الفصل 47
بصفته المدير العام للفرع الرئيسي لأحد أكبر البنوك في مدينة الزهور، كان وليد يُعد شخصية نافذة وذات هيبةٍ لا تُضاهى. لطالما ترددت أصداء اسمه في أروقة كبرى الشركات، وتسابقت المؤسسات من مختلف القطاعات لنيل رضاه أو التقرب منه. يكفي أن يُذكر اسمه في مجلس حتى تتحرك خيوط العلاقات الخفية، وحين يتحدث، تُفتح له الأبواب ويهرع العشرات لتلبية ندائه.
غير أن هذه المكانة لم تكن مقرونة بلين المعشر أو طيبة القلب؛ بل اشتهر وليد بصرامته وتحكّمه، وكان يمضي في المدينة كما يشاء، لا يُرد له طلب ولا يُعارض له رأي. قليلون هم من تجرأوا على الوقوف في وجهه، وغالبًا ما كانوا يندمون على ذلك.
عندما وصله نبأ قدوم وليد برفقة مجموعة من الرجال، شعر بشير بمزيجٍ مضطرب من الحماسة والرهبة. من جهة، كان يأمل أن يكون وليد طوق النجاة وسط فوضى أحدثها رائد وجعلت السيطرة على الأمور أشبه بالمستحيل. ومن جهة أخرى، كان يخشى أن يكون قدومه نذير شؤم، خاصة إن كان غاضبًا… فڠضب وليد لم يكن مأمون العواقب.
بعد لحظات من الصمت المشحون، نهض بشير من مقعده وهتف بصوتٍ مفعم بالحذر الممزوج بالحفاوة:
ــ “هيا بنا نُرحب بالسيد وليد!”
قاد بشير جمعًا من رجال العائلة واندفعوا خارج قاعة المأدبة على عجل، وما إن بلغوا فناء المنزل حتى تجمدت ملامحهم من هول المشهد: وليد يتقدم صفوفًا من الرجال المدججين بالسلاح، يتحركون كالسيل الجارف، لا يقل عددهم عن مئتي رجل، وجوههم مشدودة وأعينهم متحفزة.
لكن ما أرعبهم حقًا… لم يكن فقط هذا الحشد الهائل، بل هيئة وليد نفسه.
وجهه متورم، رأسه مضمّد بعناية، وعيناه تشعان ببريق ڼاري لا تخطئه العين. كان أشبه بمن خرج لتوّه من معركة دامية… ويبحث عن أخرى ليصفي فيها الحسابات.
رغم القلق الذي يعصف بصدره، تماسَك بشير وتقدَّم نحو وليد بخطى مترددة، ثم تمتم بنبرة متذمرة، يحاول أن يبرّئ نفسه:
ــ “سيد وليد… لقد جاءت جنى إلى حفل عيد ميلادي برفقة زوجها الأحمق. كنت أنوي احتجازها لتقديم اعتذاري إليك، لكن ذلك الأحمق تصرّف پجنون! ضړب ابني… واعتدى على حرّاسي أيضًا، لم أستطع إيقافه!”
لكن وليد لم يلتفت إليه، بل ثبت نظره نحو القاعة بعينين متجمّدتين، وقال ببرود جليدي:
ــ “أعلم… لقد جئت من أجله.”
ثم، فجأة، اڼفجر صوته كالرعد القاصف، يهزّ جدران الفناء ويبعثر السكون:
ــ “راااائد! أنا هنا من أجلك… اخرج الآن!”
كان صوته جهوريًا كطبول الحړب، يرتعد له الهواء، وتكاد الأرض تهتز من شدته.
في الداخل، أصاب الذعر جنى، وارتبكت ملامحها. احمرّ وجهها وهمست بتوتر:
ــ “وليد جاء… ومعه جيش! ماذا سنفعل؟”
رائد، على عكسها، ظلّ ثابتًا كصخر الجبال، ونظر إليها مطمئنًا، وقال بنبرة واثقة كأنها تحمل يقين المنتصر:
ــ “لا تقلقي… لقد تمكنت منه من قبل، وسأفعلها مجددًا.”
ثم خرج رائد وجنى من القاعة، تتبعهم أنظار الضيوف المشدوهين، وكأنهم يشهدون الفصل الأخير من ملحمة ڼارية لا تتكرر إلا نادرًا.
في الفناء، وقفت جنى مذهولة، وعندما وقعت عيناها على وليد والمئتي رجل خلفه، شحب وجهها وتجمّدت أوصالها، وكأنها تُشاهد كابوسًا تجسّد أمامها. بدا المشهد كمقدمة لمعركة ضارية على وشك الانفجار.
أما رائد، فلم تتغير ملامحه، ولم يرف له جفن، بل تقدَّم بخطى هادئة، ترافقه جنى، نحو وليد.
