انس:
مِتخافيش، أنا هنا مش هسيبك.
بعد مرور شهر:
وقفت في أوضتي، بودع كل ركن، بودع طفولتي، مراهقتي، شبابي وجراحي لما كبرت!
إيلين جاهزة؟
سألني انس وهو واقف على باب الأوضة.
أخدت نفس عميق ورديت بابتسامة مصطنعة:
جاهزة.
دخل، أخذ… اللي كلهم كانوا بيعيطوا ماعدا أنا! ولأني بكره لحظات الوداع، جريت على تحت، جريت قبل ما دموعي تظهر وقبل ما أرجع عن قراري في السفر.
نزلت، ركبت العربية جنب انس، واتحركنا ناحية المطار.
طول الطريق كنت ساكتة، ببص للطريق بشرود. عيوني بتلمع بالدموع لكن رافضة أعيط، رافضة فكرة الانهيار.
فطرتي؟
لا.
طب تفطري إيه؟
هزيت اكتافي بلا مبالاة:
مش جعانة.
لازم تفطري، لسه الطريق طويل.
صدقني يا انس، مش جعانة.
اتنهد تنهيدة طويلة، بعدها قال:
عموماً في أكل وحلاويات كتير ورا في الكنبة، أهم حاجة لو حبيتي تاكلي.
ابتسمت ابتسامة باهتة:
شكراً.
هو في واحدة تقول لأخوها “شكراً”؟
ابتسمت ومردتش، بعدها رجعت بصيت على الطريق وأنا بفتكر اللي حصل من بعد اليوم ده.
وقتها وقعت بين إيدين انس، كنت فاكرة إنها النهاية، لكن لاقيتني فوق، الكل كان موجود جنبي: انس، إخواتي، ماما، مرات عمي، أصحابي.
لكن أنا كنت بدور من بين كل الوشوش عليه… علي عمر.
لحظة إدراك أنه مش موجود، لحظة إدراك أن اللي حصل حقيقي، لحظة إدراك أنه مشي وسبني… كانت أكتر لحظة صعبة مرت عليا.
فات وقت كبير بحاول استوعب الصدمة.
في الحقيقة، وجود عيلتي وأنس كان أكبر داعم ليا.
انس بالذات كان أكتر شخص بيدعمني، بيطبطب عليا، بيخرجني، مخصصلي كل وقته وسايب كل حاجة ممكن تشغله عني.
لحظة الأهم من كل ده، محاولش يلومني لأني تمسكت بعمر.
عمر اللي هرب… هرب لأنه خاف من الجواز والمسؤولية، وخاف من مشاعره اللي ممكن تتغير من ناحيتي.
عايز يفضل شاب طايش طول حياته، بيسهر، بيكلم مليون بنت، بيخرج، بيشرب سجاير، بيهزر، بيلعب… كان لسه عايز يعيش دور مش دوره، وحياة من بتاعته، وسن مش سنه.
إيلين…
فوقت من شرودي على صوت انس بيناديني:
نعم؟
انت كويسة؟
آه، متقلقش عليا.
طب يالا استعدي، قربنا نوصل المطار.
أخدت نفس عميق، مسحت دمعة شارده نزلت من عيوني وبصيت قدامي بتحدي.
قررت من اللحظة دي أرمي حياتي القديمة ورا ظهري.
طويت صفحة مليانة طيش، عناد، تشتت، حيرة وخوف، وفتحت صفحة جديدة كلها أمل، تحدي، نجاح، ومشاعر مختلفة.
بعد مرور أسبوع:
بجد يا انس، بجد لاقيتلي شغل؟
بص في ساعته وهو بيقول بسخرية:
لا، جاي أخبط عليكي الساعة تلاتة الفجر علشان أهزر!
ما هو لو حضرتك بتردي على الفون، مكنتش جيت من بيتي لحد بيتك… هتجلطيني!
رديت بأحراج:
آه… أحم… معلش، سوري، الفون فصل ونمت، محطتهوش على الشاحن.
اتنهد وقال باستلام:
حضري نفسك بكرة الساعة ٨ الصبح، هاجي أخدك علشان نروح.
