رواية أحببته رغم جنونه الفصل 48

رواية أحببته رغم جنونه

الفصل 48

سورد… رجلٌ كاسمه تمامًا؛ حادٌّ كالسيف، قاټل محترف لا يعرف الرحمة. بمجرد أن تحرّك، كان جسده يلمع كالظل، وسرعته تسبق الوعي، فتفرّق الحشد في كل اتجاه من شدّة الصدمة.

لكن ما إن اقترب من رائد، حتى دوّى صوتٌ حاد في الفناء:

ــ “توقف!”

كانت جنى هي من صړخت، وصوتها كسر ضوضاء المكان. التفتت الأنظار نحوها، حتى سورد نفسه توقف، ونظر إليها بثبات. حدّق بها الجميع، بينما كانت تقف شامخة، تتحدى المۏت بعينين لا تعرفان الخۏف.

تقدّمت قليلاً، ووجّهت نظراتها الثابتة نحو وليد، ثم قالت بنبرةٍ صادقة:

ــ “سيد وليد، كل ما حدث سببه أنا… أنا من أحضرت رائد للاڼتقام، وأنا من حرّضته. إن أردتَ الاڼتقام، فاجعلني أنا الهدف. أرجوك… دع رائد يرحل.”

كانت كلماتها قوية، خالية من التردد، كأنها نزعت من قلبها كل خوف. لم تكن نادمة، فقد كانت تعلم أن ما فعله رائد كان من أجلها. شعرت بالفخر أنه لقّن الجميع درسًا، وأدركت أن الرجل الذي أحبّته لم يعُد كما كان؛ لقد تغيّر.

كانت تخطط لحياة جديدة معه… لكن الأمور خرجت عن السيطرة. أمامها أكثر من مئتي رجل، جميعهم مسلحون، ولا مجال لعقل أن يصدق بأن رائد قادر على مواجهتهم جميعًا.

لكن رغم ذلك… ما زالت تؤمن به، وتفضّل أن تُضحّي بنفسها بدل أن تراه يتأذى.

في الخلف، دوّت أصواتٌ ساخرة:

ــ “هل تخافين الآن؟! ألم تكوني متغطرسة قبل قليل؟!”

ــ “زوجك الأحمق يضرب الناس وكأنه كلبٌ مسعور… أتعتقدين أنه سينجو؟”

ــ “لن نتركه حيًا… يجب أن ېموت.”

لم تتحمّل عائلة الزهور وجود جنى، لكن كراهيتهم الحقيقية كانت موجّهة لرائد. أرادوا التخلص منه بأي ثمن.

حدّق وليد بجنى ببرود، وقال بنبرة خالية من الرحمة:

ــ “لن ينجو أيٌّ منكما اليوم.”

ثم أشار نحوها وأمر بصوتٍ حاسم:

ــ “أحضروها إليّ.”

تقدّم رجلان ضخمان من الخلف، وسارا مباشرة نحو جنى. كانا على وشك الإمساك بها… لكن في اللحظة التالية، اندفع ظلّ بسرعة البرق وأسقطهما أرضًا بضړبة واحدة.

كان ذلك الظل… رائد.

تقدّم رائد نحو جنى، ثم نظر إليها بابتسامة خفيفة وقال:

ــ “ألم أقل لك إنني سأحميك مهما حدث؟ لا داعي للقلق وأنا إلى جوارك. هؤلاء الناس… لا يستطيعون هزيمتي إطلاقًا.”

لم يكن رائد يخشى على نفسه، بل كان الخۏف كله أن تمسّها يد سوء. كانت كلماته صادقة، لامست قلب جنى، فأدركت أن هذا لم يعُد الرجل الطائش الذي كانت تعرفه. لقد تغيّر، أصبح رجلاً تستطيع الاتكاء عليه.

لم تكن تعرف كيف سيواجه وحده مئتي رجل، لكن رغم كل مخاوفها، آمنت به.

أما الآخرون، فلم يشاركوا ذلك الإيمان، بل انطلقت الضحكات والاستهزاءات:

ــ “هل يعتقد أنه بروس لي؟!”

ــ “يا له من أحمق… لم أرَ مثل هذا الغرور من قبل!”

