الفصل 41
لم يكن هناك مصعد أو درج يؤدي إلى غرفة السماء، بل كانت الطريقة الوحيدة للوصول إليها هي عبر عربة كابل خاصة، تنطلق بهدوء وأناقة من منصة مخفية في أعلى مبنى ماونتن، لتعبر الهواء وتصل مباشرة إلى حديقة السماء، حيث تقع الغرفة الأسطورية.
وفجأة، أشار أحد المتواجدين بحماس وهو يصرخ:
“الجميع، انظروا! هنا!”
ارتفعت الأبصار، وانطلقت الأصوات تتعالى، مدهوشة بعربة الكابل التي تحلّق بهدوء في السماء، تشبه سفينة فضائية تنساب بين السحب.
“انظروا، هناك شخصان بداخلها!”
“نعم… يبدو أنه رجل وامرأة!”
“يا إلهي، كم هو مشهد رومانسي! من يكون هذا الثنائي المحظوظ؟ أي مكانة رفيعة تلك التي تؤهلهما للاستمتاع بهذا الشرف؟”
قال أحدهم بانبهار:
“لو أتيحت لي فرصة الإقامة في غرفة السماء ليلة واحدة فقط… لمتُ دون ندم!”
ورد آخر بحسرة:
“أنا حقًا أغار منهم.”
كان منتجع ماونتن بأسره يغلي بالحسد والإعجاب، وعيون الناس لا تفارق السماء.
وفي مكان غير بعيد، عند منصة مشاهدة خشبية، قال شيهاب وهو يراقب العربة بحسد ظاهر:
“حسنًا… متى سأمكث ليلة واحدة في غرفة السماء؟”
تنهد هيثم بعمق، وأجاب بأسى:
“هذا مستحيل حاليًا… ربما، بعد عقود من العمل والكدّ.”
في تلك الأثناء، كانت ياسمين قد خرجت من قاعة المزاد بوجه يملؤه الخذلان، إذ لم تنجح في الظفر بالقلادة التي أرادتها بشدة. وبينما كانت تتكئ بتكاسل، وقع نظرها على التلفريك المضيء، وحدّقت مطولًا، ثم تمتمت بدهشة:
“عزيزي… هل من الممكن أن تكون تلك الفتاة الجالسة هناك… تُشبه جنى؟ بل، لحظة… أيمكن أن تكون هي فعلاً؟”
أجابت فادي ببرود ساخر:
“بماذا تفكرين؟ تلك العربة تتجه مباشرة إلى غرفة السماء، ومن يسكن هناك لا بد أن يكون شخصية عظيمة، بنفوذ وسلطة. هل تظنين فعلًا أن صديقتكِ المقربة وزوجها الساذج مؤهلان لهذا المقام؟”
ترددت ياسمين للحظة، ثم قالت بخفوت:
“ربما… أنت محق.”
كان التلفريك يقترب من وجهته، لكن موقعه المرتفع جعل من الصعب على معظم من في المنتجع رؤية وجهي الراكبين بوضوح، فرؤيتهم كانت مجرد ظلال في كابينة زجاجية. ومع ذلك، لم يكن الأمر خافيًا على أصحاب العيون الثاقبة والنفوذ الكبير، فقد عرف بعضهم كيف يعثر على أفضل موقع للرؤية.
وفي الطابق العشرين من مبنى ماونتن، كان سِنان القيسي جالسًا داخل جناحه الفاخر، يراقب من خلال نافذته الزجاجية الممتدة من الأرض حتى السقف. وما إن لمح الشخص الجالس في العربة حتى تغيرت ملامحه فجأة، وصرخ بصدمة:
“يا لها من مفاجأة! لا أصدق… إنه هو!”
التفت من حوله العديد من الشخصيات البارزة في مدينة الزهور، كانوا يحضرون اجتماعًا غير رسمي هناك. سأل أحدهم بدهشة:
“هل تعرفه؟”
أجاب سِنان القيسي بنبرة قاتمة وهو يحدّق نحو الأعلى:
“اسمه رائد. إنه الرجل الذي حدثتكم عنه… ذاك الذي رفض تبديل الصندوق أمامي.”
