الحلقة الثانية
أثير قالت بخفوت وهي تنظر إلى خالتها: بدعيلها يا خالتي… ربنا يهدي أسيل.
تحية ردّت عليها بنبرة مليئة بالحنان: والله بدعيلكم من قلبي… ربنا يهدي أسيل وترجع عن الطريق اللي ماشية فيه.
لكن فجأة، تحية سكتت. قطعت حديثها في منتصفه، وبدت ملامحها متوترة، عينيها معلّقتان على الطفل الصغير الذي تحمله أثير.
أثير لمحت النظرة الغريبة، فسألت بقلق: مالك يا خالتي؟ بتبصي ليحيى كده ليه؟
تحية سألتها ببطء واستغراب: ابن مين العيل اللي شايلاه على كتفك؟
أثير ابتسمت باستغراب وقالت: ده يحيى… أخويا يا خالتي!
لكن تحية لم تكن تسمع جيدًا أو أنها كانت تائهة في عالمها، قالت بعتاب: ما كانش العشم يا أثير… يعني تتجوزي وتخلفي من غير ما تقوليلي؟
أثير ارتبكت وقالت بصوت متوتر: خالتي بالله عليكي ركزي معايا… أنا ما اتجوزتش خالص!
تحية صړخت فجأة وهي تصفع كفيها ببعض: يا لهوي! يعني يحيى ابن حرام؟ يا لهوي!
أثير وضعت يدها على رأسها وقالت بيأس: يا لهوي عليا أنا يا خالتي… كده هتجيبيلي مصېبة!
لكن تحية لم تهدأ، وظلت تصرخ: يا مصېبتي يا تحية!
أثير حاولت تهدئتها وقالت: يا مصېبتي يا أثير… إيه اللي جرالك فجأة يا خالتي؟! من شوية كنتي بتدعيلي أنا وأسيل!
تحية قالت بحدة: أنا كنت بدعي عليكم! ربنا يريحني منكم الاتنين!
أثير اقتربت منها وهمست برجاء: طب وطي صوتك شوية… هتفضحينا في المنطقة!
تحية ردّت بمرارة: ما خلاص… احنا اتفضحنا من زمان!
أثير نظرت إليها بحزن وقالت: لا يا خالتي، الحالة اللي إنتي فيها دلوقتي ما ينفعش نسكت عليها… لو كنتِ بتنسي مكان الحاجة، كنت بقول لنفسي عادي، بس دلوقتي الوضع اختلف… إنتي كده هتلبسيني مصېبة!
تحية صاحت پغضب: قولي بقى… إنتي عايزة تجنّنيني؟! عشان تمشي على حل شعرك؟!
أثير توسلّت بصوت منخفض: بالله عليكي اهدَي شوية يا خالتي…
تحية نظرت إليها وقالت بحدة: هو إنتي شايفاني مچنونة؟
أثير قالت بسرعة وهي تحاول تدارك الأمر: العفو يا خالتي… أنا ماقصدش كده… طب إيه رأيك؟ تلبسي ونخرج سوا نروح مشوار؟
في تلك اللحظة، تحية سكتت فجأة، وكأنها عادت إلى وعيها، ونظرت إلى أثير بابتسامة حنونة وهمست: إنتي كنتي بتقولي إيه يا حبيبتي من شوية؟
وضعت أثير يديها على رأسها، وتنهدت پألم: آه آه يا دماغي…
سلامة دماغك يا حبيبتي، روحي افتحي الدُرج اللي هناك وخدي قرص للصداع، قالتها تحية بحنان.
أثير تذكرت هدفها، فقالت: آه، افتكرت… يلا يا خالتي، البسي علشان هنروح مشوار.
مشوار إيه يا حبيبتي؟
خليها مفاجأة يا خالتي…
في المستشفى، أجرت أثير جميع التحاليل والفحوصات التي طلبها الطبيب.
بعد قليل، جلست أثير وتحية أمام الطبيب داخل العيادة، وكان يتفحص النتائج بعناية.
