الفصل 40
مئة مليون دولار!
دوّى صوت رائد في أرجاء دار المزاد، وتردد صداه بين الجدران كالزلزال، ليصيب الحضور بذهول تام. وفي لحظة، خيّم الصمت على القاعة الكبيرة، وتوقفت الأنفاس. ارتفعت أنظار لا تُعد نحو الصندوق رقم واحد، والدهشة تملأ الوجوه. من هو صاحب هذا العرض الجريء؟
حتى جنى لم تُخفِ صدمتها. ارتجف قلبها وهي تراقب الموقف. سارعت بإغلاق ميكروفونه وقالت بقلق بالغ:
ــ “هل جننت؟! ماذا تريد؟”
أجابها رائد بنبرة حازمة وواثقة:
ــ “ألم أقل لكِ إنني سأعطيك هذه القلادة؟”
ردّت جنى وقد علت نبرة صوتها بذعر:
ـماذا؟ لا أريدها! هل تدرك ما تعنيه مئة مليون دولار؟! هل تملك هذا المبلغ أصلًا؟ هل تعرف ما سيحدث إن لم تستطع دفعه؟ لماذا عرضت هذا السعر؟!
كانت كلماتها تتلاحق، ويزداد اضطرابها مع كل جملة. عيناها لمعتا بقلق حقيقي، وصوتها ارتجف كما لو كانت ستبكي. كانت في حالة من الذعر الشديد.
تفاجأ رائد بردّ فعلها. لم يكن هذا ما توقّعه حين قرر إحضارها إلى المزاد. أراد أن يكشف لها عن جانب من عالمه الحقيقي، شيئًا فشيئًا، حتى تتمكن من تقبّله على حقيقته. لكنه أساء تقدير صدمتها، فقد ظن أن مئة مليون لن تكون صدمة بهذه الحدة.
حاول أن يهدئها، وقال بهدوء:
ــ “لا تقلقي، قلب الملاك الحارس وحده يساوي أكثر من مئة مليون. من المؤكد أن هناك من سيعرض أكثر.”
وكأنه استدعى العرض التالي بكلماته، إذ ارتفع صوت سِنان القيسي من مقصورته يقول:
ــ “مئة وعشرة ملايين!”
كان سِنان القيسي أحد أعضاء الجمعية المخضرمين، ذا نظرة حادة وخبرة واسعة. لم يكن ينقصه المال، بل كانت رغبته في اقتناء القلادة شديدة، بل ربما شخصية.
شعرت جنى ببعض الارتياح حين سمعت أحدهم يرفع السعر، لكنها لم تهدأ كليًا. أرسلت تحذيرًا مباشرًا لرائد:
ــ “لا تعرض شيئًا بعد الآن، وإلا سأغضب جدًا.”
فهم رائد نبرتها، ورأى الجدية في عينيها، فاختار ألا يخالفها ووافق على الفور.
وما إن رفع سِنان القيسي السعر، حتى انفجرت القاعة بالحماس.
ــ “مئة وعشرون مليونًا!”
جاء الصوت هذه المرة من الصندوق رقم ستة، كمواجهة مباشرة لسِنان القيسي.
ــ “مئة وثلاثون!”
أجاب سِنان القيسي دون تردد.
ــ “مئة وأربعون!”
تابع الصندوق السادس في التصعيد.
سِنان القيسي لم يكن يخشى الخسارة. بعد سنوات طويلة من العمل وتكوين الثروة، لم يكن المال عنده إلا وسيلة للمتعة. القلادة أعجبته بصدق، وقد قرر أن تكون هدية لزوجته، وكان عازمًا على الفوز بها.
ــ “مئة وخمسون مليونًا.”
قالها وهو يعبس، يدرك أن المعركة لم تنتهِ بعد. ازداد الحماس في القاعة، وصار كل من فيها متيقظًا.
ثم فجأة…
“مئتا مليون!”
لم يكن الصوت من صندوق أو جناح خاص، بل من رجل ملثم، يجلس على مقعد عادي بين الحضور. لكن عرضه كان كالصاعقة، مزّق الصمت وأعاد الأنظار كلها إليه.
