الفصل 42
سِنان القيسي، الرجل الذي خبر المجتمع بجميع وجوهه، وتمرّس في دهاليزه، خلع قناع الغطرسة وانحنى باعتذار صادق لرائد، في تصرّف نادر الحدوث منه، بل يكاد يكون مستحيلًا. لم يكن اعتذاره بدافع الندم فقط، بل لأنه يعلم تمامًا من هو رائد… رجل لا يجرؤ أحد على استفزازه.
في الليلة الماضية، حين رأى بعينيه أن رائد يُقيم في “غرفة السماء”، تملّكه القلق، وشعر بخطرٍ لا يقدر على مواجهته. لم ينتظر طويلًا؛ انطلق فورًا إلى المدير العام لمنتجع “ماونتن”، حمزة، الرجل الذي يُعدّ أحد أعمدة المكان في منطقة الزهور. فبصفته المسؤول عن فرع المنتجع هناك، كان يتمتع بهالةٍ من الهيبة والنفوذ، جعلت من حضوره مرجعًا لا يُستهان به.
كانت مكانة حمزة استثنائية بحق؛ فقد فرض احترامه على الجميع، حتى على الزوّار من أصحاب النفوذ والمكانة الرفيعة. ومهما علا شأن الضيف، كان لا بد له من الالتزام بـ”القواعد الـ96″، التي لم تكن مجرّد لائحة تنظيمية، بل كانت أشبه بعقد شرف غير مكتوب، يُقرّ به من تطأ قدماه أرض المنتجع، إجلالًا لحمزة ومكانته.
لا أحد يجرؤ على التهوّر في هذا المكان، ولا أحد يُخالف أمر حمزة. فرغم أن سِنان القيسي كان بدوره شخصية بارزة وذات نفوذ في الزهور، إلا أنه لطالما أظهر احترامًا بالغًا لحمزة. وبما أن سِنان يحمل البطاقة الماسية للمنتجع، فقد قابله حمزة باحترام مماثل، وسادت بينهما علاقة ودية، قائمة على التقدير المتبادل.
في تلك الليلة، سأل سِنان القيسي حمزة عن رائد، لكن الأخير لم يُفصح بالكثير، لأنه في الواقع لم يكن يعرف عنه الكثير هو الآخر. اكتفى بنصيحة واحدة، كانت كافية لتجعل سِنان يعيد حساباته:
“إياك أن تسيء إليه.”
ولأن سِنان رجل فطن، التقط الرسالة سريعًا، وفهم أن هذا الرجل ليس ممن يُستهان بهم، وأن عليه أن يُجنّب نفسه الصدام معه.
قضى ليلته مضطربًا، لم يغمض له جفن، وفي الصباح الباكر، سبق الجميع وانتظر عند المدخل، فقط ليُقدّم اعتذاره لرائد.
حين وصل رائد، وقف سِنان وانحنى أمامه بصدق. كانت لحظة صاډمة بحق.
فادي والآخرون كانوا مذهولين. كانوا يظنون أن سِنان سيخوض مواجهة شرسة مع رائد، وربما حربًا خفية، لكن من كان يظن أنه سينحني ويعتذر؟
من هذا الذي يستطيع أن يجعل سِنان القيسي، رمز الكبرياء في الزهور، يُنزل رأسه بهذه الطريقة؟
رائد فعلها.
المشهد أربك الجميع، وجعلهم يتساءلون:
“ما الذي يحدث بحق الچحيم؟”
“لماذا يعتذر سِنان؟”
حتى جنى، التي كانت تقف بجانب رائد، كانت مبهوتة. في البداية، ظنّت أن سِنان قادم للاڼتقام، فارتبكت، وتجمّدت في مكانها. لكنها لم تكن لتتخيل أبدًا أن هذا الرجل سيقف ليعتذر.
كان الحضور جميعًا في حالة صمت، ما عدا رائد.
نظر إلى سِنان ببرود، وبتعبير خالٍ من الاكتراث، قال:
“لا داعي لأن تعتذر لي… أنا لم أُعر اهتمامًا لوجودك أصلًا.”
ثم أشار إلى فادي والآخرين، وقال بنبرة باردة:
“إن أردت أن تعتذر، فاعتذر لهم… هم من أمضوا الليلة الماضية خائفين، وظلّوا يلومونني لأني أحرجتك.”
وبمجرد أن أشار إليهم، تقدّم سِنان نحوهم، فتراجعوا مذعورين، وجوههم شاحبة، والعرق يتصبب من جباههم.
سألهم سِنان بصرامة:
“السيد رائد لم يُخطئ. لماذا تلومونه إذًا؟”
أجابوا بارتباك، يتلعثمون من شدة الخۏف:
“نعم، نعم… لم يكن مخطئًا… لقد أسأنا التقدير فقط.”
