الفصل الرابع
تتمتع عائلة الهاشمي، ذات الأعمال التجارية العالمية الواسعة الانتشار، بشهرة تجاوزت حدود الوطن لتصل إلى جنيع انحاء العالم بأسره.
فبفضل الثروات الطائلة التي يتمتع بها كل فرد من أفرادها البارزين، أصبحت أخبار عائلة الهاشمي مادة دسمة تتصدر باستمرار عناوين وسائل الإعلام المختلفة.
ومع ذلك، فإن جلّ ما يتم تداوله عبر الشبكة العنكبوتية وغيرها من المنابر الإعلامية لا يعدو كونه أخبارًا إيجابية تُسخَّر لخدمة مصالح هذه العائلة العريقة.
وبعد بحث مضنٍ استغرق وقتًا طويلاً بين ثنايا صفحات الويب المتعلّقة بعائلة الهاشمي، عثر رائد الهاشمي أخيرًا على تقرير قديم نُشر قبل ثلاث سنوات، كشف عن جانبٍ خفيٍّ من تاريخ العائلة:
“بقلوب يعتصرها الأسى، نُعلن عن وفاة الوريث الأكثر تواضعًا وغموضًا في عائلة الهاشمي بشكل مفاجئ. ولم تستطع والدته المفجوعة، جُمانة الهاشمي، تحمّل وطأة هذا الفقد الجلل، فلحقت به بعد فترة وجيزة، تاركةً خلفها حزنًا عميقًا في قلوب محبيها.”
وفي أعقاب هذه الفاجعة، أعلن جابر الهاشمي، والد رائد وسيد عائلة الهاشمي، عن قراره بالتنحي عن منصبه الرفيع كرئيس للعائلة، والاعتكاف في منزله حزنا على وفاة زوجته وابنه.
ليخلفه في قيادة العائلة أدهم الهاشمي، الابن غير الشرعي لجابر الهاشمي، ليصبح بذلك أصغر قائد في تاريخ عائلة الهاشمي العريقة.
لم يستغرق رائد الهاشمي سوى نصف ساعة لإتمام قراءة هذا الخبر الموجز الذي يتألف من بضع كلمات، لكنه كان كافيًا ليحيل عينيه إلى لون القرمز الداكن، وقد اغرورقت بالدموع المتلألئة.
وبعد صمت طويل خيّم على المكان، همس رائد بصوت عميق ومبحوح: “أدهم الهاشمي… لقد كنت أنت!”
وبعد مرور ساعة على إغلاق حاسوبه، غادر رائد غرفة الدراسة المثقلة بالأسى، وعاد إلى غرفة نومه علّه يجد في النوم ملاذًا من أفكاره المضطربة.
في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا، استيقظ رائد وعيناه لا تزالان محمرتين وآثار الأرق بادية عليهما. وبعد أن ارتدى ملابسه بعناية، توجه إلى الحمام ليغتسل، ثم غادر غرفة النوم بخطوات ثقيلة.
وما إن خرج من غرفته، حتى وجد المائدة تزخر بأشهى الأطباق وألذ المأكولات. وبدون أدنى تردد، اتجه مباشرة نحو المائدة وجلس، ثم تناول معلقة الطعام وبدأ في الأكل بنهم.
ولم يكد يبدأ في تناول طعامه، حتى هرعت غادة خارجة من المطبخ، وصفعت معلقة طعام من يده بعنف، وصرخت في وجهه بحدة: “من سمح لك بالأكل؟ اخرج من هنا حالًا!”
وفي تلك اللحظة، لمح رائد شابًا أنيقًا يجلس باسترخاء على الأريكة في غرفة المعيشة، فتبدلت نبرة صوت غادة على الفور، وتحولت إلى نبرة دافئة ومليئة بالحماس وهي تقول: “قصيّ، حبيبي، تفضل إلى هنا. الطعام جاهز.”
ثم وقف رجل وسيم يرتدي بدلة فاخرة الصنع، وتقدم بخطوات واثقة نحو المائدة. كان هذا الرجل هو قصيّ وانِس، الابن الأكبر لعائلة وانِس المرموقة.
لم يكن قصيّ غريبًا عن هذا البيت، فما إن وطأت قدماه المكان، حتى استقر على مقعد المائدة، وبسط يده ليأخذ طبق الأرز وبدأ بتناوله. وبعد مضغ لقمتين، أثنى على طعام غادة بكلمات معسولة: “الأطباق التي أعددتهاِ اليوم فاقت الوصف، إنها شهية للغاية”.
عند سماع هذا الإطراء، غمرت السعادة قلب غادة، وقالت بابتسامة عريضة: “نحن بمنزلة العائلة الواحدة، يا بني. لا تنادِني عمتي، بل قل لي يا أمي”.
فأجاب قصيّ بذكاء مُضمَر: “لكنني لم أتزوج بجنى بعد، أليس كذلك؟”
منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية، لم يُلقِ قصيّ لرائد أي نظرة، وكأنه لم يكن سوى هباءة في الهواء.
أما غادة، فحدّثت نفسها بصوت عالٍ وهي تنظر إلى رائد: “عاجلاً أم آجلاً، ستتزوج جنى. ولن أقبل بك زوجًا لابنتي إلا إذا انفصلت جنى عن ذلك الأحمق، فحينها سيكون زواجكما أمرًا حتميًا”.
ثم استشاطت غضبًا لرؤية صمت رائد واستسلامه، فدفعت كتفه بعنف وزمجرَت بصوت عالٍ: “ماذا تفعل هنا؟ ابتعد عن ناظري الآن!”
