الفصل 20
بالنسبة إلى رائد، كانت عشرون ألف لا تعدو كونها مجرد فلس زهيد، فكان يستطيع دفعها بلا تردد.
قال ذلك ببساطة وهدوء، غير أن الحاضرين انفجروا بالضحك، ظنًّا منهم أن هذا “الأحمق” يواصل تمثيل دور الأضحوكة كعادته.
لكن النادل، الذي لم يكن يعلم بسمعة رائد، اقترب منه بأدب قائلاً: “سيدي، من فضلك مرّر البطاقة”.
بدأ رائد حينها يبحث عن بطاقته البنكية، وبينما ينقّب في جيوبه، داهمه شعور بالحرج، إذ تذكّر أنه غيّر بدلته قبل الخروج، وترك بطاقته السوداء في جيب البذلة الأخرى. لقد خانته اللحظة الحاسمة.
ضحكت زهرة بسخرية، وقالت بسخرية: “يا صهري، هيا أخرج بطاقتك! أتمنى أن أراك تمرّرها، لا بد أن المشهد سيكون رائعًا!”
أما الآخرون، فراحوا ينظرون إليه بتعابير متباينة بين التشفّي والدهشة.
قال رائد بصوت خافت يملؤه العجز: “أنا أيضًا… نسيت أن أحضر بطاقتي.”
ضحكت جين باستهزاء، وقالت: “أوه، وهل تملك بطاقة من الأصل؟ بل هل يوجد بها حتى خمسون دولار؟”
أما بلال فزفر بامتعاض وقال بنبرة ازدراء: “يا أحمق، هل تدرك معنى عشرون ألف دولار؟ لن تربح هذا المبلغ ولو عملت لآخر عمرك!”.
واستطردت فرح باشمئزاز: “لا أطيق البقاء معه ليلة واحدة! لو أمضيتُ يومًا كاملاً بجواره، لانفجرت يأسًا. لا أفهم كيف تحمّلته جنى ثلاث سنوات!”
كانت كلماتهم كالإبر في صدر جنى، تمزّق قلبها وتثقل كاهلها. وفي قمة الإحراج، برز رائد كمحاولة أخيرة للإنقاذ، محاولًا دفع الفاتورة، مما جعل جنى تصدّق للحظة كلماته، إذ كانت تشتاق لرؤية زوجها في صورة البطل الحامي.
لكن الحياة لا ترحم، وكان رائد في كل مرة يثبت أنه لا يجيد سوى إثارة السخرية والمشاكل.
خيبة أملها كانت عميقة، كادت أن تبكي. فصرخت في وجهه بغضب مكتوم: “إذا أفسدت الأمر مرة أخرى، سأرسلك إلى مستشفى الأمراض العقلية!”. كانت في ذروة الغضب.
حتى رائد شعر بالحرج وعدم الارتياح. نظر النادل حوله بحيرة وقال: “من سيتكفّل بالدفع؟”
نهض جاد قائلاً بحزم: “سأدفع ثمنها!”، فقد فاض به الكيل.
هذه المرة، لم تمانع زهرة. فهي تعلم أن احتجاز جنى بسبب عدم قدرتها على الدفع سيجلب العار لعائلة تيمور، كما أنها كانت تخشى من أن يُقدم رائد على تصرّف متهور في غرفته لاحقًا.
مرّر جاد البطاقة، فقالت له جنى بصوت خافت: “شكرًا لك. سأجد طريقة لسداد هذا الدين.” رغم فقرها، لم تكن ترغب في أن تدين لأحد.
ابتسم جاد وقال: “لا داعي لذلك. هذا مبلغ زهيد بالنسبة لي.”
لكن بلال تدخّل قائلاً بسخرية: “بل يجب أن تسدّده. لا أحد يحصل على المال بسهولة، خاصة أنتِ.”
لم يصرّ جاد، بل قال لها بنبرة صادقة: “أعتقد أن حالك أفضل من هذا. لمَ لا تفكرين في الطلاق؟ لدي أصدقاء محترمون، يمكن لأحدهم أن يمنحك حياة تستحقينها.”
كان يرى أن امرأة جميلة مثلها لا تستحق أن تُهدر حياتها مع “أحمق”.
ضحك بلال مجددًا: “هي تراه كنزًا والجميع يراه أحمق! حتى جدتها أجبرتها على الطلاق، لكنها ما زالت ترفض!”
في العادة، كانت جنى تردّ عليه، لكن هذه المرة، غلبها الصمت، وعجزت عن مجادلته.
انتهى الحفل وسط سكون ثقيل…
أوصلت جنى رائد إلى المنزل دون أن تنبس بكلمة. لم تلمه، لكنها لم ترغب في الحديث.
في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا، وصلا إلى البيت.
ما إن سمعت غادة صوت الباب، حتى خرجت من غرفتها، بعد أن أنهت لعب الورق، وقالت: “جنى، لا أملك مالًا لشراء طعام الغد، أعطيني بعض المال!”
أحدهم يورّطها، والآخر يطلب المال. كلاهما يثقل كاهلها تحت سقف بيتها.
أخرجت بطاقة مصرفية وقالت لأمها: “فيها عشر آلاف دولار. خذيها، ولن أملك شيئًا بعدها. لا تطلبي مني شيئًا مجددًا.” ثم انسحبت إلى غرفتها.
لم تمر دقائق حتى انطلقت من أعماقها صرخة حزينة، وكأن قلبها لم يعد يحتمل وطأة الكتمان. انهارت دموعها بغزارة، كالسيل الجارف الذي انفلت من سدٍّ متهالك.
غادة صُدمت، فهي تعلم أن جنى نادرًا ما تذرف الدموع. رغم ما واجهته من شائعات وإهانات، ورغم ثقل الأعباء التي حملتها وحدها، ظلت دومًا صامدة، صلبة كالصخر. أما هذه الليلة، فقد نجح رائد – بلا شك – في أن يكسر ذلك الصمت المنيع.
استشاطت غادة غضبًا، وأمسكت بمنفضة الريش، ثم انهالت على رائد ضربًا وهي تصرخ:
“أيها الأحمق! أنت من أحزن جنى، أليس كذلك؟ سأضربك حتى الموت!”
Pingback: رواية أحببته رغم جنونه الفصل التاسع عشر – dreamses