بدت كلماتهم أشبه باعترافات في محكمة، أكثر مما هي توضيحات، فقد كانت رهبتهم من الموقف أقوى من أي تبرير.
رائد، وقد ضاق ذرعًا بهم، لم يقل شيئًا آخر، بل استدار بهدوء، وأخذ جنى معه، وهي لا تزال مذهولة لا تفهم ما جرى.
أما سِنان، فعندما رأى رائد يرحل، أطلق تنهيدة ندم عميقة، ثم غادر بصمت.
وبقي فادي والآخرون في مكانهم… بين الندم والذهول والتوتر، يتساءلون عمّا جرى، وعما قد يحدث لاحقًا.
كان الجميع يعلم في قرارة نفسه أن سِنان لم يُخطئ في حق رائد كما فعلوا هم.
في الواقع، سِنان بالكاد احتكّ به، أما هم، فمنذ الأمس وحتى هذا الصباح، لم يتوقفوا عن السخرية والمزاح الثقيل، وكأنهم يتسلّون بشخص لا وزن له.
لم يكن في مخيلتهم يومًا أن رائد هو من أجبر سِنان القيسي، بكل مكانته وهيبته، على الانحناء وتقديم الاعتذار.
ظل فادي يحدّق في رائد، وكأنّه يراه لأول مرة. تمتم وهو يستعيد مشهد البارحة:
“هل تتذكرون جميعًا ما قاله رائد بالأمس؟ قال إن تناول العشاء مع زوجته شرف لنا…”
هزّ الآخرون رؤوسهم موافقين، وقد بدأت نظرات الندم والخجل ترتسم على وجوههم.
أردف أحدهم بصوت منخفض، أقرب إلى الهمس:
“هل يُعقل أن يكون ذكيًا جدًا ويُخفي قوته الحقيقية؟”
لم يرغب فادي في التورّط في تحليلات معقدة، ولم يكن لديه وقت للتفكير العميق. ما أدركه في تلك اللحظة هو أمرٌ واحد: رائد ليس شخصًا يُستهان به، وإن أراد استعادة التوازن، فعليه التحرك فورًا.
الټفت إلى ياسمين وقال بإلحاح:
“أنتِ صديقتها المُقرّبة. يجب أن تُعيدي بناء علاقتك مع جنى… فورًا. تعالي معي!”
لم تنتظر هي الأخرى، بل سارت خلفه بخطوات مترددة، متأرجحة بين الإحراج والواجب. تبعهم الآخرون على عجل، كما لو كانوا في سباق لاسترضاء المجهول.
حين وصل رائد إلى مدخل المطعم، لحقوا به.
ياسمين تقدّمت بسرعة وأمسكت بيد جنى بلطف، متظاهرة بالودية:
“جنى… لم نتناول الإفطار بعد، هل تنضمين إلينا؟”
في الحقيقة، كانوا قد أنهوا إفطارهم منذ وقت طويل، لكن الأمر لم يكن عن الطعام، بل عن استعادة ماء الوجه.
كانت هذه خطة فادي، محاولة سريعة لإعادة وصل ما انقطع، وكسر الجليد المتراكم منذ الأمس.
جنى، رغم الصدمة التي لا تزال تسكن ملامحها، لم تجد في نفسها القدرة على الرفض، خاصة أن الطلب جاء من صديقتها المقربة.
وهكذا، انضموا جميعًا إلى غرفة خاصة في المطعم. جلسوا متوترين بعض الشيء، يحاولون إخفاء اضطرابهم خلف ابتسامات مصطنعة.
وفي تلك اللحظة، قال فادي بنبرة حاول أن يُغلّفها بالدفء:
“هذا… هذه الغرفة على حسابي اليوم. اعتبروه هدية مني.”
كأنّه أراد أن يقول الكثير دون أن يتكلم، أن يُثبت شيئًا دون أن يفسّره… لكن في أعين الجميع، كان ذلك مجرد بداية لتبدل ديناميكية القوة.
فالمائدة لم تكن مُخصصة للطعام فقط، بل لإعادة ترتيب الولاءات، وتحسس مواضع النفوذ الجديدة… التي بات واضحًا أنها تدور حول شخصٍ واحد: رائد.
“أحسنوا التصرّف.”
قالها رائد بنبرة هادئة لكنها حادة، ثم نظر إلى الحاضرين وسألهم ببرود ساخر:
“ألا تخجلون؟ لما تستمرون في دعوتي أنا وزوجتي؟”
كانت كلماته كصڤعة مباغتة على وجوههم جميعًا، صڤعة لم تُبقِ أي مساحة للكرامة.