في دار المزادات، لا تخلو الأجواء من المنافسة الخفية، بل أحيانًا من التلاعب والمراوغات التي تُحاك في الظل. لهذا، كان من المعتاد أن يرتدي كثير من الحاضرين أقنعة تُخفي هويتهم، وهو أمر مقبول ضمن القواعد المتبعة. كما أن بعض الحاضرين لم يكونوا مشترين حقيقيين، بل موظفين تابعين لدار المزادات، مهمّتهم رفع الأسعار في اللحظة المناسبة لضمان عدم بيع القطع بأقل من قيمتها، وكان يُطلق على هؤلاء اسم “كابر”
لكن الرجل المقنّع الذي فجّر القاعة بعرضه المذهل البالغ مئتي مليون دولار، لم يكن أحد هؤلاء. صحيح أنه كان من داخل دار المزادات، لكنه لم يكن هناك لرفع السعر، بل كان موجودًا من أجل القلادة بعينها. لقد ظهر فقط بعد أن عرض رائد السعر الأول.
عندما سمع المدير العام لمنتجع ماونتن اسم رائد يتردد في القاعة، فهم على الفور أن رائد مهتم بالحصول على “قلب الملاك الحارس”. وحين يُبدي رائد اهتمامًا بشيءٍ ما، فهذا يعني شيئًا واحدًا: يجب أن يُمنح له، مهما كلف الأمر.
كان منتجع ماونتن مؤسسة ضخمة، لها فروع في كل أنحاء البلاد، ولكل فرع مدير عام مسؤول. وقد تلقى هؤلاء تعليمات صارمة: إن ظهر أي شخص عبر الممر الخاص المزوّد بتقنية التعرف على الوجه، فعليهم أن يعاملوه كضيف ملكي، وأن يلبّوا كل احتياجاته دون تأخير أو تردد.
واليوم، في فرع الزهور، حدث ما لم يحدث من قبل. فقد دخل رائد عبر هذا الممر الخاص، الأمر الذي دوّى كالرعد في أوساط مجموعة منتجعات ماونتن بأكملها. بدا المنتجع ظاهريًا هادئًا كعادته، لكنه في الحقيقة كان في حالة طوارئ قصوى. الموظفون جميعًا في حالة استنفار، والمدير العام في قلق لا يُحتمل. المدير التنفيذي للمجموعة في طريقه إلى الزهور، وأي خطأ سيُحمّل عليه وحده. لذلك، لم يكن أمام المدير العام سوى أن يُركّز كل جهده على رجل واحد فقط: رائد.
مهما أراد، ومهما طلب، يجب أن يحصل عليه.
عادت القاعة إلى الحياة بعد لحظات الذهول. الرجل المقنّع، الجالس بين المقاعد العادية، عرض 200 مليون، وهو مبلغ لم يتوقعه أحد. انفجرت القاعة بالدهشة والتساؤلات، وانتشرت الهمسات كالنار:
ــ “ما هذا؟ شخص من المقاعد العادية يعرض 200 مليون؟”
ــ “هل هو مغامر؟ مستحيل أن يكون من العامة!”
ــ “ربما لا، ربما هو مبعوث من شخصية نافذة لا تريد الظهور بنفسها.”
ــ “أو ربما هو نفسه تلك الشخصية، تنكّر ليُخفي هويته!”
تعالت التعليقات، وتضاربت التخمينات، واحتدّت النظرات نحو الرجل المجهول. حتى نزلاء الصناديق الفاخرة صمتوا على غير عادتهم، وقد أسكتهم وقع المفاجأة.
أما سِنان القيسي، في الصندوق رقم 8، فاشتعل غيظًا. كان بالكاد أنهى طعامه، ولم تكد مشاعر الحسد والعداء تجاه رائد تهدأ، حتى اشتعلت من جديد. كان عرض المئتي مليون كصفعةٍ جديدة أشعلت نيران غضبه.
كان حزينًا… لم يتوقع قط أن يواجه وغدًا جديدًا داخل المزاد.
ــ “مئتا مليون للمرة الأولى.”
رددها المُزاد، وقد أرهف سمعه باحثًا عن صوت جديد، لكن أحدًا لم يزايد.
ــ “مئتا مليون للمرة الثانية…”
ساد صمت ثقيل، وانحبست الأنفاس، حتى قطعها صوت معتاد، لكنه بدا مترددًا هذه المرة.
ــ “مئتان وعشرة ملايين.”