قال الطبيب بنبرة جادة: التحاليل والأشعة بتقول إن خالتك عندها نوع من أنواع الخرف… بس النوع ده مش دائم، وده أهم حاجة.
أثير نظرت له في قلق: يعني إيه؟ مش فاهمة…
أوضح الطبيب وهو يشير إلى التقرير: اللي عند خالتك اسمه “خرف قابل للعلاج”، وده بيحصل لما بيكون فيه التهاب مزمن في الغدة الكظرية، ومعاه نقص في بعض الفيتامينات زي B12. الحالة دي بتأثر على الذاكرة، بتخليها تنسى الأحداث القريبة، وتتصرف تصرفات غريبة، وبعد شوية ترجع تتكلم بمنتهى العقل كأن مفيش حاجة حصلت.
يعني كده خالتي ممكن تخف؟ سألت أثير.
أجاب الطبيب مطمئنًا: بإذن الله. النوع ده من الخرف بيتحسن مع العلاج، وخاصة لو اتعالج السبب. هي هتاخد علاج للغدة الكظرية، ومكملات فيتامينات، ومع الانتظام هترجع لحالتها الطبيعية.
ثم ناولها الروشتة: اتفضلي، دي خطة العلاج. تابعوا معايا بشكل دوري، وإن شاء الله كل حاجة ترجع كويسة.
أخذت أثير الروشتة وقالت بامتنان: متشكرين جدًا يا دكتور.
خرجت أثير من المستشفى تمشي بجانب خالتها. وبينما هما في الطريق، قالت تحية بنبرة عتاب:
كده يا أثير؟ توديني لدكتور مجانين من غير ما تقوليلي؟
أثير نظرت لها بحنان وقالت: معلش يا خالتي، ما تزعليش مني… لو كنت قلتلك من الأول، مكنتيش هتوافقي، ولا كنتي هتصدقيني. فكان لازم أعمل كده… ولازم تسمعي الدكتور بنفسك علشان تصدقي إنك تعبانة.
تحية تنهدت وقالت بهدوء: خلاص يا أثير، أنا مش زعلانة… علشان عارفة إنك بتعملي كده لأنك خاېفة عليا.
قالت أثير برقة: بعد إذنك يا خالتي… أنا عايزة أروح عند أسيل النهاردة، علشان خاطري يا خالتي.
ردّت تحية: خلاص، روحي… بس ما تطوليش هناك.
ابتسمت أثير وهي تقول: أنا بحبك… وانتي أحن وأطيب خالة في الدنيا كلها.
عند أسيل.. لم يكن في الشقة ما يدل على حياةٍ تُعاش.
الأثاث جديد، أنيق… لكنه بارد. لا دفء في الزوايا، ولا أثر لألفة.
كان الصمت يملأ المكان، لا كراحة، بل كعزلة ثقيلة، كأن الجدران نفسها تنكمش على بعضها من الۏحشة.
رنّ جرس الباب.
نهضت أسيل بتثاقل، فتحت… فوجدت أثير أمامها.
تلاقت نظراتهما للحظة، صامتة، مشحونة بما لا يُقال.
ثم دخلت أثير دون استئذان، وقفت في منتصف الغرفة، نظرتها تتجوّل في المكان، ثم استقرّت على أختها التي عادت وجلست في زاويتها المعتادة، وكأن شيئًا لم يكن.
قالت أثير، بصوت يحمل خليطًا من العتاب والخۏف:
ــ “إنتي خلاص نسيتي إن ليكي أهل يا أسيل؟
ولا حتى فكرتي تتصلي بيا وتطمنيني عليكي؟!”
رفعت أسيل نظرها، بعينين صامتتين لا تحملان ضعفًا، بل تعبًا تعلمت كيف تخفيه:
ــ “ما نسيتش…
بس لما خالتي قالتلي إنها مش عايزة تشوف وشي تاني، فهمت الرسالة وقالت لنفسي مفيش راجعة.”
