملًا دون طعام، وعانت من إنهاك نفسي وجسدي جعلها بالكاد تقوى على الوقوف. كل ما أرادته هو لحظة من الراحة.

بمجرد أن لامس جسدها السرير، أغمضت عينيها، علّها تنعم ببعض السكون.

لكن النوم جفاها.

“جنى، هل تشعرين بالبرد؟ لماذا ترتجفين؟” سألتها غادة بقلق، تلمس جبهتها وقد تملكها الخوف.
“أنا خائفة…” همست جنى، قبل أن تنفجر بالبكاء.

شعرت غادة بقشعريرة تسري في قلبها، وجاشت بداخلها مشاعر من الهلع والأسى.

لطالما كانت ابنتها صلبة، صامدة في وجه الأزمات. لكن ما جرى اليوم كسرها كليًا.

كلما ارتفع الإنسان، اشتد وقع سقوطه.
وجنى، التي صدّقت رائد وو وعلّقت عليه آمالها، لم تكن تتوقع هذا الانهيار. عاشت لحظة خاطفة من السعادة، ثم عادت إلى واقعٍ مرير كُسر فيه قلبها بلا رحمة.

قُوبلت خيبتها بجفاء، وفقدت كل شيء: دعم عائلتها، عملها، وحتى بيتها.

ثم جاء قصيّ، فاختطفها وأهانها، لتبدأ رحلة الضياع.

باتت تائهة، تجول بلا هدف، تطالب باستعادة حقوقها.

غرقها في هذا الواقع المؤلم جعلها هشة، خائفة، ترتجف كعصفور جريح.

قالت غادة بصوت مرتجف وهي تحاول تهدئتها:
“لا تخافي، أمي بجانبك وستحميك.”
كانت تعلم أنها تكذب، لكنها حاولت طمأنة ابنتها بأي وسيلة.

لم تنجح كلماتها في تهدئة جنى، لأنها كانت تعلم يقينًا أن والدتها بالكاد تقوى على إعالة نفسها، فكيف تعول الأسرة بأكملها؟

جسد جنى ظلّ يرتجف بلا توقف.

قالت غادة بنبرة حاسمة:
“جنى، ما رأيك بمغادرة مدينة الشيخ؟ لقد جلبت لنا هذه المدينة كل هذا الألم. حان الوقت لنبدأ من جديد في مكان آخر.”

هزّت جنى رأسها بالموافقة، دون اعتراض.

وافقت جنى على اقتراح والدتها. بالنسبة لها، أصبحت مدينة الشيخ رمزًا للفقد والخذلان. ربما كانت المغادرة هي طوق النجاة الأخير.

في صباح اليوم التالي، حزمَتا أمتعتهما وغادرتا الفندق.

وقفتا خارج الفندق تنتظران سيارة أجرة.

وفجأة، توقفت أمامهما سيارة بورشه مكشوفة. أطلّت زَهْرَة تيمور من النافذة، نظرت إلى الأمتعة، ثم إلى الفندق خلفهما، وقالت بسخرية:
“لا تقولي إنكما نمتما في هذا الوكر القذر!”

كانت الأخبار قد انتشرت بالأمس، تفيد بأن عائلة تيمور تفوقت على عائلة كارم.
لكن الحقيقة أن عائلة كارم لم تكن معنية بالخلاف، ولم تُبدِ رغبة في دعم أي طرف. ما كان واضحًا هو أن عائلة تيمور كانت تُخفي قوة لا يُستهان بها.

ولهذا، أوصت عائلة كارم جاد بأن يكون على علاقة طيبة بزَهْرَة.

جاد كان قد أعجب بزَهْرَة منذ البداية، وابتهج حين وافقت عائلته على هذه العلاقة. في اليوم السابق، قدّم لها هدايا كثيرة، بينها سيارة بورشه، الأمر الذي زادها غرورًا.

وها هي اليوم، في جولة استعراضية بسيارتها الجديدة.

جنى، التي كانت تعتبر زَهْرَة أختًا، شعرت بخيبة أمل كبيرة. فعوضًا عن الدعم، قوبلت بالسخرية.

أدارت جنى وجهها عن زَهْرَة، ولم ترد بكلمة واحدة.

زَهْرَة، وقد استفزها التجاهل، قالت باستهزاء:
“لا تنظري إليّ بهذه الطريقة. أتريدين أن تتحولي من مغفّلة إلى ضحية؟ أنتِ، التي كنتِ تعرفين من هو رائد، ماذا كنتِ تظنين؟”

تابعت زَهْرَة كلماتها بحدة، وهي تسترجع وقائع الأمس.

غادة لم تكن في حالة تسمح لها بالرد. كانت متعبة، مكسورة، وصمتها كان أبلغ من أي حديث.

تنهدت زَهْرَة وقالت:
“أعرف أنني كنتُ فظة اليوم، لكن من المؤسف أن تظنّي أن لكِ مكانًا في هذا العالم…”

ثم أغلقت النافذة، وانطلقت بسيارتها، تاركة وراءها سحابة من الغبار لوّثت وجهي جنى وغادة.

تنهّدت غادة بأسى، وقالت:
“لا أحد أهم من الآخر، لكن البعض يتوهّمون ذلك.”

جنى، التي كانت منهكة ومهزومة، شعرت وكأنّ تلك الكلمات سُكبت على جراحها الملتهبة، لكنها لم تردّ. نظرت إلى الطريق أمامها بصمت، وقد خيّم السكون على قلبها.

وصلت سيارة الأجرة بعد لحظات.

ركبتا السيارة، وقالت جنى للسائق:
“إلى مستشفى كانغتاي للأمراض النفسية، من فضلك.”

تفاجأت غادة، وصرخت مستنكرة:
“هل ما زلتِ ترغبين برؤية هذا المجنون؟! لقد دمّر حياتنا!”

ردّت جنى بهدوء:
“بطاقة المستشفى فارغة، وسيرفضونه خلال يومين. أريد أن أضع له بعض المال. كما… أريد رؤيته قبل الرحيل.”

نظرت غادة إلى ابنتها بدهشة، ثم قالت بامتعاض:
“نحن بالكاد نعتني بأنفسنا، وكل هذا بسبب رائد. لماذا لا تستطيعين نسيانه؟!”

غضبت غادة بشدة من تصرفات ابنتها التي رأت فيها غباءً مؤلمًا.
كانت فتاة طيبة القلب، لا تحمل في طبعها أذى لأحد، حتى لو خذلها الجميع وخانها العالم بأسره.

قالت جنى بحزن، وكأنها تعلن عن واقع مؤلم:
“نحن زوجان.”

ردّت غادة فورًا، بانفعال لم تستطع كبته:
“لا تقولي إنني نسيت كل شيء… فقط انتظري قليلًا، ثم طلّقيه بأسرع ما يمكن.”

لكن جنى لم تُظهر أي رد فعل. لم تُوافق، ولم تعارض. التزمت الصمت، ووجهها كان ساكنًا كصفحة ماء راكدة، لا يلوّح بأي شعور.

بعد مرور نصف ساعة، وصلت سيارة الأجرة إلى مستشفى كانغتاي للأمراض النفسية.

دفعت جنى الأجرة، وساعدت والدتها في إنزال الأمتعة، ثم اتجهتا معًا نحو المستشفى بصمت ثقيل، يختصر حجم الجراح التي تحملانها في داخلهما.

/أحببته-رغم-جنونه-دراما-نفسية-قصة-اجتماعية-فندق-محلي-زهرة-تيمور-الطيبة-الهروب-من-الماضي

رواية رواية أحببته رغم جنونه الفصل 29

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top