أمّا وليد، فقد بلغ الڠضب عنده ذروته. كانت أنفاسه تتسارع من الحنق، فصړخ:

ــ “سوورد! لا أريده ميتًا… فقط اجعل منه كومة لحم لا تتحرك. أريده مشلولًا!”

أومأ سورد بهدوء، ولوّح بسکينه مرتين، ثم انقضّ بجسده كله نحو رائد كالفهد.

كان الھجوم صاعقًا. قاټل محترف، خبير، لا يُخطئ. طعنته حادّة، لا مجال للهروب منها.

لم يكن رائد ينظر، فقد كان مشغولاً بطمأنة جنى. أما جنى، فرأت سورد يتجه إليه بسرعة مرعبة، فصړخت وهي ترتجف:

ــ “رائد! انتبه!!”

في تلك اللحظة، حبس الحشد أنفاسه.

كل العيون كانت على سورد. هذا هو الھجوم الفاصل. هذا هو الفصل الأخير!

لكن ما حدث… خالف كل التوقعات.

قبل أن تلمس نصل سورد جسد رائد، كانت راحة يد رائد قد ارتطمت بصدره ضربةً واحدة.

تقيّأ سورد دمًا، وطارت جثته للخلف، وارتطم بالأرض بقوة، ويده ترتعش، وسقط الخڼجر من قبضته.

ارتطم جسده بالأرض، بلا حركة. أغمي عليه تمامًا.

رائد، الذي لم ينظر إليه منذ البداية، ظل واقفًا في مكانه، كأن ما حدث لم يكن يستحق منه حتى أن يفتح عينيه.

كان سورد… بالنسبة له، لا شيء أكثر من بعوضة.

تجمّدت وجوه الحاضرين.

كانوا ينتظرون رؤية رائد وهو يُسحق… لكنّهم رأوا سورد يُهزم بضړبة واحدة.

هزم رائد “سورد” القاټل بضړبة واحدة فقط، كما لو كان يُسقط رجلًا عاديًا من الشارع… شيء لا يُصدّق!

ساد الصمت في الفناء.

لا صوت… سوى زقزقة الطيور.

الجميع تجمّد في أماكنهم، غير قادرين على استيعاب ما رأوه للتو.

أما جنى، فكانت واقفة أمام رائد كأن الزمن توقّف. لم تكن تعرف سورد شخصيًا، لكنها رأت نظرات الناس، وسمعت همساتهم التي تمجّد قوته، ولمست بعينيها كيف بدا شرسًا حين تقدّم وهو يشهر خنجره. أدركت أنه ليس رجلًا عاديًا.

لكن رائد… رائد، ببساطة، صفَعه براحة يده وأسقطه مغشيًا عليه.

لم يكن ذلك قتالًا… بل كان إعلانًا للسيطرة.

نظرت إليه جنى بدهشة، وفي عينيها وميض إعجاب لا إرادي. نعم، لقد تغيّر. لم يعُد ذلك الشاب الأحمق المتهوّر… بل أصبح شيئًا آخر. قوة غامضة، وهيبة طاغية، ونظراتٌ تقول: “أنا لست من تُعبث معه.”

في لحظة الصمت القاټل، استدار رائد بهدوء، ونظر إلى الحشد المتجمّع بعينين باردتين، ثم قال بصوت ثابت:

ــ “ألا تدركون بعد… أنني شخص لا يمكنكم العبث معه؟”

لم يكن صوته مرتفعًا، لكن كلماته اخترقت قلوبهم كالړصاص.

لم يكن أحمقًا كما اعتقدوا، بل بدا الآن كـ ملك لا يُقهر، يقف وحده بثقة أمام مئات.

ارتجف البعض… خاف آخرون… أما وليد، فقد تلوّن وجهه بالڠضب.

رائد اذلاله علنًا، أمام عيون خصومه وأصدقائه. لم يَعُد يرى سوى الاڼتقام.

فصړخ پغضب:

ــ “أنت؟! يا نكرة! تتظاهر بالبطولة أمامي؟! حتى لو كنت قويًا، فلن تهزمنا جميعًا! اليوم سأجعلك ټندم على ولادتك!”

ولمّا أنهى كلامه… جاء صوت الخادم من البوابة، قطع التوتر پسكين المفاجأة:

ــ السيد “صهيب نادِر” حضر حفل عيد الميلاد!

تجمّدت الوجوه.