أثير، تتقدم خطوة، والغصة تكاد تخنق صوتها:
ــ “إنتي اللي غلطانة!
إنتي اللي هربتي وسِبتي الكل! خالتي كانت موجوعة، مش قاسېة!”
أسيل، تبتسم بسخرية هادئة، ثم ترد بنبرة ثابتة:
ــ “وأنا هربت ليه؟
أنا هربت عشان كنت بغرق، ومحدش مد لي إيده.
نظرت إلى أختها نظرة طويلة، وكأنها بتختصر فيها كل الشهور اللي عدّت:
ــ “أنا مش ندمانة.
بس اتغيرت… بعد ما طارق سابني، بعد ما بابا ماټ…
ماعدتش البنت اللي بتستنى حد ينقذها.”
توقفت، ثم أكملت بنبرة هادئة كأنها بتحكي حكاية قديمة ماټت:
ــ “طارق قال مش جاهز…
بس أنا كنت مستعدة أواجه العالم عشانه.
ولما سابني، عرفت إني كنت غلطانة… مش فيه، في نفسي.
ووقتها… بدأت أتعلم أحب نفسي أكتر من أي حد.”
سكنت الكلمات في الهواء، لكن الألم ظل صاخبًا.
ولم تكن أثير تملك، في تلك اللحظة، إلا الصمت.
فلاش باك – قبل سنة، مساء هادئ على كورنيش البحر
كانت أسيل تسير بجانب طارق، خطواتها مترددة، وجسدها النحيل ما زال يحمل ملامح الطفولة، رغم أن الهموم جعلتها تكبر قبل أوانها.
كانت في الثامنة عشرة، لكن ملامحها، ونظرتها، وكلامها… كانوا أكبر من عمرها.
قال طارق، بنفاذ صبر :
ــ “قوليلي بقى…
إمتى هنتجوز؟ أنا استنيتك كتير وصبرت على ظروفك كتير يا أسيل وقلنا أول ما تكملي 18 نكتب الكتاب.”
أسيل، وهي تشيح بوجهها نحو البحر:
ــ “عشان خاطري… اصبر كمان سنتين.
أنا دلوقتي بشتغل في محل ملابس، ودخلت جمعية، وهقبضها كمان سنة ونص.”
طارق، يتوقف فجأة، صوته يعلو دون أن يشعر:
ــ “سنتين كمان، مش حتى سنة؟!
يا أسيل إحنا كنا المفروض نكتب الكتاب أول ما تكملي 18،
يعني بعد 3 شهور…
دلوقتي بتقوليلي استنى كمان سنتين؟!”
كل يوم بيعدّي بيبعدنا عن بعض!”
أسيل، بعينين زائغتين نحو البحر، كأنها تهرب منه إليه:
ــ “ما أنت عارف اللي حصل…
“ما أنت عارف إحنا كنا في إيه…
ماما ماټت فجأة، وبعدها بابا تعب ودخل العناية…
اليوم في المستشفى كان بأرقام فلكية،
بعنا الشقة عشان نلحق نكمل علاجه،
وأنا… اضطريت أبدأ من الصفر.”
طارق بملامح عابسة:
ــ “أنا مقدّر كل حاجة…
بس ذنبي إيه؟
أنا بحبك وعايز أتجوزك… النهاردة قبل بكرا!”
أسيل، بصوت فيه رجاء:
ــ “وأنا كمان بحبك…
بس نفسي أجهّز جهازي بنفسي.
كل بنت بتحلم تختار حاجاتها بإيدها…
مش عايزة أبقى عروسة جايبة شنطة هدوم بس.”
طارق:
ــ “أنا عايزك إنتِ بس… حتى لو بشنطة هدومك.”
ضحكت أسيل بسخرية حزينة:
ــ “حتى الشنطة دي مش قادرة أشتريها…
ما أنا عارفة ظروفك، الفلوس اللي معاك يادوب تجيب بيه العفش.”