قال آخر بدهشة مصحوبة بالاستهزاء:
“إذن هذا هو؟ لا عجب… يبدو أنه لم يكتفِ بعدم احترامك، بل تجاهلك تمامًا!”
أومأ سِنان القيسي برأسه، وقد بدا عليه الاضطراب، وتمتم:
“كنت على وشك ارتكاب حماقة عظيمة…”
وفي الأعلى، كانت الفتاة ذات السبعة عشر عامًا التي رافقت جدها إلى المنتجع، لا تزال تحدّق في العربة بترقب. لكنها لم ترَ في رائد ما كانت تتخيله، فتأففت بخيبة أمل:
“لكن يا جدي… هذا الرجل يبدو عاديًا جدًا!”
ابتسم الرجل العجوز ذو الشعر الأبيض ابتسامة غامضة وقال:
“أنتِ مخطئة. هذا الرجل ليس عاديًا على الإطلاق. لقد تعاملتُ في حياتي مع عدد لا يُحصى من البشر، ورأيت كل الألوان والوجوه والأنواع. أستطيع أن أقرأ الناس من عيونهم. لكن هذا الرجل… لا يمكنني أن أقرأه. كأنه سرّ مغلق، تنين حقيقي لا يزال نائمًا.”
تنهد وأكمل:
“من المؤسف أن لديه امرأة إلى جانبه… لو كنتِ أنتِ امرأته، لما ندمتُ يومًا، طيلة ما تبقى من حياتي.”
ثم خيّم الصمت، بينما العربة الزجاجية انزلقت بهدوء نحو السماء… نحو القدر.
عبست الفتاة الصغيرة وقالت ببرود:
“هممم، لا يبدو مميزًا على الإطلاق… لن أتزوجه.”
قالتها ببراءة مشوبة بخيبة أمل، وكأنها كانت تتوقع فارسًا أسطوريًا يهبط من السماء.
في تلك اللحظة، كان رائد وجنى قد أصبحا محطّ أنظار الجميع. كانت كل الأعين تتجه نحوهما وهما في طريقهما إلى غرفة السماء، لكن جنى لم تكن تُدرك أنها صارت موضع حسد الناس، بل كانت منغمسة بالكامل في لحظتها، تعيش نشوة التجربة الفريدة، وكأنها تحلق في عالم لا يشبه الواقع.
كانت العربة تنساب بين السماء والنجوم، وجنى تحدّق من خلف الزجاج الشفاف، ترى الحشود المتجمعة في الأسفل، والأنوار المبعثرة كاللآلئ في جنبات منتجع ماونتن، وتستنشق نسيمًا عليلًا يعبر بين طبقات الهواء.
شعرت جنى بأنها تطفو… وكأنها تنتمي للسماء.
ضحكت فجأة، صرخت بصوت عفوي،
“ياااا إلهي!!!”
خرجت الصرخة من أعماق قلبها، حُررت فيها كل ما راكمته من كآبة وتعب وخذلان. شعرت بالسعادة، وأشرقت ملامحها بابتسامة كانت غائبة عنها طويلًا.
قال رائد، الذي جلس بجانبها، بنبرة دافئة غير معتادة:
“تبدين جميلة عندما تبتسمين.”
ارتبكت جنى… وتسارعت نبضات قلبها. كانت تلك جملة بسيطة، لكنها أثّرت فيها بعمق. لم تكن مجرد مجاملة، بل شعرت أنها خرجت من رجل، إلى امرأة… منها، تحديدًا.
لم تستطع الرد، لكن بداخلها، ارتجف شيء ناعم ودافئ، وكأن هذا الشعور جديد عليها، ومحبب في آن.
وبينما كانت ضائعة في أفكارها، وصل التلفريك إلى منصة حديقة السماء.
نزلت جنى من العربة ببطء، وخطت أولى خطواتها على الأرض الزجاجية المحاطة بجدران شفافة من كل الجهات، تتلألأ تحت ضوء النجوم. رأت بعينيها السماء من فوقها، والمدينة أسفل قدميها، وكأنها تقف بين عالمين.
نظرت إلى الداخل، فانبهر قلبها من روعة التصميم. كانت الديكورات فخمة، ساحرة، وكأنها من عالم الأحلام.
