رواية أحببته رغم جنونه الفصل 29

رواية أحببته رغم جنونه

رواية أحببته رغم جنونه

ما إن وصلت جنى إلى بوابة مستشفى الأمراض النفسية حتى واجهت صعوبة متزايدة في الدخول. فالإجراءات الأمنية أصبحت أكثر صرامة، وأحاط بها رجال أمن يرتدون زيّهم الرسمي، واقفين بحزم أمام المدخل.

داخل المستشفى، كان الحراس يجوبون المكان في دوريات منتظمة، يُشعِر وجودهم بالرهبة، كما لو أن وراء الأبواب أسرارًا ثقيلة لا يجوز الاقتراب منها.

وبينما كانت جنى ترافق غادة نحو البوابة، اقترب منهما أحد الحراس بوجه متجهم وصوت حازم قائلاً: “المستشفى مغلق اليوم، ولا يُسمح لأحد بالدخول.”

تقدّمت جنى، وقد بدت على وجهها علامات الشك، وسألته: “لماذا؟”

أجاب الحارس ببرودٍ جامد: “تنفيذاً لأوامر مديرنا الأعلى. لا نعلم السبب.”

ردّت جنى على الفور، دون تردد: “لكن زوجي هنا، جئت فقط لدفع الحساب.”

هز الحارس رأسه بلامبالاة وقال: “هذا غير ممكن أيضاً. المستشفى مغلق بالكامل، حتى لو دخلتِ، فلن تتمكني من فعل شيء.”

وقفت جنى مذهولة، وعجزت عن الكلام. تساءلت في قرارة نفسها: “ما الذي يحدث في مستشفى كهذا؟ هل أنا منحوسة حقاً؟ هل كُتب عليّ أن أواجه العقبات في كل زاوية من حياتي؟”

عبست جنى، وهمّت بالكلام، لكن مشرف الأمن اقترب منها بنظرات صارمة ولهجة تحذيرية قائلاً: “آنسة، أرجوكِ، لا تصعّبي الأمور علينا. في الحقيقة، شخص مهم جدًا وصل اليوم إلى المستشفى، ولذلك تم إغلاقه بالكامل. من الأفضل لكِ العودة.”

استشعرت جنى من كلماته أن هذا “الشخص المهم” يتمتع بمكانة تفوق المتاح للعامة.

لم يكن أمام جنى سوى التراجع. لم يكن بوسعها الدخول، ولا يوجد من تلجأ إليه. نظرت إلى غادة بيأس.

قالت غادة لتواسيها: “هذا قدر الله. ألا ترين؟”

وأضافت: “ربما كان من الأفضل أن تتركي ذلك الأحمق. لا داعي لأن تُحمّلي قلبكِ فوق طاقته. هيا بنا نعود.”

هل كانت هذه فعلاً عناية إلهية؟ وقفت جنى لبرهة، تحدق في المستشفى، قبل أن تهمس بأسى وهي تستدير: “لنعد.”

استقلّتا سيارة أجرة متجهتين مباشرة إلى محطة القطار. وأثناء الطريق، غاصت جنى في صمت عميق، بينما كانت غادة تفكر بتمعّن. وبعد لحظة من التردد، قالت: “عزيزتي، ما رأيكِ أن نزور جدكِ من جهة والدتكِ؟ عيد ميلاده السبعون قريب، وسنبقى هناك لبضعة أيام.”

ردّت جنى وعيناها مغمضتان، بصوت خافت: “الأمر لكِ.” لم تعد تهتم بالمكان ما دامت تستطيع الهروب من هذا الواقع.

مدينة الزهور، رغم كونها مدينة على مستوى المحافظة، إلا أنها لا تقل شأنًا عن مدينة الشيخ من حيث النشاط الاقتصادي.