رديت ببلاهة:
هنروح فين؟
الملاهي، هنروح نلعب أنا وانتي، إيه رأيك؟
مطيت شفايفي لقدام ورديت بضيق:
انت قفوش ليه؟
مسكني من طرف التيشيرت بتاعي وهو بيجز فوق أسنانه:
ادخلي، اتخمدي يا أخرة صبري. بكرة الساعة ٨ تبقي قدام البيت ٨ بالدقيقة، هسيبك وامشي! انس، حد قالك قبل كده؟ طز.
حط أيده على بوقه وهو بيتاوب بتعب ونعاس:
لا.
شيلت أيده من فوق التيشيرت وانا بقوله قبل ما أقفل الباب في وشه:
طب طز فيك يا حبيبي.
طز!
بتقوليلي طز يا بنت عفاف، طب وحياة أمك عفاف… ما هسيبك.
ضحكت على رد فعله، بعدها دخلت، روحت أوضتي وكملت نوم وأنا في قمة سعادتي.
تاني يوم الصبح صحيت بنشاط، فطرت، لبست طقم كلاسيك، حطيت ميك أب هادي، لبست هيلز وخرجت.
كان انس واقف، ساند ظهره على العربية بيشرب قهوة.
أول ما شافني بص في الساعة وهو بيقول بأعجاب:
لا برافو، الوقت مظبوط.
رديت بغرور مصطنع:
أومال حضرتك فاكر إيه؟
ابتسم وهو بيقيم شكلي:
شكلك لذيذ.
فعلاً… فعلاً.
رديت بمراوغة وانا بفتح باب العربية:
أقل حاجة عندي يا بني… ابنك إيه، انت شايفاني في ابتدائي قدامك؟
انس:
أفندم.
اركب العربية وعدي يومك.
عدي يومي؟ بت… انت أخدتي عليا أوي ملاحظة كده ولا مش ملاحظة؟
هزيت راسي ورديت بتلقائية:
أنا كده لما بحب حد باخد عليه!
ركب وقفل الباب وهو بيغمزلي بمشاكسة:
أفهم من كده إنك بتحبيني؟
طبعا… مش انت أخويا الكبير؟
ابتسم وهو بيحط النظارة فوق عيونه وبيتحرك بالعربية:
أكيد يا لولي.
انس:
امممم.
أخدت نفس عميق بعدها بصيتله وقلت له بأمتنان:
شكراً على كل حاجة.
ابتسم وهو بيطبطب عليا بحنيته المعتادة، وده اللي خلاني أسأله فجأة:
انس، ليه سافرت فجأة بعد الحوار اللي دار ما بينا عن عمر؟ ليه قررت تمشي فجأة زي ما ظهرت فجأة؟
بصلي وسكتمردش عليا، لكن كان جوا عيونه كلام متقال: غضب، غيظ، غيرة، حب.
رفعت حاجبي وانا مصرة أعرف الإجابة:
انس!
وقف وفك حزام الأمان وهو بيفتح باب العربية وقال بجمود:
يالا، وصلنا.
لف فتحلي الباب ومدلي أيده.
رفعت عيوني في عيونه، مديت له إيدي ونزلت من العربية.
دخلنا الشركة، طلعنا الانترفيو، السكرتيرة دخلتنا المكتب:
نستنى المدير.
بصيت حوليا بأنبهار وحماس:
واوووو، المكتب حلو أوي، ذوق صاحبك تحفة.
آه ما شاء الله.
ايه ده، هي دي صورته؟
قولتها وانا بمسك صورة كانت محطوطة على المكتب، فرد بهدوء:
أيوه.
رديت بخبث:
حلو.
رد عليا بغيظ:
هو ايه اللي حلو؟ ما تتظبطي!!
لفيت ورديت ببرود:
ايه يا انس، انا قولت ايه يعني؟ ما هو حلو فعلاً.
جز فوق أسنانه وهو بيمسح على وشه أكتر من مرة.
“اللهم طولك يارررروح، يارب صبرني”، قلتها في نفسي.
قرب مني فجأة واخد مني الصورة وهبدها فوق المكتب وهو بيزعق في وشي:
اترزعي مكانك واحترمي نفسك وإلا قسماً بالله ه…
وقبل ما يكمل كلامه، الباب خبط ودخل المدير اللي نطق بالروسي:
مرحبا.
بعد شويه خلص الانترفيو ومشينا.
خلاص بقي فك وشك ده.
اسكتي يا إيلين أحسنلك.
طب خلاص، أنا آسفة كنت بهزر والله.