تمتمت بدهشة خافتة:
“نحن… سنعيش هنا الليلة؟”
أومأ رائد بثقة وقال بابتسامة:
“نعم.”
لم تصدق جنى عينيها، تقدّمت خطوة أخرى، وتلفتت يمينًا ويسارًا ثم همست:
“مستحيل… هل يمكننا فعلاً الإقامة في غرفة بهذا الفخامة؟”
فقد كانت أفخم تجربة سابقة لها هي الإقامة في فيلا عائلة تيمور… ولكن أمام هذه الغرفة، بدت الفيلا كمجرد كوخ صغير من القش في قرية نائية.
شرح رائد مجددًا بنبرة هادئة:
“نحن من الجمهور المحظوظ هذا المساء… يبدو أن هناك شيئًا خاصًا بانتظارنا.”
همست جنى، وقد علت وجهها ابتسامة مذهولة:
“هذا أمر لا يُصدّق…”
ثم، وكأنها عصفور خرج للتو من قفصه لأول مرة، بدأت تتجول بحرية في الطابق الحادي والعشرين، تتأمل كل تفصيلة، تنظر من كل زاوية، وتنبهر من كل ركن. لم يكن في الطابق سوى غرفة واحدة، لكنها كانت كاملة، مترفة، وكأنها قصر في السماء.
بعد جولة طويلة، أرخت جسدها على الأريكة الجلدية الفاخرة، واستلقت براحة لم تعرفها منذ سنوات، ثم تمتمت بانبهار صادق:
“إنها مريحة جدًا… هذا كثير عليّ. فعلاً كثير جدًا…”
أغمضت عينيها للحظة، وكأنها تذوب في لحاف من السكينة.
ثم، وكأن شيئًا داخلها نبّهها فجأة، نهضت واقفة، واقتربت من الجدار الزجاجي، وأطلت من الأعلى على المنتجع المتلألئ بأنواره، ثم التفتت إلى رائد، وسألته بصوت مبحوح بالمشاعر:
“رائد… أنا لا أحلم، أليس كذلك؟
اليوم… كان يومًا غير عادي.
أحداث كثيرة لا تُصدّق حدثت خلال ساعات معدودة، جعلت جنى تشعر وكأنها انتقلت من قاع الجحيم إلى قمة الجنة.
في الصباح، عندما فتحت عينيها لأول مرة بعد الغيبوبة، كانت الظلمة لا تزال تسكن قلبها. كانت ممزقة من الداخل، يائسة، تائهة لدرجة أنها فكرت بجدية في إنهاء حياتها.
لكن… هناك شخص واحد وقف بينها وبين الانهيار.
رائد.
الرجل الذي عاد إلى وعيه، واستعاد قوته، لم يتركها تغرق. بذل كل ما بوسعه ليُدفئ قلبها، ليس بكلماتٍ منمقة، بل بأفعالٍ صادقة. جعل من نفسه سندًا، ظهرًا، ورجلاً يمكنها الاعتماد عليه حين تتهاوى الدنيا من حولها.
اشترى لها الفستان الذي أحبّته من أول نظرة، وقف لها في وجه وائل وأعطاه درسًا لن ينساه. ثم اصطحبها إلى منتجع ماونتن السماوي، حيث عاشت لحظات لا تُشبه الواقع، بل تشبه الحكايات.
رأت هناك قلادة “قلب الحارس”، قطعة نادرة لا تُقدّر بثمن، صعدت على متن تلفريك فاخر عابر للضوء، ووصلت إلى أعلى نقطة في السماء، لتقيم في غرفة زجاجية معلّقة، كأنها قلعة شفافة في قلب السحاب.
كان كل شيء أشبه بالحلم… حلم لا يمكن لعقلها المنهك تصديقه.
تمتمت، كأنها تخشى أن تصحو من هذا الوهم:
“هل… هذا حلم؟”
نظر إليها رائد بعينين ثابتتين، وقال بصوتٍ عميق:
“لا. هذا ليس حلمًا، جنى.”