طارق، بحماس:
ــ “أنا أشتريلك الشنطة!
وهدومي كمان لو عايزة!”
أسيل، تهز رأسها بثبات:
ــ “وأنا عمري ما هرضى بدا…
عشان أول خناقة بعد الجواز، هتفتكر كل اللي عملته…
ويمكن تقوللي: (ده أنا حتى جبتلك شنطة هدومك).”
طارق، بهدوء:
ــ “أنا عمري ما هقول كده… أنا بحبك يا أسيل.”
أسيل، بكلام واقعي يفوق سنها:
ــ “إنت يمكن…
بس مامتك؟
لو وافقت، هتسكت؟
أكيد كل شوية هتعايرني…
هتقوللي: (ده حتى جايبالك شنطة هدومك).”
طارق يصمت…
وصمته كان أبلغ من أي رد.
أسيل، تكمل بهدوء:
ــ “شايف؟
حتى انت سكت…
عشان عارف إن عندي حق.
وأنا مش هقدر أعيش كده.
فـ بلاش تفتح الموضوع تاني.”
مضى الصمت بينهما حتى وصل طارق بأسيل إلى بيت خالتها…
لم تُقال كلمة، لكن كانت لحظة النهاية بدأت هناك.
العودة إلى الحاضر
أسيل، تمسح دمعة انزلقت على خدّها رغمًا عنها، وتقول بصوت متماسك ېخنقه الحنين:
أسيل:
ــ “وبعدها بيوم يا أثير…
مامته جت لبيت خالتي، بكل برود، وقالتلي: (هاتِي الشبكة… طارق مش عايزك).
وبعدها بشهرين بالضبط…
اتجوز.
قوليلي يا أثير…
فين الحب؟
فين الوعود؟
كل ده راح بكلمة واحدة من أمه؟!”
لم يكن السؤال ينتظر جوابًا، بل كان صړخة…
صړخة قلب انخدع، فاستفاق على الحقيقة.
نظرت أثير إلى أسيل، وعيناها تمتلئان بمزيج من الشفقة والڠضب، وقالت بنبرة حاسمة:
ــ أنتي احمدي ربنا إنك عرفتِ حقيقته بدري. ده طلع راجل ماعندوش كلمة، وبيمشي ورا أمه زي العيل الصغير. لو كنتي اتجوزتيه، كنتي شيلتي الهم بالطول والعرض.
ابتسمت أسيل، لكن ابتسامتها كانت من النوع الذي يُخفي وراءه سنوات من الألم، ثم قالت بهدوء مشوب بالمرارة:
ــ زمان كنت بزعل، عشان كنت بحبه بجد يا أثير… بصدق، من غير شروط، من غير ما أشوف اي عيوب فيه.
بس دلوقتي؟ لأ… دلوقتي أنا بشكر الۏجع اللي سببه لي.
لولا هو وكسره لقلبي، ماكنتش بقيت “أسيل” اللي الناس كلها بتتكلم عنها دلوقتي… أسيل عارضة الأزياء.
زفرت أثير تنهيدة طويلة، وقالت وهي تهز رأسها:
ــ مش هقدر أقول غير ربنا يهديك.
رفعت أسيل حاجبيها بنفاد صبر، وابتسمت ابتسامة جانبية:
ــ اقفلي السيرة دي بقى… وتعالي أقولك على آخر واحد كسّرت له قلبه.
ضحكت، تلك الضحكة التي تُخفي لذة اڼتقام:
ــ كان منظره يضحك وهو بيتوسل لي عشان اتجوزه… كان فاكر نفسه أول ما يعرض عليا الجواز، هركع تحت رجليه.
فتحت أثير عينيها بدهشة وقالت:
ــ والله حرام عليكي! هو عشان طارق كسرك، تقومي تظلمي كل الرجالة كده؟
هزّت أسيل رأسها بإصرار وقالت:
ــ وحياتك عندي، كلهم صنف واحد.