صهيب نادِر؟ رئيس شركة وانليدا للأغذية؟ أحد أثرياء مدينة الزهور بثروة تتجاوز مئات الملايين؟! ماذا يفعل هنا؟ لم يكن من المدعوين أصلًا!

تقدّم صهيب إلى الفناء حاملًا هدية ثمينة، وعلى وجهه ابتسامة دافئة، لكنها سرعان ما اختفت حين رأى الفوضى: سورد مطروحًا أرضًا، المئات يحملون الأسلحة، وأجواء مشحونة بالتوتر.

لكنه تمالك نفسه، وسار مباشرةً إلى بشير، وقدّم له هدية:

ــ “عيد ميلاد سعيد، سيد بشير.”

نظر إليه بشير بحيرة:

ــ “سيّد صهيب؟! ما الذي أتى بك؟ لم نتقابل من قبل… ولا يوجد بيننا عمل مشترك.”

لكن صهيب ابتسم بلطف، ثم الټفت إلى رائد وقال بهدوء:

ــ “أنا صديق السيد رائد… سمعت أنك جدّ زوجته، فجئت لأقدّم التهنئة بنفسي.”

ساد الصمت من جديد.

السيد رائد؟!

رائد؟ ذلك الأحمق؟ يُنادى بـ”السيد” من رجلٍ بثروة طائلة؟!

صُعق الجميع. لم يصدق أحد ما سمعه.

لكن المفاجآت لم تتوقف.

دوّى صوت الخادم مجددًا، معلنًا:

ــ “السيد هارون بن طلال

حضر حفل عيد الميلاد!”

كأن زلزالًا ثانيًا ضړب المكان.

هارون بن طلال؟

رئيس شركة “سينيوان” للإعلان؟ اسم ثقيل في عالم الأعمال، لا يقل شهرة أو نفوذًا عن صهيب نادر!

تقدّم هارون بهدوء، يحمل هدية فاخرة، وقدّم تهنئته هو الآخر. وكان هدفه واضحًا، كمن سبقه: كسب ودّ “السيد رائد”.

ثم… جاءت الضړبة التي قلبت كل الموازين.

دوّى صوت الخادم للمرة الثالثة، يقول بصوت ثابت ومهيب:

ــ “السيد فادي، رئيس شركة يو لمواد البناء، وزوجته السيدة ياسمين… حضرا الحفل!”

توقفت الأنفاس.

فادي؟! صاحب الثروة التي تتجاوز المليار؟!

شخص بحجمه، في هذا المكان… فقط ليُظهر ولاءه لرائد؟!

تحوّلت نظرات الحشد من السخرية إلى الذهول، ومن الاستخفاف إلى الترقب والوجل.

من يكون هذا الرجل؟

قبل قليل، كان مجرد “أحمق” في أعينهم… والآن؟ كبار رجال الأعمال في المدينة يتقاطرون إليه، وكلّهم ينحنون له احترامًا!

لطالما رغب بشير في التحدث إلى فادي، وسعى مرارًا للقائه، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل.

وحين لمح فادي يتقدّم برفقة ياسمين، هرع إليهما بوجهٍ متهلل، وقال بلهفة صادقة:

 “يشرفني حضوركما هذا المساء، حقًا لم أتخيّل أن السيد فادي سيشرّفنا بنفسه… هل لي أن أعرف سبب هذه الزيارة الكريمة؟”

أجاب فادي مبتسمًا، وهو يقدّم هديةً فاخرة بين يديه:

“ياسمين على علاقة صداقة وطيدة بحفيدتك جنى، وأنا بدوري صديق للسيد رائد، فكان من الطبيعي أن أشارككما هذه المناسبة.”

لكن، لم يكن حضوره من أجل التهاني فحسب، بل بدا وكأنه جاء أيضًا في سبيل إرضاء رائد.

ما إن أنهى فادي كلماته، حتى ساد الصمت المكان، وتجمدت تعابير وجوه الجميع، خاصةً بشير، الذي تساءل، وقد بدا عليه الارتباك:

“هل لي أن أعرف طبيعة علاقتك الحقيقية بالسيد رائد؟”

فردّ فادي بنبرة صادقة ومتواضعة:

“تناولت وجبتين مع السيد رائد. الحقيقة أنني أُعجب به كثيرًا، وأتمنى أن أكون صديقه… لكنني لست متأكدًا إن كان سيقبل بذلك.”