ألقى رائد نظرة خاطفة على قصيّ، ثم تحرك بخطوات صامتة نحو الأريكة وجلس عليها، مطأطئ الرأس.
لم يمضِ وقت طويل حتى عادت جنى من عملها، وعندما وقعت عيناها على قصيّ، عقدت حاجبيها في استياء واضح، وهمست بعبوس: “لماذا أتيت؟”
سارعت غادة بالحديث لتبرير وجود قصيّ، قائلةً: “لقد طلبتُ أنا منه المجيء”. والحقيقة أن غادة كانت تستميت في الدفاع عنه، رغم أنه حضر بمحض إرادته.
عندما سمعت جنى كلمات والدتها، ازداد عبوسها حدة. فرغم حماقة رائد في نظرهم، إلا أنه لا يزال زوجها. وكانت والدتها هي من تجرأت على دعوة قصيّ لتناول العشاء في منزلها.
فوبّخت جنى والدتها بحدة وصرخت بغضب مكتوم: “أمي، ما الذي تفعلينه بحق السماء؟”
“حسنًا، لننهِ هذا الحديث الآن.” قالت غادة محاولةً تلطيف الأجواء وتغيير الموضوع، ثم أضافت وهي تسحب جنى لتجلس بجانب قصيّ رغمًا عنها: “تعالي لتناول العشاء يا ابنتي”. كانت غادة تأمل بداخلها أن تنجح في جمعهما تحت سقف واحد.
نظرت جنى إلى رائد بخجل وفتور وقالت بصوت منخفض: “رائد، تعالَ وتناول الطعام معنا”.
فقاطعتها غادة بكذبة واضحة: “لقد تناول وجبة طعامه بالفعل؛ دعوه وشأنه!”
بعد أن جلست جنى على المائدة بجانب قصيّ، أخرج الأخير على الفور علبة هدايا أنيقة، وفتحها ثم ناول الهدية لجنى قائلاً بكرم مصطنع: “جنى، هذه الهدية المتواضعة لكِ”.
كانت الهدية عبارة عن ساعة يد ثمينة تُقدر قيمتها بمائتي ألف دولار.
ورغم أنها لم تكن تملك القدرة على شراء مثل هذه التحفة، إلا أنها كانت تدرك قيمتها جيدًا. لكنها لم تتردد في رفضها قائلةً بجدية: “لا أستطيع قبول هدية ثمينة كهذه!”. وبرغم أن قلبها كامرأة كان يميل إلى اقتناء مثل هذه المجوهرات النفيسة، إلا أن كونها قادمة من قصيّ جعلها تُصر على الرفض.
عند سماع ذلك، عبست غادة في انزعاج. ثم انتزعت الساعة من علبتها نيابةً عن جنى، وقالت لها بحماس مصطنع: “يا لكِ من فتاة حمقاء! إنها هدية قيّمة من قصيّ. سأحتفظ بها لكِ.”
“أمي، أعيديها إليه!” قالت جنى بحدة.
“ولماذا أُعيد هدية من صهري المستقبلي؟” وبّختها غادة بحدة. لطالما كانت جشعة للمال، لكن لم يجرؤ أحد قط على أخذ ولو فلس واحد منها قسرًا!
قاطع قصيّ جنى، التي كانت تحاول الاعتراض، قائلاً بفتور: “لا بأس يا عزيزتي، لا داعي للإحراج. قليل من اللطف لا يضر.”
“إنه مبلغ زهيد بالنسبة لك، لكنه ليس كذلك بالنسبة لي!” ردت جنى بجدية.
شعر قصيّ أن جنى لا تزال ترفضه ببرود، فسارع إلى تلطيف الأجواء قائلاً: “جنى، أعلم أنكِ لم تُحبي أبدًا طيشي وإهمالي للعمل، وانشغالي باللهو والمغازلة.”
“لكن قصيّ الآن رجل ممتاز وواعد، أفضل بألف مرة من ذلك الأحمق!” قاطعت غادة بحماس.
لا شك أن قصيّ قد تغير كثيرًا، وجنى نفسها لاحظت هذا التحول. فذلك الشاب الساخر، المتغطرس، والمتقلب المزاج، الذي كان يمضي وقته في التسكع ومغازلة النساء اللاتي كنّ بالنسبة له مجرد دمى يتلاعب بها، قد أصبح الآن أكثر تواضعًا، ويتصرف بأدب جم ولطف بالغ. تدريجيًا، بدأت جنى تخفف من حدة فتورها تجاهه، وتبادلت معه أطراف الحديث على المائدة.
أما رائد، فكان جالسًا على طرف الكرسي، يشعر بعزلة تامة، بينما بدا هؤلاء الثلاثة وكأنهم أسرة واحدة متماسكة.
بالأمس، كان رائد يظن أنه سيتقبل الأمر بهدوء، حتى لو قررت جنى الانفصال عنه، فهما في النهاية زوجان بالاسم فقط، وقد تزوجها بعد أن فقد ذاكرته. لكن الآن، طغى عليه شعور مرير بالغيرة والغضب وهو يرى جنى تتحدث بلطف ومودة مع قصيّ.
بعد العشاء مباشرة، بدأ بث مباشر لمقابلة تلفزيونية مع قصيّ على الشاشة.
عند سماع صوت قصيّ المميز، هرعت غادة، التي كانت لا تزال جالسة على المائدة، لتشاهد ما يجري بفضول شديد.
تألقت عيناها ببريق الإعجاب عندما رأت قصيّ يظهر على شاشة التلفزيون، وصرخت بحماس طفولي: “يا إلهي! قصيّ، أنت على التلفزيون، أليس كذلك؟”