اعترضت أثير، وقد بدا الڠضب على ملامحها:
ــ لأ، ده كلام قاسې وظالم! مش كل الرجالة شبه بعض. خدي عندك بابا، كان بيحب ماما حب حقيقي، ولما ماټت… ماټت روحه معاها.
نظرت أسيل إليها نظرة ماكرة، وقالت بخفة:
ــ انتي عايزاني أحكيلك ولا لأ؟
ردّت أثير وهي تعدل جلستها:
ــ احكي… ياشهرازد.
قالت أسيل بنبرة مستمتعة:
ــ آخر واحد دخل حياتي كان اسمه “سيف الأنصاري”. من عيلة تقيلة، غنى فاحش، وثقة زايدة عن اللزوم.
سيف؟ كنت عارفة من أول لحظة إنه بتاع بنات… بس على مين؟
كان فاكر نفسه أول ما يشاورلي، هقع في غرامه.
عرفت أخلّيه يحبني، ويتعلّق بيا…
وبالنسبالي؟
كان مجرد محفظة فلوس بتمشي على رجلين.
شهقت أثير، وقالت بذهول:
ــ إيه الجبروت ده كله يا شيخة؟!
تأملت أسيل السقف بشرود، قبل أن تلتفت إلى أثير وتقول بنبرة تحمل بعض الفخر:
ـ أنتي عارفة إن الشقة دي هو اللي اشتراها لي؟ وكمان كتبها باسمي! ده غير العربية، والفساتين، وكل حاجة طلبتها كانت بتتجاب لحد باب البيت.
نظرت إليها أثير بعين قلقة ووجهٍ متجهم:
ـ أنتي عمرك ما كنتي كده يا أسيل… ما كنتيش طماعة. أنا خاېفة عليكي تقعي في إيد واحد مايرحمكيش.
ابتسمت أسيل بثقة وقالت وهي ترفع حاجبيها:
ـ مټخافيش عليا… أختك جدعة، تاخد وما تديش.
زفرت أثير بقلق:
ـ يا خۏفي عليكي من الثقة الزيادة دي.
نهضت أسيل من مكانها وهي تمسك بكوب قهوتها وتقول:
ـ خلينا في الكلام اللي يجيبلك فلوس… أنا شوفتلك شغل!
رفعت أثير رأسها بسرعة، وبدا الحماس في عينيها:
ـ خلاص؟! أنا هاشتغل؟
أومأت أسيل برأسها وهي تقول:
ـ مبدئيًا الشغل مدته أسبوع، وهتاخدي عليه خمسين ألف.
شهقت أثير وارتفع صوتها:
ـ شغل إيه اللي يجيب خمسين ألف في أسبوع؟! أوعي تكوني عايزاني أعمل حاجة تغضب ربنا، أنا بقولك من دلوقتي… لأ!
نظرت إليها أسيل باستياء:
ـ إنتي اټجننتي؟ تفكري فيا كده؟
هزّت أثير رأسها بحيرة:
ـ طب أفكر فيكي إزاي؟! في شغل يدي المبلغ ده في أسبوع؟!
رفعت أسيل يدها تطلب منها الصمت:
ـ أقفلي بُقك شوية، خليني أشرح.
جالي عرضين في نفس الوقت… واحد في دبي، والتاني في باريس.
والاتنين نفس المدة… أسبوع.
أنا هاخد باريس، وإنتي هتروحي أسبوع الموضة في دبي.
قطّبت أثير جبينها وهي تقول بتحفّظ:
ـ لأ يا أختي، أنا ماليش في العريان.
ضحكت أسيل وقالت تطمئنها:
ـ مټخافيش… ده أسبوع الموضة الخاص بالعبايات، وكمان بالحجاب.
كل سنة بيتعمل في دبي معرض كبير بيعرضوا فيه أحدث موديلات العبايات.