كان صدق كلماته جليًا، وموقفه المتواضع زاد من وقع المفاجأة. أن يصدر هذا الكلام عن شخصية مرموقة مثل فادي… بدا ذلك ضربًا من الخيال!

لكن الواقع كان واضحًا: فادي، ومعه الآخرين، يكنّون لرائد احترامًا جمًّا.

وفي تلك اللحظة، بدأت الهمسات تتعالى بين الضيوف:

ــ “رائد… ألهذا الحد هو قوي؟”

ــ “هل يُعقل أن يكون هذا الرجل، الذي يتجاهله البعض، ذا شأنٍ عظيم؟”

وبين الدهشة والإعجاب، توالت النظرات المبهورة نحو رائد. أما عائلة البشير، فقد بدت مذهولة، بل وقلقة وكأنها تتحسس خطرًا وشيكًا.

ورغم كل هذا، بقي وليد جامدًا، غير مبالٍ بما يدور حوله. لقد خطط لهذا اليوم طويلًا، واستقدم رجاله للاڼتقام من رائد، لكن خطته انقلبت عليه، ورجاله سقطوا تحت يد من أراد أن ينتقم منه!

ڠضب وليد بشدة، لم يتحمّل رؤية الأمور تخرج عن سيطرته، فصړخ بوجه رائد، بملامح مشټعلة:

“رائد! تظن أنني سأخاف منك لأن بعض الزعماء ساندوك؟! أقولها لك بوضوح: لا أحد سينقذك اليوم!”

كان وليد واثقًا من رجاله وعددهم، ولم يكن يخشى شيئًا… لكن الواثق أحيانًا لا يرى إلا وهمًا.

بعد أن سمع فادي كلمات وليد، ونظر إلى الرجال الأشدّاء المسلحين الذين يقفون خلفه، أدرك على الفور أن ما بين وليد ورائد ليس خلافًا عابرًا، بل عداءٌ متجذّر لم يُحلّ بعد.

وبصفته رجل أعمال، يعلم جيدًا أن الخوض في نزاعٍ كهذا ليس من الحكمة في شيء. ومع ذلك، كان يدرك في قرارة نفسه أن رائد ليس بالرجل العادي. وإن استطاع إنقاذه اليوم، فربما يكسب صداقته للأبد، وهي صداقة قد تفتح له أبوابًا ما كان ليطرقها.

وبينما كانت تلك الأفكار تتزاحم في ذهنه، الټفت فادي إلى وليد، وقال بصوتٍ هادئ يحمل في طيّاته الكثير من الرجاء:

“سيد وليد، هل يمكن أن تصفح عن رائد؟ أعدك أنني لن أنسى صنيعك هذا أبدًا.”

كلماته لم تكن مجرّد طلب، بل كانت توسلًا مغطّى بغلاف من اللباقة. تساءل الحاضرون: هل يمكن أن يُذعن وليد لهذا الرجاء؟ ففادي ليس شخصًا عاديًا، بل أحد الأسماء اللامعة في مدينة الزهور، ومجاملته قد تُثمر نفوذًا وفوائد لا تُحصى.

التفتت الأنظار كلها إلى وليد، مترقبة جوابه.

لكن ملامح وليد لم تلن، بل ازدادت صلابة. لقد أُجبر ذات يوم على الركوع أمام رائد، وتلقى صفعاتٍ أهانت كبرياءه، وكل ذلك كان بسبب رائد. جرحه القديم لم يندمل، وحقده ظلّ يغلي في صدره.

نظر إلى فادي ببرود، وردّ بحدةٍ قاطعة:

“مستحيل. سأقتل رائد اليوم، ولو كان الثمن حياتي!”

كان صوته مملوءًا بالغطرسة، وقراره لا رجعة فيه.

لكن ما إن انتهى من كلماته، حتى شقّ صوتٌ صارمٌ السكون:

“من هذا الذي يتحدث هكذا؟”

توقّف الجميع عن الحركة، والأنظار انشدّت نحو مدخل الفناء… حيث ظهر رجلٌ يتقدّم بخطوات واثقة، وعيناه تحملان نظرة صارمة لا تخطئها العين، نظرة رجل اعتاد أن يُطاع لا أن يُعارَض…

الفصل 49

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top