لعائلة غادة في الزهور تاريخ طويل. فقد مرت بتقلبات عديدة خلال السنوات الماضية. وعندما تزوجت غادة، كانت أسرتها تمرّ بمرحلة ضعف، لكنها وصلت إلى أوج عزّها بزواجها من عائلة تيمور المرموقة في الشيخ.

كانت غادة في ذروة الترف، مغرورة، تتعالى على الآخرين، بل نأت بنفسها عن عائلتها الأم، وزياراتها لهم كانت نادرة، ومجرد استعراض لمكانتها الجديدة.

لكن الزمن دار دورته. تُوفي زوجها في عمر مبكر، وانهارت دعائم عائلة تيمور بغياب كبيرها، ثم تزوجت ابنتها من رجلٍ أحمق، لتصبح غادة، التي كانت سيدة المجتمع، ربة منزل تعيش على ذكريات الماضي.

في المقابل، شهدت عائلة أمها طفرة في حظوظها وازدهرت، حتى باتت من العائلات اللامعة في الزهور. أصبح الماضي القريب عبئًا ثقيلاً على غادة؛ فحين كانت في أوج قوتها، احتقرتهم، والآن وقد سقطت، تخجل من العودة إليهم. لكنها لم تجد بدًا من ذلك.

في ظهيرة أحد الأيام، وصلتا إلى بيت عائلة الزهور. كان المنزل قديمًا، ولكنّه يحتفظ بعظمة تاريخه، واسعًا، بسيطًا، ويدل على أصالة ثقافية واضحة.

وقفت غادة عند البوابة، رتّبت ملابسها، وطرقت الباب بخفة. فتحه البواب بسرعة، وسمح لهما بالدخول دون كلام، إذ كان يعرفها من قبل.

مرّتا عبر الفناء حتى وصلتا إلى المبنى الرئيسي، وهما تجرّان حقائبهما. خرجت امرأة أنيقة من الداخل، وقالت بسخرية: “آه، أليست هذه غادة؟ يا لها من زائرة نادرة!”

عرفت غادة تلك المرأة جيدًا. إنها هيام، زوجة شقيقها. كانت تنظر إليها باستخفاف في السابق، أما الآن، فاضطرت إلى رسم ابتسامة باهتة قائلة: “كيف حالكِ يا أختي؟”

لكن هيام لم تُخفِ ازدراءها، وأجابت ببرود: “لا تناديني أختكِ. متى عاملتني كأختكِ؟” ثم لمحت الأمتعة وقالت بتهكّم: “لماذا كل هذا الحمل؟ أتيتِ لتقيمي أم لتلقي السلام؟”

بما أن هيام تصرّفت بعدوانية واضحة ولم تُظهر أي قدر من اللطف أو الترحيب، قررت غادة أن تواجهها بصرامة، قائلة: “أليس من حقي العيش في منزل والديّ؟”

أجابت هيام بسخرية باردة: “مستحيل! متى اعتبرتِ هذا منزلكِ أصلًا بعد أن تزوجتِ من عائلة تيمور؟ لم تفكّري فينا لحظة حين كنتِ تنعمين بالثراء، والآن بعد أن اشتدّت عليكِ الدنيا، جئتِ تتوسّلين ما كنتِ ترفضينه!”

كان وقع كلماتها مؤلمًا، لكن غادة لم تكن تملك صبرًا على هذا الإذلال المتعمد. اشتعل الغضب في عينيها، وصرخت بانفعال: “يجب أن أرى والدي اليوم، هذا بيتي، ولستِ من يقرر! تنحّي عن طريقي!”

واندفعت نحو المنزل الرئيسي حاملة أمتعتها، لكن هيام وقفت في طريقها وأمرتها بحدة: “لن تدخلي! والدك مجتمع الآن مع شخصية مهمة، لا يمكنكِ إزعاجه!”

وسط هذا التوتر، دوى صوت غليظ حاد من داخل المنزل: “ما كل هذا الصراخ؟!”