لف وزعق فيا:
متهزريش في حاجة زي كده مرة تانية!
دهشني رد فعله، بصيتله وانا بسأل نفسي: “ياترى هو بيعمل كده ليه؟ معقوله يكون…”
ارجوكِ بطلي تسألي أسئلة غبية إجاباتها واضحة وضوح الشمس قصاد عيونك!
ايه ده، انت بتقرأ أفكاري؟
هز رأسه بيأس ومردش، لكن كمل طريقه.
انس:
نعم؟
أنا بقالي أسبوع بسألك سؤال ولحد دلوقتي مردتش عليا.
كل ما أسألك تتهرب، ارجوك جاوبني.
هتستفادي ايه؟
هزيت اكتافي ورديت بحيرة:
معرفش، بس انت اخدت قرار مش من حقك تاخده لوحدك!
اشمعني؟
ع علشان… ع علشان…
وقف العربية في ركن ولف بصلي وقال بهدوء:
علشان ايه يا إيلين، اتكلمي.
نزلت عيوني وفركت في صوابعي ورديت بتوتر:
علشان… علشان مش من حقك تعلقنا بيك وتحسسنا بالأمان في وجودك ونحس أن لينا سند وظهر، وفجأة زي ما ظهرت في حياتنا تختفي حتى من غير وداع ومن غير أسباب!
بس أنا وجودي كان عاملك أزمة ومحسسك أنك في سجن!
انا… انا… مكانش قصدي، كان قصدي إنك صعب تتناقش مع حد طالما اخدت قرار، يبقى لازم يتنفذ من غير أي اعتراض ومن غير أي نقاش، وانا مبحبش ده.
رد بهدوء وتفاهم:
اي قرار كنت باخده كان لمصلحتك أنت وأخواتك.
حتى قرار رفضي لعمر كان لمصلحتك.
أنا كنت عارف ومتأكد أنه هيمشي، عارف أنه مش قد المسؤولية، ومع ذلك معترضتش، خليتك تجربي.
ابتسمت بسخرية وانا ببص قدامي:
ياريتني ما جربت.
انسي اللي فات، خلينا في اللي جاي.
ركزي في نفسك ومستقبلك.
حافظي على صحتك وبشرتك ونقاء قلبك.
سيبي الأيام تمشي زي ما ربنا رايد.
أيوه، بس انت برضو مجاوبتش على سؤالي.
ليه مشيت بالرغم إنك كنت مقتنع؟
أنا مكنتش مقتنع، بس في نفس الوقت مكانش ليا الحق أمنعك. أنا مجرد وصي عليكي أنت وأخواتك، بحميكي بسندك بقف في ظهرك.
لكن زي ما قولتيلي، مش من حقي اخد قرار بالنيابة عنك.
الفون بتاعي رن، كانت ماما.
رديت عليها، وانس اتحرك بالعربية.
وصلت البيت، ودعته بعدها مشي.
دخلت أوضتي، غيرت هدومي، رفعت شعري بعشوائية، بعدها دخلت المطبخ.
عملت أكل ليا ولأنس.
بعد ما خلصت، لبست الأسدال وروحت له.
كان الباب في وش الباب اللي بيفصل ما بينا حديقة صغيرة مشتركة.
ايه ده، ايه اللي جابك هنا؟
رفعت ايدي الاتنين ورديت بحماس:
عملت أكل ليا وليك.
رد بأبتسامة:
تعبتي نفسك، كنت لسه هطلب أكل لينا احنا الاتنين.
تطلب وانا موجودة!
كان لازم اطلب وأنت موجودة.
هو أنا مجنون علشان اضحي بنفسي؟
جزيت فوق أسناني ورديت بغيظ:
تصدق؟
هتصدق إن شاء الله.
أنا أصلاً غلطانة إن أنا بعبر واحد زيك و…
إيلين، أنا بحبك.
ايه ده؟
ايه ده بقي، حد يخض حد كده ياجدعان ازاي حضرتك؟ دي النتيجة النهائية!!
ايه الاعتراف الغريب، دهمش في وقته ولا في مكانه.
يمكن ده كان أحسن حاجة، أصل أنا في الحقيقة شخصية بتحب المفاجأة، لكن المرة دي المفاجأة كانت مريبة شويه… لا، لا، مريبة كتير.