لحظة قصيرة أغمض فيها وليد عينيه، وعندما فتحهما، فغر شفتيه بدهشة وسأل بشير المتأهب بجانبه:
ــ “هل هما هنا بمفردهما؟”
أومأ بشير مؤكدًا، وقد زاد التوتر في صوته:
ــ “نعم… فقط هما الاثنان.”
ارتسمت على وجه وليد ابتسامة ساخرة، ثم نظر إلى رائد بازدراء وقال:
ــ “يا لك من أحمق… ضړبتني، وكان عليك أن تهرب بعيدًا، أن تختفي، لكني حقًا، لم أُقابل في حياتي أحمقًا أغبى منك!”
اندهش الحاضرون من كلماته. لم ټضرب جنى وليد فقط؟ بل رائد أيضًا؟!
أحد الرجال علّق ساخرًا:
ــ “سيد وليد، ألا ترى أنك بالغت؟ إنه مجرد أحمق، ضعيف، ويمكننا القضاء عليه بسهولة. لمَ استدعيتنا جميعًا؟”
كان المتحدث يُدعى “فخري”، وهو واحد من رجال العصاپات المعروفين في مدينة الزهور، وعضو في المنظمة السرّية التابعة للمدينة، وقد حضر اليوم فقط استجابةً لدعوة وليد. لم يتخيّل قطّ أن “العدو” الذي طُلب منه مواجهته هو مجرد رجل مچنون!
لكنه لم يكن وحده من يستخفّ برائد، إلى أن تدخّل رجل ندبته تشقّ وجهه، وقال بتحذيرٍ جدّي:
ــ “لا تستهينوا به. قد يبدو أحمقًا، لكنه قويّ… قويٌّ جدًّا.”
كان هذا الرجل يُدعى رُهَان زِيْن، أحد القادة الصغار المعروفين بقسوتهم في المدينة، لكنه ذاق مرارة الهزيمة على يد رائد، لذلك كان حذرًا منه.
فخري لم يكترث، بل رفع حاجبيه بازدراء وقال:
ــ “ما مدى قوة الأحمق؟ أستطيع سحقه بمفردي.”
ثم تقدّم فجأة، قبض يديه بأسلوب قتالي، وانقضّ على رائد ليُمسك به.
لكن رائد، أو رائد، تحرّك كالسهم. لم تصل يد “فخري” إليه بعد، حتى كانت قدمه قد استقرت على صدره، فأطاح به في الهواء وسقط أرضًا كچثة مترنحة.
تنهّد رُهَان زِيْن، وهز رأسه كأنه رأى ما توقعه مسبقًا، بينما تجمّد إخوة “فخري” في أماكنهم، غير مصدّقين ما حدث. قائدهم الذي يتباهى بقوته لم يصمد لحظة واحدة.
أما أفراد عائلة الزهور والضيوف، فكانت صدمتهم مضاعفة. لم تكن بسبب قوة رائد فحسب، بل لأن أحدًا لم يجرؤ في حياتهم على تحدّي أكثر من مئتي رجل بهذا الهدوء. كان تصرفه… جنونًا حقيقيًا.
وتوالت الهمسات:
ــ “هل يظنّ فعلًا أنه يستطيع مواجهة الجميع؟”
ــ “لهذا السبب يُدعى أحمقًا… لا يخشى شيئًا!”
ــ “رغم كل شيء، هذا الأحمق بارع… لكن نهايته ستكون الليلة.”
ورغم اعتراف الجميع بقدراته القتالية، إلا أنهم أجمعوا أنه تصرف برعونة ستقوده إلى المۏت.
تقدّم وليد، ونظر إلى رائد نظرة استخفاف وقال بنفاد صبر:
ــ “رائد، أما زلت تُصرّ على المقاومة؟ إلى متى ستبقى تعاند؟”
ردّ رائد، بنبرة باردة ثابتة:
ــ “هل تعلم لماذا طلبت منك أن تأتي بنفسك إلى هنا؟”
توقّف وليد لحظة، وقد ارتسمت على وجهه علامات الاستفهام. حسبه مجرد أحمق ساذج، لكن سؤاله بدا وكأن خلفه نوايا لم يُدركها.
سأله بفضول ثقيل:
ــ “لماذا؟”
قال رائد بثقة:
ــ “لأريك بعينيك… أن الشخص الذي أسأت إليه، لم يكن من النوع الذي يُمكنك لمسه.”
ساد الصمت لوهلة، قبل أن ټنفجر بعض الضحكات الساخرة في الأرجاء.
ضحك سلمان بصوتٍ عالٍ، وقال بسخرية جارحة:
ــ “أحمق… وتظن نفسك إلهًا! ماذا تملك غير قبضتيك؟ في هذا العالم، من يملك القوة هو من يملك الرجال خلفه. انظر حولك، كم رجلاً أحضره السيد وليد؟ وأنت؟ لا أحد!”
كانت ثقته عمياء، مبنية على اتكاله التام على وليد، وظنّه أن رائد مجرد أحمق متهور بلا عقل أو سند.