كان سِنان القيسي هو من نطق بها أخيرًا، وبعد تردد واضح. نعم، لقد شعر بثقل الرقم، فمئتا مليون دولار ليست مبلغًا صغيرًا، حتى بالنسبة لرجل مثله. لكن شخصيته لا تقبل التراجع بسهولة، والانسحاب من ساحة كهذه، مهما كانت دوافع الطرف الآخر.
ــ “ثلاثمائة مليون.”
انطلق الصوت مجددًا، صادرًا من الرجل المقنّع، بنبرة حاسمة لا تردد فيها.
الدهشة خيّمت على القاعة، وكأن الرقم قد صفع الحضور جميعًا. أما المدير العام لمنتجع ماونتن، فقد أصدر أوامره الواضحة: يجب ألا تقع القلادة في يد أي طرف خارجي.
ولذلك، لم يكن هذا العرض محاولةً للمزايدة، بل إعلانًا بالسيطرة.
ثلاثمائة مليون دولار مقابل قلادة؟ لقد تزلزلت المدينة قبل أن تنتهي المزايدة.
الوجوه الحاضرة في القاعة لم تكن لناس عاديين، بل من النخبة، من أصحاب النفوذ والثروة، ورغم ذلك، بدا الرقم خارج حدود فهمهم. كانوا يعرفون أن القلادة ثمينة، لكن هذا المبلغ؟ تجاوز كل توقّع.
في تلك اللحظة، زال الشك من القلوب:
هذا الرجل المقنّع ليس “كابرًا”، وليس محتالًا، وليس هاويًا.
رجل كهذا لا يُزايد ليُشعل السوق، بل ليفوز. لو كان مُهرّبًا، لما عرض مبلغًا كهذا يوقف كل المزايدين. كان واضحًا أنه لا يريد منافسة، بل امتلاكًا.
حتى سِنان القيسي، بكل خبرته وتاريخه، تراجع أخيرًا. لم يكن الأمر يتعلق بالقدرة على دفع المال، بل بشخص يعتبر ان المال لا شيء، رجل يمتلك نفوذ لا مثيل له.
ثلاثمائة مليون؟ رقم لا يُبرَّر.
لذلك، ابتعد بصمت، لا خوفًا، بل قناعة أن المعركة هذه المرة لا تخصه.
وهكذا، بيعت قلادة “قلب الملاك الحارس” في مزادٍ علني، مقابل 300 مليون دولار.
لكن من هو الفائز الحقيقي؟
من هو الرجل المقنّع؟
أو، على وجه الدقة، من يقف خلفه؟
أسئلة كثيرة طفت على السطح، وتكهنات أكثر اشتعلت في أروقة المدينة.
حتى جنى، التي لم تكن تتوقع مثل هذا الجنون، لم تستطع إخفاء دهشتها، فتمتمت بشوق:
ــ “يا إلهي… ثلاثمائة مليون دولار! لا يُصدَّق! من هي المحظوظة التي سترتدي هذه القلادة؟ من تلك التي ستحمل 300 مليون دولار على عنقها؟”
كان صوتها مزيجًا من الدهشة والحنين، وكأنها تتحدث عن كائن سماوي، عن إلهة ترتدي تاج السماء.
لكن الحقيقة كانت غير ذلك.
رائد وحده كان يعلم…
هي، هذه الإلهة التي تتحدث عنها، هي نفسها جنى.
لقد أدرك رائد تمامًا أن من طرح القلادة في المزاد كان من داخل دار المزادات نفسها.
وهذا يعني أن “قلب الملاك الحارس” سيصل إليه لا محالة.
وهو لم يكن يبتغي شيئًا أكثر من أن يرى جنى تنظر إلى تلك القلادة بهذا الإعجاب الساحر.
في تلك اللحظة، لم يعد لديه شك:
هذه القلادة… يجب أن تكون هديته لها.
انتهى المزاد، وبدأت الجموع تتفرق. غادر بعض الزوّار منتجع ماونتن عائدين إلى منازلهم، فيما فضّل آخرون البقاء لليلة إضافية في رحاب هذا المكان الفخم. كان المنتجع واسعًا ومهيبًا، يضم مبنى إقامة فاخرًا يحمل اسم “مبنى ماونتن”، صُمّم بعناية ليوفّر للضيوف تجربة استثنائية في الضيافة.