حسيت بدوار مفاجئ، الأكل وقع من إيدي ودماغي تقلت.
غمضت عيوني ووقعت بين إيديه، وهو بينادي بخوف:
إيلييين!
فتحت عيني فجأة.
قلبي بيدق بهدوء مش زي كل مرة. كنت بصحى على كابوس. الشمس كانت داخلة من الشباك، العصافير واقفة على شباك أوضتي مستياني أصحي أحطلهم أكل وماية زي كل يوم!
قعدت على طرف السرير ببص حواليا… لا في بيت عيلة، لا في خناقات، لا في أنس ابن عمي، ولا عمر ابن خالتي.
مفيش غير أوضتي العادية، صورتي على الحيطة، وريحة أكل ماما جاية من المطبخ.
افتكرت…
امبارح بليل صليت استخارة ونمت.
كنت قعدت مع عريسين الأسبوع ده: أنس وعمر.
اتكلمنا وضحكنا، عرفت شخصية كل واحد. كل واحد فيهم كان فيه حاجة بتشدني.
عمر: لذيذ، بياع كلام، نظراته تخلي أي بنت تحس قد ايه هي جميلة، طموح، فرفوش، وسيم، شيك ومثقف.
أما عن أنس: رزين، هادي، محترم، طموح، مثقف، لأبعد حد، متدين، وسيم، شيك، متربي عشرين مرة تقريباً!
وده اللي خلاني أحتار…
مكنتش عارفة أختار مين.
الاتنين فيهم حاجات كتير أنا عايزاها.
الفكرة إنّي مكنتش فاهمة نفسي…
أنا عايزة واحد زي عمر، كلامه حلو ويخلي شعوري بقيمتي زي أي بنت… ولا واحد زي أنس، محترم، متدين، غيور ورزين!
ولما روحت أوضتي ركعت على سجادتي، صليت استخارة.
طلبت من ربنا ينور بصيرتي، ينور طريقي، ويختار لي الأفضل.
واللي حصل بعدها كان الحلم.
كل اللي عشته: الضحك، الزعل، القرب، البعد، الغيرة، التشتت… كان مجرد حلم طويل، لكنه إجابة واضحة وضوح الشمس.
مسحت على وشي وبصيت في المرايا.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وانا بهمّس لنفسي:
جميل في الواقع… وجميل في الحلم.
قلبي اختارك يا أنس.
أتمنى أنت كمان قلبك يكون مختارني.
الباب خبط ودخلت ماما وهي بتقول:
صباح الفل.
صباح القمر يا ست الكل.
قربت مني وهي بتبتسم بخبث:
ايه سر الروقان ده على الصبح؟
إني لاقيت إجابة.
إجابة على ايه؟
على العرسان اللي اتقدمولي.
ردت بلهفة:
وحياة أبوكي، أنت موافقة على حد منهم؟
هزيت راسي بخجل:
آه.
مين سعيد الحظ؟
أنس.
اتنهدت براحة وهي بتحط إيديها على قلبها:
الحمد لله.
غمضت عيوني نص غمضة بتساؤل:
مالك؟
أصل الواد التاني ده مكانش نازلي من زور… أصلًا!
آه والله، يالا لما أروح أفرح أبوكي وأخليه يكلم أنس.
بليل كنت قاعدة في أوضتي بشتغل على اللابتوب بتاعي، اتهز الفون بتاعي بمسج على الواتساب. فتحتها، كانت من رقم مش متسجل عندي:
“أنا النهاردة في قمة سعادتي. يمكن أنت متعرفيش عني حاجة، لكن أنا أعرفك كويس، أو شايفك من زمان، مراقب كل تفاصيلك. لكن كنت خايف أقرب خطوة خوفًا من ربنا وخوفًا من تفكيرك فيا يكون غلط. لحسن الحظ، تفتكري أن أنا شاب طايش ومش كويس، علشان كده فضلت ادعي كتير. دعيت أقدر في أقرب وقت أكون نفسي واتقدملك، والحمد لله ربنا وقف معايا وحفظك ليا. دعيت بالخير فجتيلي أنت يا إيلين. حدثت الله عنك، أخبرته أن قلبي معقود بقلبك، وأنك أشد أشيائي حبًا. دعوته أن تبقي لي ومعي.”
تمت.
#اشد_اشيائي_حبا
إيمان شلبي