احمرّت وجوههم دفعة واحدة، وكأنها اشتعلت بڼار الخجل.
فادي، الذي لم يلتقط السخرية في البداية، تساءل في داخله بذهول:
هل كان رائد يسخر منهم طوال هذا الوقت؟ هل لا يزال يتذكر كلماتهم ومزاحهم السخيف بالأمس؟
ارتبك تمامًا، وتلعثم، ثم قال بتواضع مفتعل، محاولًا إنقاذ الموقف:
“لا بد أن السيد رائد يمزح… كنا نحن الجاهلين، لم نكن نعلم شيئًا. السيد رائد رجل موهوب، ووسيم… كيف يكون أحمق؟ نحن الحمقى، نحن من أسأنا. بل إنه لشرف لي أن أتناول العشاء معك ومع السيدة جنى.”
وانضم إليه الآخرون سريعًا، يكررون العبارات نفسها وكأنهم في طقوس استرضاء:
“نعم، نعم… إنه لشرف عظيم أن نتناول العشاء مع السيد والسيدة جنى!”
رائد لم يكن يُكنّ لهم أي احترام. بالنسبة له، كانوا مجرد وجوه باهتة تتلوّن حسب الموقف، لكنه رغم ذلك لم يُحرجهم أكثر مما فعل، احترامًا لعلاقة جنى بصديقتها ياسمين.
ألقى نظرة عابرة على قائمة الطعام، ثم طلب كميات كبيرة بلا تردد.
جلسوا جميعًا حول الطاولة، يُثنون عليه، يُلقون المجاملات الواهية، وكأنهم يجالسون ملكا لا يُخطئ.
أما هو، فكان يتجاهلهم تمامًا. تناول طعامه بصمت، وكأنهم غير موجودين.
ما لم يتوقّعه أحد هو أن ياسمين بدأت الحديث مع جنى، دون تردد.
كانت في الأصل أكثر من انتقدت رائد، وظنت أنه عبء ثقيل على صديقتها.
لكن الآن، بعد أن انكشفت هويته الحقيقية، باتت عاجزة عن استيعاب ما تراه.
بادرتها ببعض الكلمات، ثم مالت نحوها، وهمست بتوتر:
“جنى… ما نوع الرجل الذي تزوجته؟ كيف استطاع أن يجعل السيد سنان نفسه يعتذر له؟”
جنى نظرت إليها بارتباك، وهي بالكاد تفهم ما يحدث بنفسها.
في الحقيقة، لم تكن تملك إجابة. كانت الدهشة ما تزال تملأ عقلها وقلبها.
لم تكن لديها أدنى فكرة، فهزّت رأسها وأجابت بحيرة:
“وأنا أيضًا لا أعرف.”
تساءلت ياسمين بدهشة:
“مستحيل! إنه زوجكِ، ألا تعرفين شيئًا على الإطلاق؟”
قالت جنى بصراحة وهدوء:
“لا أعرف… أنا نفسي أتساءل لماذا اعتذر السيد سنان فجأة.”
فادي الذي كان يتنصت على الحوار، عندما سمع تلك الاجابه انزعج بشدة.
منطقيًا، إن كان الزوج كفؤًا، فمن الطبيعي أن تعرف زوجته بذلك. كان من الغريب أن جنى لا تعرف شيئًا.
وبعد لحظات من التردد، لم يتمالك فادي نفسه فسأل رائد مباشرة:
“سيد رائد، هل يمكنك أن تخبرني لماذا اعتذر لك السيد سنان؟”
عند سماع هذا السؤال، اجتذب رائد انتباه الجميع. كل الأنظار توجّهت إليه بفضول مترقّب.
وفي تلك اللحظة، كان رائد قد انتهى من تناول طعامه، فوضع ملعقة الطعام جانبًا وقال بهدوء، دون اكتراث:
“ربما… لأنه يعلم أن المختل عقليًا لا يُحاكم إن ارتكب چريمة قتل. إنه يخشى أن أقتله!”
بالطبع، لم يكن رائد ليخبرهم بالحقيقة. لم يكن في نيّته أن يشرح، ولا أن يرضي فضول أحد. لذا جاءت إجابته سطحية وساخرة.
عَبَس فادي بذهول، غير مصدّق:
“ألم يكن يعرف ذلك منذ البارحة؟”
فأجابه رائد بلا مبالاة:
“ربما اكتشف الأمر الآن.”
وهنا، اشټعل ڠضب فادي تمامًا.
كان هدفه من دعوة رائد إلى الإفطار هذا الصباح هو كشف هويته الحقيقية.