خرج جمع من الناس من داخل القاعة الرئيسية، يتقدمهم رجل طاعن في السن، ذو شعر رمادي ونظرة جامدة. كان هو والد غادة.

نظر إلى ابنته وحفيدته بنظرة باردة لا تحمل أي حنين، وسأل بجمود: “لماذا أتيتِ؟”

شعرت غادة بوخز في قلبها، وحاولت أن تتماسك، فأجابت بتردد: “أبي… بما أنك على وشك بلوغ السبعين، جئنا لنهنئك بعيد ميلادك.”

قال بشير بنبرة مقتضبة وخالية من الدفء: “لا أريد تهنئتكِ.”

كان الغضب والاشمئزاز يتصاعدان من صوته. لم يكن يخبّئ استياءه منها.

في تلك اللحظة، تعالت همسات أفراد العائلة من حولها:

“كانت مغرورة دائمًا، لا تنظر إلا إلى نفسها.”

“أين كانت حين كانت عائلتنا في أمسّ الحاجة إليها؟”

“عادت فقط حين انهارت حياتها. ومن مثلها لا يُرحّب به!”

“نذير شؤم. ذهبت لعائلة تيمور، فتدهورت، وها هي تعود لتجلب لنا المتاعب.”

كانت غادة تستمع إلى كل تلك الكلمات وهي تصارع خجلها ومرارتها. شعرت بأنها عارية أمامهم، مجردة من كل كرامة، بلا سند.

أما جنى، فقد خنقها الحزن والحرج. شعرت وكأن جدران المنزل تضيّق عليها، وراودها شعور حاد بالاختناق، وكل ما أرادته هو الهروب من هذا المكان.

لكن فجأة، دخل رجل إلى القاعة، يرتدي بدلة أنيقة، وتعلو وجهه ابتسامة مغلفة بالتصنّع. ألقى نظرة طويلة على جنى وسأل بإعجاب ظاهر: “يا لها من فتاة فاتنة! ما اسمكِ؟”

كان هذا الرجل هو الضيف المزعوم، وليد، المدير العام لفرع الزهور لبنك الشارقة، وشخصية نافذة في المدينة.

لطالما سعى كبار التجار إلى كسب رضاه للحصول على تمويلات، وكانت عائلة الزهور من بينهم. وبسبب الصعوبات المالية الأخيرة، حاول بشير بكل وسيلة أن يستميله للحصول على قروض إضافية.

رغم مساعيه الحثيثة، لم يحصل إلا على القليل. لكن عندما لاحظ نظرات وليد نحو جنى، لم يتردّد في استغلال الموقف.

قال بلهجة فخرية خبيثة: “هذه حفيدتي، جنى، جاءت من الشيخ لزيارتي.”

أومأ وليد برأسه بإعجاب، ثم توجه نحو جنى قائلًا: “ما رأيكِ أن أُرحّب بكِ بدعوتك إلى الغداء؟”

رفعت جنى عينيها نحوه، وأجابت ببرود دون تردد: “شكرًا، لكنني تناولت وجبتي بالفعل.

لم تكن جنى من ذلك النوع الذي يحكم على الآخرين من مظهرهم. لكن رغم ذلك، كان من الصعب عليها تجاهل شعورها بالنفور من وليد. فقد كان رجلًا في منتصف العمر، ببطنٍ منتفخ ورأس أصلع، تُحيط به هالة من التكلّف. نظراته المتطفلة كانت تلاحقها بلا انقطاع، وقد زرعت في قلبها شعورًا بالغثيان. لم تكن بحاجة لأن يشرح أحد، فهي تعرف هذا النوع من الرجال جيدًا. لا، لن تجلس لتناول الطعام مع شخص كهذا، مهما حدث!

لكن قبل أن تعبّر عن رفضها بشكل قاطع، تدخل بشير بابتسامة زائفة، قائلاً بإلحاح: “جنى، كوني فتاة عاقلة. الرئيس وليد ضيفنا العزيز، ولا يليق أن نُحرجه. تعالي، وشاركيه العشاء، إنه رجل محترم.”