نظرت أثير إليها بشكّ:
ـ يعني مفيش حاجة من جسمي هتبقى باينة؟
ـ أيوه، خالص…
موافقة ولا لأ؟
ابتسمت أثير وقالت بحماس:
ـ موافقة… موافقة!
بس… طب ويحيى؟
ومين هيدي خالتي العلاج في ميعاده؟
ربّتت أسيل على يدها مطمئنة:
ـ سيبي الموضوع ده عليا…
هجيب لها مربية تقعد معاها وتديها العلاج في مواعيده.
يعني خلاص؟ أبلغ دار الأزياء إنك موافقة؟
ـ أيوه، موافقة.
دول خمسين ألف، هيساعدوني كتير أوي.
مدّت أسيل يدها:
ـ هاتي بطاقتك، علشان أطلعلك باسبور.
أخرجت أثير بطاقتها من جيبها بسرعة وهي تضحك:
ـ خدي، دي دايمًا معايا.
قوليلي… هسافر إمتى؟
ـ كمان يومين.
سكتت أثير لحظة ثم قالت بعينين تغرورقان ببعض الأمل:
ـ أنتي عارفة المبلغ ده هيغيّرلي حياتي؟
هقدر أكمل تعليمي، وممكن كمان أعمل مشروع صغير أقدر أصرف بيه على البيت.
نظرت إليها أسيل بنظرة جدّية:
ـ من دلوقتي، اسمك هيبقى “أسيل”.
لو أي حد سألك عن اسمك، هتردي تقولي إيه؟
نظرت أثير إليها وابتسمت:
ـ هقول… أسيل.
نظرت لها أسيل بعين خبيرة قبل أن تقول:
ـ آخر حاجة… تعالي أعلمك مشية الـ”كات ووك”.
كانت الموسيقى تنساب بهدوء من مكبّر الصوت الصغير في زاوية الغرفة، بينما انعكس ضوء المصباح على الأرضية اللامعة، مرسومًا على شكل ممرّ وهميّ لعرض الأزياء. وقفت أثير على الكعب العالي تتمايل بتردّد، تحاول مجاراة تعليمات أسيل الصارمة.
أثير قضت أكثر من ساعة في التدريب على الوقفة، والنظرة، والخطوة، شعرت بأن قدميها لم تعد تحتمل المزيد. تنفّست بصعوبة، ومسحت عرقًا بدأ يتكوّن على جبينها، ثم توقفت فجأة وقالت بتنهيدة مرهقة:
ـ خلاص يا أسيل… أنا تعبت، كفاية كده.
رفعت أسيل حاجبًا باستهجان، وتقدّمت نحوها بخطوات محسوبة:
ـ تعبانة؟ ده أنا لسه ما بدأتش معاك بجد!
المشية دي لو ما ظبطتش، هيبان عليكي إنك دخيلة ومش محترفة.
أثير، وهي تخلع الحذاء وتجلس على طرف الأريكة، قالت بنبرة متوسّلة:
ـ يا شيخة سيبيني أتنفّس شوية… رجلي مش حاسة بيها!
أنا عمري ما مشيت بكعب كده، ولا حد وقفني ساعة كاملة يقول لي: “رجلك اليمين… لا الشمال… عيدي تاني!”
ضحكت أسيل بخفة، ثم اقتربت وجلست بجوارها، وقد خفّ صوتها قليلًا:
ـ معلش يا تيتا… أنا عارفة إنه صعب، بس ده شغلك… وهي دي أول خطوة في عالم مش سهل.
أثير، رغم تعبها، ابتسمت ابتسامة صغيرة:
ـ العالم ده مؤقت بالنسبة لي عشان محتاجة، قوليلي بقى، الفلوس هاخدها إمتى؟
أسيل وهي تفتح ملفًا صغيرًا على الطاولة:
ـ لما تسافري الأول وتحضري عرض الأزياء.
تنهدت أثير، ثم قالت وهي تلتقط هاتفها:
ـ هسيبك بقى… أروح أقول لخالتي على موضوع السفر.