ساد صمت رقيق، ثم همست جنى، وعيناها تلمعان كأنهما تغترفان من نهر الذكريات:
“كنتُ دائمًا أحلم أنني في خطر… وفي كل مرة، كنت تأتي لمساعدتي… كنت قوي، شجاع، تنقذني. كنت دائمًا تظهر في أحلامي في أحلك اللحظات، تمامًا مثل بطل.
لكن… في كل مرة أستيقظ فيها، وأنظر إليك… بهذا الشكل السخيف الذي تعيش به، كنت أغضب…
هذه المرة أيضًا… خفت أن يكون حلمًا آخر فقط.”
ابتسم رائد، ولم يجب، لأن الحقيقة كانت أبلغ من كل تفسير.
قال بهدوء:
“الآن تحقق حلمكِ، أليس كذلك؟”
نظرت إليه جنى، وسكنت ابتسامتها، ثم اتسعت ثانيةً، كأنها انفجار صغير من النور في وجهها.
كانت تبتسم بسعادة لا توصف، بعينين ممتلئتين بالحياة لأول مرة منذ زمن بعيد.
قالت بنبرة خافتة ولكن راضية:
“مع أنني أعلم أن هذه السعادة مؤقتة، وربما تنتهي غدًا…
لكنني سأرضى بها، لأنني أعيشها الآن، وأستمتع بها بكل جوارحي.”
ثم أغمضت عينيها للحظة، كأنها تحفظ اللحظة في قلبها للأبد.
“الرّضا عن نفسك هو أقصر طريقٍ إلى السعادة.”
كان هذا الشعار الذي لطالما آمنت به جنى، وتتمسك به في أصعب اللحظات.
وفي تلك الليلة، وبينما كانت تعيش أجمل لحظة مرت بها منذ سنوات، كانت تُكرر العبارة في داخلها كتعويذة تبقيها في هذا الحلم الجميل.
نظر إليها رائد بصمتٍ عميق، لم ينبس ببنت شفة، لكنه في قلبه قال بصوت لم تسمعه:
“هذه ليست سوى البداية، جنى… في المستقبل، سأجعلكِ أسعد مما أنتِ عليه الآن.”
الساعة العاشرة مساءً.
خرجت جنى من الحمام، بشعرها المبلل ورائحة الصابون الدافئة تعبق من حولها. كانت ترتدي ثوبًا ناعمًا أبيض، يليق بالهدوء الذي يملأ تلك الليلة. وبينما تمر أمام الجدار الزجاجي، رأت رائد واقفًا بمفرده في الحديقة الزجاجية، مطلًا على السواد الواسع للسماء.
اقتربت منه بهدوء، وسألته بنعومة:
“إلى ماذا تنظر؟”
أجاب دون أن يلتفت:
“ألعاب نارية.”
نظرت جنى حولها، ولم ترَ شيئًا سوى ظلامٍ ساكن.
“أين هي؟ لا أرى شيئًا.”
ابتسم رائد ابتسامة خفيفة وقال بثقة:
“انتظري لحظة فقط.”
وما إن أنهى جملته، حتى دوّى صوت طقطقة مميز في السماء، وكأن الليل قد استيقظ فجأة.
وفورًا، انطلقت ألعاب نارية باهرة، شقت السماء كنيازك ملوّنة، انفجرت كالزهر، وتوهجت بألوان زاهية تناثرت كأنها فوانيس معلّقة في الفضاء.
كانت الألعاب النارية تُطلق من ارتفاع مساوٍ تمامًا لارتفاع حديقة السماء، حتى بدا لجنى وكأنها تقف وسطها، لا تحتها.
لم تكن قد رأت من قبل هذا الجمال عن قرب، بهذه الروعة، وبهذا الحجم.
كانت تتلألأ أمام عينيها، وتنعكس على زجاج الغرفة من حولها، حتى غمر الضوء وجهها وامتلأت عيناها بالحياة.
تنهدت وقالت:
“إنه… جميل جدًا.”
كانت هذه أول مرة في تاريخ منتجع ماونتن تُقام فيها وليمة للألعاب النارية بهذه الضخامة والجمال.
عشرات الآلاف من الزوار احتشدوا في المنتجع، يرفعون رؤوسهم في دهشة، يعجزون عن تصديق ما يرونه.