امتزجت في تصميم المبنى روعة العمارة الحديثة الغربية بلمسات من الفخامة الصينية التقليدية، فجاء تحفةً معمارية تجمع بين الكلاسيكية والجمال، وبين الحداثة والهيبة. بدا المبنى وكأنه هرم شامخ؛ حيث تتناقص المساحة وعدد الغرف كلما ارتفعنا إلى الأعلى، حتى نصل إلى الطابق الحادي والعشرين، الذي يضم غرفة واحدة فقط تُدعى “غرفة السماء”.
يتألف المبنى من 21 طابقًا، ويُخصص توزيع النزلاء فيه حسب فئة بطاقاتهم الخاصة بكبار الشخصيات؛ فالطوابق من الأول حتى الخامس مخصّصة لحاملي البطاقة الفضية، والسادس حتى العاشر للذهبية، والحادي عشر حتى الخامس عشر للبلاتينية، والسادس عشر حتى العشرين للبطاقة الماسية. أما الطابق الحادي والعشرون، فقد ظلّ حتى اليوم لغزًا لا يُمس، وغرفة “السماء” فيه لم تطأها قدمٌ بشرية منذ افتتاح المنتجع، كما لو كانت معزولة عن الزمن، محفوظة لشخصية استثنائية لم تظهر بعد.
خرج رائد من قاعة المزاد برفقة جنى، ثم قال بابتسامة:
“هيا، دعينا نقيم الليلة في مبنى ماونتن.”
أجابته جنى بسرعة وتردد:
“لا داعي لذلك، الإقامة هنا باهظة الثمن. لا تُنفق المال بلا فائدة.”
كانت تعلم أن رائد ميسور الحال، لكنها لم تكن تحب الإسراف، خصوصًا حين يكون على حساب لحظة عابرة.
ابتسم رائد مجددًا وقال:
“لا تقلقي، إنها إقامة مجانية مقدّمة للفائزين المحظوظين في المزاد.”
تألّقت عينا جنى بدهشة وفرح:
“حقًا؟”
أومأ برأسه مؤكدًا، ثم مضيا معًا.
في تلك اللحظة، حدث ما لم يكن في الحسبان…
أضاءت غرفة السماء.
الغرفة ذات الجدران الزجاجية الشفافة من كل الجهات، بدت من بعيد كأنها لؤلؤة ليلية ضخمة معلّقة في أعلى المبنى، تنثر ضوءها المتوهّج فوق المنتجع بأسره. كانت هذه أول مرة تضيء فيها الغرفة منذ افتتاح المنتجع، ما يعني أن أحدهم دخلها أخيرًا.
الضوء المنبعث من الأعلى بدا كأنه إشعار سماوي بحدث عظيم. خيّم الذهول على المكان، وسرعان ما هرع النزلاء من كل الطوابق، متوجهين نحو المبنى لمشاهدة المشهد المهيب.
في أحد المقاهي المطلة على المبنى، جلست فتاة في السابعة عشرة من عمرها تمصّ مصاصة حلوى، وحدّقت في الحشد المتجمهر وهي تقول بدهشة:
“جدي، ما الأمر؟ لماذا كل هذا الحماس؟”
كان أمامها رجل عجوز ذو شعر أبيض، تبدو على وجهه آثار الحكمة والتجربة. كان من النوع الذي شهد فصولًا من التحولات الكبرى، لكن عينيه في تلك اللحظة كانت تتلألأ بالحماسة، كما لو أن قلبه عاد شابًا من جديد.
تنهد بعمق وقال:
“منذ تأسيس جميع فروع منتجع ماونتن، لم يسكن أحد غرفة السماء. والليلة… أُضيئت للمرة الأولى. هذا ليس حدثًا عاديًا، يا حبيبتي. من يسكن هناك ليس شخصًا عاديًا. التنين استيقظ… وربما التنين الحقيقي سيظهر الليلة. راقبي جيدًا، من سيدخل تلك الغرفة؟ لا بد أنه شخص ستجثو عائلتنا احترامًا له.”
وفي الخارج، كانت العيون شاخصة نحو أعلى نقطة في المبنى، تتساءل: من ذا الذي نال شرف الإقامة في غرفة لا يسكنها إلا المميزون حقًا؟
بينما تعالت التكهّنات، كان رائد وجنى يبتعدان بصمت، يستقلّان تلفريكًا زجاجيًا فخمًا يشق طريقه صعودًا نحو السماء… نحو تلك الغرفة التي كانت حتى هذه اللحظة أسطورة.