دخل بلال بصحبة صديقته الجديدة فرح.
حين وقعت عينا جنى على بلال، عقدت حاجبيها بانزعاج.
“ما الذي جاء به إلى حفلتنا الخاصة؟”
كانت هذه حفلة الأخوات الثلاث، فوجود بلال بدا دخيلًا وغير مبرر.
شعرت جنى بالضيق، وكأن ندمها على الحضور يتضاعف.
لكن بعد أن حدث ما حدث، لم يكن أمامها سوى البقاء وتحمل الوضع.
دخل بلال بخطوات متعجرفة، وبمجرد أن لمح جاد، هرع إليه كأنّ الرياح تدفعه، مدّ يديه قائلاً بحماسٍ مصطنع:
“أهلًا سيد جاد! أنا بلال، شقيق زهرة!”
تعمد بلال التأكيد على كلمة “شقيق” بصوت عالٍ، وكأنه يعلن عن مكانته أمام الجميع.
ردّ جاد بأدب:
“تشرفت، سمعتك من زهرة كثيرًا.”
وبعد التحية، الټفت بلال فجأة نحو رائد، وعيناه تفيض بالازدراء.
خاطب جنى بنبرة فظة:
“جنى، ما الذي يدفعكِ لإحضار هذا الأحمق مجددًا؟ ألا تخجلين من إهانة نفسك؟”
لكن زهرة تدخلت فورًا، وقالت بنبرة فيها شيء من التحدي:
“أنا من طلبت منها ان تحضر زوجها. هذا هو اتفاقنا، أليس كذلك؟ حفلة الأخوات الثلاث، يحضر فيها من نحب.”
في كلام زهرة شيء من المكر، وكأنها تُخفي نية في إشعال المواجهة.
فهم بلال المعنى الضمني، ولم يعلّق، بل اكتفى بأخذ صديقته فرح، وجلسا على الأريكة.
وبعد أن اكتمل الحضور، لوّح جاد للنادل قائلاً:
“من فضلك، أحضر لنا أفضل الأطباق… وأفضل أنواع الشراب.”
كان جاد زبونًا دائمًا في هذا النادي الفاخر، لذلك لم يسأله النادل شيئًا، بل أومأ باحترام وقال:
“أمرٌ سيدي.”
سرعان ما وصلت الأطباق والمشروبات، وتزينت الطاولة بألوان الفواكه والخضروات الراقية.
قال جاد بأدب وهو يبتسم:
“تفضلوا، لا تترددوا.”
ورغم أنه التقى بالجميع للمرة الأولى، إلا أن مكانته فرضت عليه أن يكون مركز الجلسة، الزعيم غير المعلن لتلك الأمسية.
بدأ الجو يأخذ طابعًا أكثر دفئًا، وشيئًا من المرح.
لاحظ جاد أن رائد جالس في الزاوية بهدوء لا يتكلم، فقال بلطف:
“هل ترغب بكأس من الشراب؟ تفضل.”
لكن بلال قاطع الحديث على الفور قائلًا باستهزاء:
“لا تُعطه من الشراب الجيد! هذا إهدار له. هذا الرجل لا يستحق، إنه أحمق…!”
تفاجأ جاد قليلًا وسأل:
“حقًا؟ أبهذا السوء؟”
ضحك بلال وقال بإصرار:
“نعم، هو أحمق مدينة الشيخ. كان يجمع القمامة، وينظف حذاءه بفرشاة الأسنان، ويأكل أوراق الشجر من الشارع. إنه قصة لا تنتهي.”
شهقت فرح صديقة بلال، وقالت بدهشة ساخرة:
“يا إلهي! هل يمكن لمثل هؤلاء أن يعيشوا في هذا العالم؟”
أضافت زهرة بابتسامة واسعة:
“صهري لم يكن عاديًّا حقًا… كان يستحم في نافورة الحيّ. كان مذهلًا بكل المقاييس.”
اڼفجر الجميع ضاحكين، وصار رائد، في أعينهم، أقرب إلى نكتة متحركة.
أما جنى، فشعرت وكأن قلوبهم جميعًا تنقض عليها.
كأنها تُجلد علنًا دون أن ترتكب خطأً.
کرهت تلك السخرية الجماعية، کرهت نظرات الشفقة المزيّفة، وضحكاتهم الخالية من الرحمة.
كان رائد، رغم كل شيء، زوجها. فهل يحق لأحدٍ أن يُهينه بهذا الشكل؟
ألم يكن هناك أحدٌ يُراعي مشاعرها؟
كانت تشعر أنها وحيدة وسط هذا الحشد…
الأختان اللتان نشأت معهما، لم تعودا كما كانتا.
جين تزوجت من رجل مرموق، وأصبحت تنظر للناس من علوّ.
وزهرة، التي جاءت اليوم بصديق مثل جاد، باتت تظن نفسها في طبقةٍ أعلى من البشر.
كل شيء تغيّر…
ولم تكن جنى تعرف حتى كيف تعبّر عن ذلك الألم الذي يجتاح قلبها.