ومع اقتراب نهاية العرض، توقف كل شيء للحظة، ثم…
انطلقت شرارات متوهجة جديدة، لكنها هذه المرة لم تكن عشوائية.
بل بدأت تتشكّل في السماء، كلمة تلو الأخرى، كأنها رسائل نُسجت من نار ونجوم.
“للبعيد، للقريب، لليد، للقسم، للاتفاق… للبقاء معًا حتى النهاية… لن نخلف هذه الكلمة أبدًا.”
كانت الكلمات موجهة مباشرة نحو جنى، كما لو أن السماء نفسها تهمس لها.
وقفت جنى مذهولة، والدموع تنهمر من عينيها بلا وعي.
كان هذا مفاجئًا، ساحرًا، ورومانسيًا إلى حدٍّ لا يُحتمل.
كانت تبكي، تبتسم، ويدها على فمها، كأنها تحاول أن تمنع قلبها من الانفجار من الفرحة.
بعد برهة، عادت إلى طبيعتها، ومسحت دموعها، ثم نظرت إلى رائد نظرة مزيج بين دهشة واتهام لطيف:
“كيف… كيف عرفت أن هناك ألعابًا نارية؟”
أجاب ببساطة وهو يضع يديه في جيبه:
“رأيت أحدهم يجهّزها هناك في وقت سابق.”
تجمدت ملامح جنى للحظة، ثم عقدت حاجبيها بانزعاج بسيط، وكأنها كانت تأمل أن تكون المفاجأة من تدبيره، أن تكون تلك الكلمات قد كُتبت خصيصًا لها منه هو.
لكنها لم تقل شيئًا… واكتفت بنظرة طويلة نحو السماء، حيث ما زالت آثار الألعاب النارية تتراقص في جفونها.
ظنّت جنى أن رائد ربما يعرف شيئًا ما عن الألعاب النارية، لكن لم يخطر ببالها أبدًا أن يكون هو من دبّر كل ذلك.
ورغم بساطة إجابته، لم تقتنع تمامًا. عبست بخفّة، ثم استدارت وعادت إلى الغرفة دون أن تقول كلمة واحدة.
لحق بها رائد بهدوء.
أغلقت جنى الستارة الأوتوماتيكية بنقرة بسيطة، لتنغلق معها أنوار المدينة والسماء، ويغمر الغرفة ضوءٌ خافت دافئ. كانت مستعدة للراحة بعد ليلة طويلة مشحونة بالمشاعر.
لكن ما إن ألقت نظرة على الغرفة الواسعة، حتى لاحظت أن هناك سريرًا واحدًا فقط.
نظرت إلى رائد، وسألته بتردد:
“أين… ستنام؟”
أجابها بهدوء وثبات:
“سأنام على الأريكة.”
دون أن ينتظر ردّها، توجه إلى الخزانة، وأخرج منها لحافًا إضافيًا، ثم قام بفرشه بعناية فوق الأريكة الجلدية الكبيرة. لم يكن مرتبكًا، ولا بدا عليه الحرج، فقط تصرف ببساطة، كأن الأمر بديهي تمامًا.
وقفت جنى تراقبه بصمت…
تأثرت.
في الماضي، حين كان فاقدًا لذاكرته، لم تكن تقلق منه، فهو لم يكن يفهم شيئًا عن العلاقات، ولم يكن يحمل في قلبه اتجاهها شيئًا واضحًا.
أما الآن، بعدما عاد إليه وعيه، كانت تتوقع أن تتغير نظرته، أن تظهر منه نوايا رجل تجاه امرأة.
لكن ما فعله… كان عكس ذلك تمامًا.
لم يتكلم، لم يطلب، لم يلمّح، فقط تصرف بنبلٍ وهدوء.
احترمته أكثر في تلك اللحظة.
احترمت موقفه، واحترمت صمته.
ربما، للمرة الأولى، رأت فيه رجلاً لا يخيفها… بل يُشعرها بالأمان.
مرت الليلة في هدوء تام، دون كلمة واحدة إضافية بينهما.
لكن داخل صمت الغرفة، كانت هناك مشاعر كثيرة تُقال.
ليلة… بلا كلام، لكنها لم تكن فارغة.
ثم أتى الصباح.