راقبه طوال الوقت وهو يأكل، مترقّبًا أن يلمح أي شيء غير عادي. لكنه لم يرَ شيئًا.
بل إن جنى نفسها لا تعلم إن كان زوجها كفؤًا أم لا.
أما الآن، وبعد سماعه إجابة رائد، بدت له الأمور أكثر وضوحًا.
نعم، سِنان القيسي، بصفته شخصية بارزة، لو قتل رائد لوقع في ورطة. أما إن قټله رائد، المختل عقليًا، فلن يُحكم عليه… لن يُعاقَب أصلًا.
فكّر مطوّلًا، ولم يجد سوى هذا التفسير منطقيًا.
“يا إلهي… لقد خدعني هذا الأحمق مرة أخرى.”
ضړب فادي الطاولة بقبضته غاضبًا، وقال ساخرًا:
“انه يأكل مجانًا… ويرتكب الخطايا كما يشاء!”
شعر الآخرون أيضًا بالاستياء، وانتهى الإفطار مجددًا بنهاية مُحبِطة.
خرج فادي من الغرفة غاضبًا، وأشار نحو رائد وجنى، ثم قال لياسمين بنبرة حاسمة:
“إنهما يتحايَلان فقط من أجل الحصول على طعام مجاني. في المرة القادمة، يُمنَع عليكِ التواصل معهما. واضح؟”
وفجأة، قاطع حديثه صوت ساخر تخلله ضحكة مستفزة:
“يا سيد فادي، كم أنت ذكي… ومع ذلك تنخدع بهذين المتخلّفين؟!”
كان رَيّ قد اقترب في تلك اللحظة، وعلى وجهه ابتسامة لاذعة تنضح بالسخرية.
رمقه فادي بريبة وسأله بحدّة:
“إذًا… السيد رَيّ يعرفهما؟”
أومأ رَيّ بثقة دون تردد:
“قابلتهما مرتين من قبل.”
جاءا إلى منتجع ماونتن بسيارة أجرة، وهو أمر أثار دهشتي وإعجابي في آنٍ واحد.
ما إن أنهى رَيّ حديثه، حتى أضاف الجالس بجانب فادي، بنبرة ساخرة:
“هذان المتخلّفان لا يملكان حتى بطاقات كبار الشخصيات، ولا أدري كيف تمكّنا من دخول المنتجع.”
عند سماع ذلك، لم ترغب جنى إلا في أن تختفي من على وجه الأرض. كان الإفطار محرجًا بما فيه الكفاية، والآن ازداد سوءًا بعد أن عرف الجميع أنهما لا يحملان بطاقات كبار الشخصيات. بدا فادي وياسمين مقتنعَين بأن رائد وجنى يتسلّلان فقط من أجل الطعام والشراب المجاني.
شعرت جنى بخزيٍ شديد، بينما اشټعل الڠضب في عيني فادي، وبدأت ملامحه تتوتر بشدّة. بدت تعابير وجهه وكأنها تصرخ: “نحن نشعر بأننا تم التحايل علينا.”
وبرزت عروقه من شدّة الڠضب، إذ أيقن أنه تعرّض للخداع. كان قد بالغ في مدح رائد قبل لحظات فقط، والآن لم يشعر سوى بالاشمئزاز.
صرّ على أسنانه وحدّق في رائد بحدّة:
“أيها الأحمق… سأجعلك تدفع ثمن ما فعلت بي.”
في تلك اللحظة، دخلت مجموعة كبيرة من الأشخاص إلى قاعة الطعام. كان يتقدّمهم رجل ذو حضور مهيب: حمزة، المدير العام لمنتجع ماونتن.
كان المنتجع يُعدّ بمثابة أرض مقدسة للعائلات الثرية، وحمزة يُمثّل فيه السلطة العليا. قوته ومكانته بين النخبة لم تكن محلّ شك، ومع ذلك، ظلّ دائمًا شخصية غامضة ونادرة الظهور. لم يكن رجل أعمال مثل فادي، ولا وريثًا شابًا مثل رَيّ، بل يتجاوزهم جميعًا مكانةً وتأثيرًا.
وما إن رأى الحاضرون حمزة يتقدّم بخطى واثقة نحوهم، حتى سارع فادي ورَيّ وآخرون إلى التنحي جانبًا وفتح الطريق له احترامًا.
لكن المفاجأة الكبرى كانت حين توقّف حمزة أمام رائد تحديدًا.
انحنى قليلًا أمامه، في لفتة احترام لم يرَها أحد من قبل، وقال بصوت هادئ يحمل الكثير من التقدير:
“مرحبًا، سيد رائد. رئيسي يطلب حضورك.”