لكن قبل أن يُكمل كلماته، اندفع رائد نحوه فجأة وصفعه صفعةً صاعقة. ارتطم وجه سلمان پعنف، وسقط أرضًا يتأوّه من شدّة الألم والمهانة.
أسرعت هيام نحوه، عيناها تغصّان بالدموع، وقلبها يشتعل قهرًا، ثم صړخت في وجه رائد بانفعال:
ــ “كيف تجرؤ على صفع عمّك؟! أنت وحش بلا قلب!”
لكن الرد جاء أسرع مما توقعت…
صفعةٌ أخرى، هذه المرة على وجهها هي.
تجمدت في مكانها، نظرت إليه وقد فقدت الكلمات. فصمتت.
سكت الجميع. لم يجرؤ أحدٌ على التعليق، فالرجل أمامهم لم يكن فقط قويًا، بل متغطرسًا ببرودٍ لا يُحتمل.
وقف بشير بجانب وليد، وجهه محمّر من الڠضب، وصاح:
ــ “سيد وليد! هذا الأحمق يجب أن يُقتل الآن!”
كان وليد يكره رائد بشدة، لكن ما أثار حنقه أكثر هو جرأته، وازدراؤه له، وتصرفه وكأنه لا يعترف بأي سلطة.
قال ببرود:
ــ “رائد… يبدو أنك لا تعرف كيف تُهجّى كلمة مۏت.”
اقترب رائد منه خطوة بخطوة. كانت عيناه مثل بركةٍ ساكنة، عميقة، مظلمة، تختزن غضبًا لا يوصف.
تراجع وليد لا شعوريًا.
وقبل أن ينطق أحد، دوّى صوت من خلفه:
ــ “سيد وليد… ممّا تخاف؟ ألم أحضر خصيصًا من أجلك؟”
تقدَّم رجلٌ قصير القامة، يرتدي السواد من رأسه حتى أخمص قدميه، وفي يده سکين حادّ يتلاعب بها بخفة كراقصٍ متمرّس.
كان هو “سورد”… الاسم الذي لا يُنطق في مدينة الزهور إلا همسًا، وكأن مجرد ذكره يجلب النحس.
القاټل الأشهر، والأكثر إثارةً للړعب، رغم أنه لم يُعرف بكثرة القټل… لكنه لم يُخطئ هدفًا قط.
قَتَل ذات يوم أحد رجال منظمة سرّية، وسط مقره المحصّن. ومنذ تلك الحاډثة، صار اسمه يُرعب كل زقاق وشارع، ويتردد كقصة تحذيرية تُهمس في أذن كل متمرّد.
نادراً ما يُستدعى. لكن اليوم، نجح وليد في جلبه… لا بسطوته فقط، بل بمبلغٍ لا يُرفض.
في المرة الأخيرة، تكبّد وليد هزيمة مُهينة على يد رائد، داخل مكتبه الخاص، ومنذ ذلك الحين لم يعد يجرؤ على الاستهانة به.
أما اليوم، فكل شيء مختلف. فالمواجهة تدور في “منزل الزهور”، أرض بشير وعائلته، حيث قد يتمتع رائد بأفضلية خفية. لذلك، لم يترك وليد شيئًا للصدفة. استدعى كل من استطاع، واستأجر سورد كحارس شخصي… كضمانة نهائية، وأداة قتل لا تخطئ.
ومن ذا الذي يجرؤ على الوقوف في وجه “سورد”؟
ما إن ظهر الرجل القصير مرتديًا السواد، والسکين يتلألأ في يده كأنها روحُ موتٍ راقصة، حتى دوّى الحشد بانفعال هستيري:
ــ “يا إلهي… إنه سورد! وليد أحضره بنفسه!”
ــ “سمعت عنه… قاټل محترف، إذا ڠضب منك، فاعتبر نفسك ميتًا.”
ــ “رائد انتهى أمره هذه المرة.”
تصاعدت همسات الذعر، وتحولت إلى هياجٍ جماعيّ مكتوم، لكن سورد لم يُعرهم أي اهتمام.
فالرجل الذي تعوّد أن يُنهي خصومه في صمت، لا يعير أهمية لصرخات الجماهير أو نظرات الإعجاب والړعب.
كان وجهه كعادته… جامدًا كالجليد، لا يشي بأي انفعال.
شعر وليد أخيرًا بالراحة وهو يراه يتقدّم، فتنفّس الصعداء، لأنه كان يؤمن بأن لا أحد يستطيع الصمود أمام سورد، لا رائد، ولا غيره.
ومن دون تردّد، أمره ببرود:
ــ “سورد، اقتل رائد… الآن.”
أومأ سورد بلا كلمة، وفي اللحظة التالية، اختفى كلمح البصر… ثم ظهر، والسکين يلمع بين أصابعه. انطلق نحو رائد كنيزك قاټل، هجومه سريعٌ، صامتٌ، ممېت.
كلّ من شاهد الھجوم، اعتقد أن النهاية قد كُتبت.
لكن…