أسيل، دون أن ترفع نظرها:
ـ كمان يومين تيجي تاخدي الباسبور وتجهزي نفسك.
أثير وهي تمشي نحو الباب:
ـ مع السلامة… نتقابل كمان يومين.
في بيت خالتها تحية، كان الجو مختلفًا تمامًا. سكون ثقيل يسكن المكان، ووجه تحية يترقّب كلمات أثير.
جلست أثير مترددة، ثم نطقت بصوت خاڤت:
ـ أنا… لقيت شغل.
رفعت تحية رأسها فجأة وقد بدت عليها علامات الارتياح المؤقت:
ـ الحمد لله إنك لقيتي شغل.
الشغل ده فين؟
أثير، متجنبة النظرات المباشرة، قالت بهمس:
ـ في… دبي.
تحية شهقت وكأنها سمعت شيئًا غير منطقي:
ـ إنتي بتقولي في دبي؟!
إحنا هنا في مصر، والشغل هناك؟ أفهم بس… إزاي يعني؟!
أثير، وقد بدأ التوتر يظهر في صوتها:
ـ أصل… أصل يا خالتي…
تحية، وقد علا صوتها بنفاد صبر:
ـ ردي يا بنت! مالك مش قادرة تقعدي على بعضك ليه؟!
أثير بعد تردد طويل:
ـ أسيل… هي اللي جابتلي الشغل ده.
تحية، وقد تحولت لهجتها إلى الڠضب الحاد:
ـ أنا مش قولتلك بدل المرة ألف، ملكيش دعوة بيها؟!
شغل إيه اللي هي جايباهولك؟
أثير حاولت تهدئتها:
ـ بصي يا خالتي، هقولك كل حاجة، بس أوعديني ما تتعصبيش.
تحية زفرت بحدة:
ـ خلّصي وقولي… أنا أعصابي خلاص مش مستحملاك.
أثير نطقت الكلمة بسرعة كأنها تخلّصت من حمل:
ـ موديلز.
تحية صاحت بأعلى صوتها:
ـ يا لَهوووي! يا لَهووووي!
البنت ضاعت مني خلاص…
أثير وهي تحاول الإمساك بيدها:
ـ أهدى شوية يا خالتي… خليني أشرحلك بس.
تحية بصوت مهتز من الڠضب:
ـ فيها إيه دي تتشرح؟!
أنا مش هعيد الكلام ده تاني…
مفيش سفر، يا أثير.
كفاية حړقت قلبي على أختك!
أثير انحنت قليلًا نحوها وقالت برجاء:
ـ معلش يا خالتي… طب اسمعيني الأول، وبعد كده اللي تقولي عليه هنفذه.
سكتت تحية، ووضعت يدها على فمها إشارة منها أن تتكلم.
أثير بدأت تشرح وهي تحاول الحفاظ على صوتها ثابتًا:
ـ الشغل مدته أسبوع في دبي.
هكون فيه موديلز مع دار أزياء متخصصة في العبايات وفساتين المحجبات.
يعني حتى وأنا هناك… هكون لابسة الحجاب، وكل حاجة محترمة.
تحية نظرت إليها بشك:
ـ يعني مفيش حاجة مكشوفة؟
أثير أكدت بثقة:
ـ أيوه يا خالتي، ده “أسبوع موضة” للعبايات بس… وده بيتعمل هناك كل سنة.
تحية بعد لحظة صمت:
ـ مش عارفة أقولك إيه… قلبي مش مطمن للسفرية دي.
أثير أمسكت يدها بحنان وقالت:
ـ معلش… إنتي عارفة ظروفنا، وده مبلغ كبير… خمسين ألف جنيه في أسبوع.
أقدر أكمّل تعليمي… أعمل مشروع صغير…
أدعيلي بس يا خالتي.
نظرت تحية إليها بحزن وقالت:
ـ أنا بدعيلك على طول.. مابلاش تسافرى وخليكى معايا..