بالنسبة لبشير، لم تكن جنى سوى ورقة رابحة، أداة يمكن أن تُستغل لإرضاء رجل ذي نفوذ كوليد.

لكن جنى لم تتردد لحظة. قالت بصرامة: “لا أريد ذلك.” كانت نبرتها قاطعة، تحمل في طياتها نفورًا لا تخطئه الأذن. لم تشعر بأي انتماء لهذا المنزل، ولم تكن هناك إلا لأن والدتها رغبت في ذلك. كيف يُتوقع منها أن تضحّي بكرامتها لتجامل رجلاً لا ترتاح إليه؟

غضب بشير وصرخ: “أنتِ…!” لكن وليد قاطعه بابتسامة مصطنعة قائلاً: “لا تكن قاسيًا، نحن عائلة. لا داعي لجرح مشاعرها. عاملها بلطف، فمن المؤكد أن مجيئها إلى هنا لم يكن سهلًا.”

ثم ربت على كتف بشير بخفة وخرج من القاعة.

كلماته، رغم ظاهرها الهادئ، كانت كافية لتُغيّر تعامل عائلة الزهور بالكامل. بدأوا فجأة في إظهار الود والاحترام تجاه غادة وجنى، وكأن شيئًا لم يكن.

شعرت غادة ببعض الراحة، خاصةً بعد هذا التبدّل في المواقف. وعلى الرغم من أنها كانت تدرك أن هذا التغيّر سببه الرئيس وليد، إلا أنها تجاهلت ذلك، مفضّلة أن تتشبث بأي قدر من الاستقرار.

من جهتها، شعرت جنى بشيء من الحذر، لكن انخفاض العدائية من حولها جعلها أقل توترًا. ومع حلول المساء، قُدّمت لهم مائدة عشاء فاخرة.

كانت المائدة عامرة، والجو يتظاهر بالدفء والمودة. تبادل الجميع التحيات والضحكات، وكأنهم أسرة واحدة سعيدة. لم تتمكن جنى من مقاومة الأجواء، وارتشفت عدة أكواب من البيرة. ومع أنها لم تكن معتادة على الشرب، وجدت نفسها تضحك وتشارك الأحاديث. لكنها سرعان ما بدأت تشعر بالدوار، واحمرّ وجهها، ثم ما لبث أن أغمي عليها.

بعد العشاء، ودّعت الجميع وقالت بصوت ضعيف: “أشعر بالصداع… سأخلد للنوم.” ثم غادرت القاعة متعثرة قليلًا.

نهضت هيام على الفور وقالت: “دعيني أرافقك.”

ساعدتها هيام على الوصول إلى غرفة جانبية في المنزل. كانت الغرفة أنيقة، مفروشة بذوق راقٍ، توحي بأنها مخصّصة للضيوف المهمين. لم يكن من المعتاد أن تنال جنى مثل هذا الترحيب… لقد عاملوها هذه المرة كضيفة ثمينة.

قالت هيام بلطف مصطنع: “تصبحين على خير، ارتاحي جيدًا”، ثم خرجت وأغلقت الباب خلفها بهدوء.

لكن جنى لم تكن تعلم أن الباب أُغلق من الخارج.

تعثرت جنى داخل الغرفة، وخلعت معطفها وأخرجت ملابس نومها من الحقيبة. سارت ببطء نحو الحمام لتغتسل وتزيل آثار التعب.

وما إن اقتربت من الباب، حتى فُتح فجأة!

خرج منه رجل شبه عارٍ، لا يرتدي سوى سروالٍ، والماء يتقاطر من جسده.

كانت الصدمة كفيلة بأن تشلّ جسدها.

لم يكن سوى… وليد.

رواية رواية أحببته رغم جنونه الفصل 30

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top