بعد أن سمع جاد ما رواه الحضور عن رائد، لم يستطع أن يُخفي شعورًا بالازدراء تسلل إلى أعماقه، رغم أنه أبقى ملامحه هادئة. نظر إليه بنظرة باهتة لا تخلو من الشفقة المغلّفة بالاحتقار، ثم قال بنبرةٍ ماكرة:
“أعرف عددًا من الأطباء النفسيين المرموقين، هل ترغبين أن أبحث عن أحدهم ليتولّى أمره؟”
ابتسم بلال بسخرية وقال باستخفاف:
“لا فائدة من ذلك! عائلتنا جرّبت كل الطرق… أطباء، مستشارين… لا شيء يُجدي نفعًا. المكان الوحيد الذي يناسبه هو مستشفى الأمراض العقلية.”
ثم الټفت فجأة إلى جنى، وهو ما يزال يحتفظ بنبرةٍ مزعجة:
“أليس كذلك، جنى؟”
حدّقت جنى في وجهه بنظرة حادة، ثم قالت باستياء:
“كفى، لا تتحدث عنه بهذه الطريقة!”
كان واضحًا أن جنى غير راضية عن الطريقة التي يتحدثون بها عن زوجها، لكن أحدًا لم يبالِ بمشاعرها.
شعر جاد أن الوقت قد حان لكسر هذا التوتر، فتدخل لتغيير مجرى الحديث، وفتح موضوعًا جديدًا عن أحد أفراد عائلة تيمور.
تبدّد التوتر قليلًا، وعادت أجواء المجلس إلى نوع من الدفء السطحي. بدأ الجميع يتحدثون ويتبادلون النكات والضحكات، لكن جنى وجين بقيتا صامتتين. كان حضورهما باهتًا مقارنةً بتألق زهرة.
أما بلال وزهرة، فقد تحوّلا إلى ثنائي استعراضي. ضحكا وتبادلا النكات وأظهرا تناغمًا كبيرًا جعلهما محور الجلسة.
في خضم الحفل، وبعد أن احتست زهرة القليل من الشراب، ارتفعت حماستها، واستغلّت اللحظة لټخطف الأضواء مجددًا، فقالت بصوت مرتفع:
“جاد! ألم تخبرني بأنك أعددت لي هدية خاصة؟ أما آن الأوان أن تُخرجها لنُلقي نظرة عليها؟”
كانت نبرتها مدروسة، وارتفاع صوتها متعمّد. كانت تعلم يقينًا أن هدية من جاد لا يمكن أن تكون شيئًا عاديًا. أرادت أن تستعرضها أمام الجميع، خاصة أمام جنى وجين.
لم يكن هدفها من هذا اللقاء إلا إظهار مكانتها الجديدة… ومكانة صديقها.
ابتسم جاد وقال ببساطة:
“لحظة واحدة فقط.”
ثم أشار إلى سائقه وطلب منه أن يُحضر الهدية.
وبعد دقائق، عاد السائق وهو يحمل صندوق هدايا فاخرًا وطويلًا، من النوع الذي تُغلّف فيه الأشياء النادرة والثمينة.
تعلّقت الأبصار بالصندوق، وكل الحاضرين يملؤهم الفضول والترقب.
فتحت زهرة الغطاء ببطء، وإذا داخل الصندوق لوحة فنية مدهشة، مرسومة بريشة عبقرية.
قال جاد وهو يبتسم:
“علمتُ أنّك من المعجبين بأعمال الأستاذ مروان… هذه لوحة النمر خارج القفص التي كانت محفوظة في مجموعتنا الخاصة منذ سنوات. واليوم… أودّ إهداءها إليكِ.”
وما إن كُشفت الصورة حتى شهقت زهرة، وبدت على وجهها ملامح الذهول.
كانت زهرة رسّامة بارعة معروفة في مدينة الشيخ، والرسم شغفها الأكبر. ومروان… مروان بالنسبة لها كان أسطورة حيّة. فنان نادر، لوحاته تُعدّ كنوزًا لا تقدّر بثمن، ولا تُباع إلا في المزادات العالمية.
لم تتوقع قط أن تمسك بيديها تحفة أصلية من أعماله. فجأة، اغرورقت عيناها بالدموع، وارتجفت يداها وهي تلامس الإطار.
ساد الصمت القاعة. حتى أولئك الذين لم يكونوا على دراية بمكانة اللوحة، أحسّوا بأنها شيءٌ استثنائي، وبدؤوا يهمسون بإعجاب.
أما رائد، الجالس بهدوء في الزاوية منذ بداية الحفل، فقد بدت عليه ملامح غريبة. نظر إلى اللوحة بتمعّن، ثم رمش بعينيه كمن يرى جزءًا من ماضيه.
لقد كانت تلك لوحته. هو من رسمها.
وفي الزاوية السفلية اليمنى… كان هناك توقيع صغير.
“مروان”… الاسم المستعار الذي يستخدمه رائد في أعماله الفنية.
قلم سلمى
رواية أحببته رغم جنونه الفصل التاسع عشر