استيقظت جنى على نورٍ ناعم يتسلل عبر الزجاج، وكأن السماء تُودّعها بلطف.
بعد أن استحمت وارتدت ملابسها، انضمت إلى رائد، واستقلا معًا التلفريك المغادر من غرفة السماء.
خلال الرحلة نزولًا، كانت جنى تُحدّق إلى الغرفة الزجاجية الفاخرة وهي تبتعد شيئًا فشيئًا في السماء. شعرت بشيء يشبه الحنين في قلبها… حزن خافت خنق صدرها للحظة.
مكانٌ مثل هذا لا يُفتح إلا في الأحلام.
وبالنسبة لها، لم يكن من المرجّح أن تعود إليه يومًا.
كانت ليلة استثنائية… لكنها انتهت.
عندما وصلا إلى الأرض، قال رائد بابتسامة دافئة:
“هيا، لنذهب لتناول الإفطار!”
ترددت جنى، وسألت بحذر وهي تتذكر الأسعار الخيالية لكل شيء هنا:
“هل… سنأكل هنا؟”
فهم رائد نيتها فورًا، فأوضح:
“لا تقلقي، الإفطار هنا ليس باهظ الثمن.”
فكرت قليلًا، ثم ابتسمت وقالت:
“حسنًا!”
وسارا سويًا نحو مطعم الفيلا.
وفي الطريق، تصادفوا مع فادي وياسمين، إلى جانب سنان القيسي وآخرين، كانوا جميعًا يحملون أمتعتهم ويبدو أنهم في طريقهم لمغادرة منتجع ماونتن.
كانت ملامح ياسمين متجهمة، ولا تزال متأثرة بخيبة أملها من الليلة السابقة.
وبسبب غضب فادي منها ومن صداقتها مع جنى، لم تبادر بالتحية، واكتفت بإيماءة باردة من رأسها.
لكن فادي لم يكتفِ بالصمت، بل أوقف رائد وهو يرمقه بتحذيرٍ قاسٍ:
“مهلاً، إذا خرجت من الفيلا وبحث السيد سِنان عنك، فمن الأفضل أن توضح أنك لا تعرفنا.”
ثم أضاف أحد الرجال الآخرين بازدراء:
“نعم، أيها المختل عقليًا… لا تُورّطنا معك.”
وتابع ثالث:
“لو كنا نعلم من أنت حقًا، ما كنا جلسنا معك أساسًا!”
جنى، التي كادت تنسى كل هذا العداء والقلق ليلة البارحة، عادت فجأة إلى أرض الواقع.
الهدوء الذي عاشته في الأعلى كان وهماً مؤقتًا، لكن العاصفة تنتظرهم هنا، في الأسفل.
نظرت إليهم بشعورٍ عميق بالذنب، وقالت بسرعة:
“أنا آسفة… آسفة لأنني تسببت لكم بالمتاعب.”
لكن فادي هزّ كتفيه بلا مبالاة:
“لا تعتذري لنا… من يجب أن تسأليه العفو هو السيد سِنان.”
وفجأة، قاطعهم صوت مرتفع، قاله أحد الرجال بدهشة:
“السيد سِنان هنا!”
التفت الجميع في آنٍ واحد، فرأوا السيد سِنان يقترب برفقة حارسين شخصيين.
مشى بخطوات ثابتة، لا ينظر إلا إلى جهة واحدة.
“سيد سِنان!”
“أهلاً، سيد سِنان!”
سارع فادي ومن معه لاستقباله باحترام، محاولين استباق الموقف.
لكن السيد سِنان تجاهلهم تمامًا، كأنهم لم يكونوا موجودين أصلاً.
تابع سيره مباشرة نحو رائد، حتى وقف أمامه… ثم انحنى له بعمق، في انحناءة خالية من التردد أو الكبرياء.
وقال بصوت صادق وهادئ:
“سيد رائد… أتيت لأعتذر. أرجوك سامحني على الإساءة التي صدرت مني ليلة الأمس.”
انصدمت جنى… وكذلك فعل كل من حولها.
كان المشهد لا يُصدّق.
السيد سِنان… يعتذر؟
رواية أحببته رغم جنونه الفصل 41
