رواية التوأمتان اثير واسيل الفصل الاول 1 بقلم سلمى محمد

رواية التوأمتان

الفصل الاول

سكون ثقيل يخيم على المكان، لا يقطعه سوى صوت الأجهزة الطبية ونبضات قلب تتباطأ كأنها تخشى الاستمرار. على السرير، كان سيف غارقًا في بياض المشفى، شاحب الملامح، يغالب وجعًا لا يظهر على جسده بقدر ما ينهش داخله.

دخل يشار الغرفة وعيناه تلاحقان تفاصيل وجه الشاب الممدد أمامه. اقترب، وقف لحظة يلتقط أنفاسه، ثم انفجر صوته مشبعًا بالغضب والخذلان:

يشار:
كنت عايز تموت؟! تمشي كده من غير وداع؟! تموت كافر؟! هانت عليك نفسك؟ طب أنا؟! أنا كمان هنت؟! مفكرتش فيّا؟ في اللي شالك وحملك وربّاك؟! مفكرتش هعيش إزاي بعدك؟!

سيف، بصوت خافت متكسر:
ماتزعلش مني يا عمّي… غصب عني، كنت تايه…

جلس يشار بجواره، أمسك بيده الباردة، وقال بصوت يحمل كل الحنان:

يشار:
أنا عمرى ما زعلت منك… إنت مش ابن أخويا، إنت ابني… أخويا وأمك الله يرحمهم، سابوك أمانة في رقبتي وإنت لسه طفل… والنهارده بسأل نفسي: فشلت؟ معرفتش أصون الأمانة؟

سيف أغلق عينيه، ودمعة ثقيلة تسللت من طرفها:
أنا عارف… غلطت… بس وقتها حسيت إني ضايع… ولما حسّيت إني بموت، قلبي اتقبض… دَعيت ربنا يعيشني، بس علشان أتوب… ماكنتش مستعد أقابله وأنا كده… وعد، يا عمّي، مش هخذلك تاني… هبقى بني آدم تاني.

يشار، وقد ترقرقت دموعه في صمت:
الحمد لله إنك رجعت… بس قولي، قصّرت معاك؟ كنت بقولك دايمًا إحنا أصحاب، إحكيلي، ليه خبّيت عني؟

سيف:
ماكنتش حاسس إنك جنبي… كنت دايمًا مشغول، وكل مرة حاولت أقرب… رجعت بخيبة.

يشار، بتنهيدة مريرة:
أنا مشغول عن الكل… إلا إنت. كنت أسيب الدنيا كلها وأجيلك لو بس ناديتني. إنت ابني اللي ما جبتهوش، بس ربيته بقلبي.

ثم نظر إليه نظرة عميقة، فيها خوف وحرص وألم:
إحكيلي بصدق، إيه اللي وجعك للدرجة دي؟ إيه اللي خلاك تكره الحياة وتفكر تنهيها بإيدك؟

صمت. طويل. ثقيل. كأن الكلمات تنتظر إذنًا بالخروج.

سيف نظراته تائهة، وصوته يحمل مرارة الذكرى:
هقولك كل حاجة يا عمّي…
البداية كانت في دبي، كنت هناك مع شلّة من أصحابي في ويك إند سريع… كلنا كنا بنجري ورا المتعة، وعمري ما توقعت إن لحظة عابرة تقلب حياتي. دخلنا عرض أزياء، مش فارق معانا العرض نفسه قد ما فارق معانا إننا بنشوف بنات حلوة، لبس وستايل… لكن أول ما دخلت هي، الدنيا حواليا سكتت.

كانت بتتحرك بثقة، كأنها عارفة إن كل العيون شايفينها ومش قادرين يشيحوا بنظرهم… مكنتش أجمل بنت شفتها، بس كانت مختلفة… كانت فيها هالة، فيها حاجة بتقول: أنا مش للجميع، وأقصى ما يمكنك هو النظر من بعيد.

أول ما العيون اتلاقت، الدنيا لفت بيا…

نظرتها ما كانتش عادية، دي كانت فيها كلام كتير وتحدي واضح: جرّب… لو تقدر!

ولأول مرة، حسيت إن في حاجة جوايا اتلخبطت واتبدلت…

أنا اللي كنت بلعب بقلوب البنات،

بقيت أنا اللي بيتلعب بيّا!

(فلاش باك – بهو فندق فاخر بعد العرض)

روان واقفة جنب أسيل، بتبص على شاب وسيم واقف عند الريسبشن:

روان (بفضول):
شايفة الولد اللي واقف هناك؟ ده ابن عيلة تقيلة… وعمه تقريبًا ملياردير معروف.

أسيل (ببرود وعيون بتلمع):
الكلام ده أكيد يا رورو؟

روان:
أكيد. بس واضح إنه مش سهل..

أسيل (بابتسامة خفيفة):
مش عليا…أنا بحب التحدي، وده بالذات هيبقى لعبتي.

روان :
ده معروف إنه قلبه حجر، بيكسر قلوب البنات 

أسيل (بثقة):
كل البنات اللي عرفهم… مش أنا.

كان سيف واقفًا أمام موظف الاستقبال، يتحدث بصوت خافت وكأن قلبه يسبق كلماته:

سيف:
لو سمحت… ممكن أعرف رقم أوضة واحدة اسمها أسيل؟

لكن قبل أن ينال جوابًا، التقطت أسيل صوته. كانت تقف على مقربة، وسمعت اسمها يُنطق من بين شفتيه قبل أن تلتقي عيناها بعينيه. تقدّمت نحوه بهدوء، ولمست كتفه بخفة.

أسيل (بنبرة ساخرة لاذعة):
حضرتك بتدور على أوضتي؟ في حاجة أقدر أساعدك فيها؟

استدار سيف باندهاش، وعيناه تتأملانها وكأنه يراها للمرة الأولى.

سيف (مرتبك، وصوته يخذله):
أنا… كنت عايز أشكرك. العرض اللي قدمتيه كان… فوق الوصف.
عمري ما شفت حاجة بالشكل ده.

أسيل (بهدوء وثقة):
شكرًا، دي شغلتي.

سيف (وقد خف صوته، وفيه صدق لم يعتده):
أنا مش مصدق إنك قدامي دلوقتي… هو أنا في حلم؟

أسيل (بابتسامة خفيفة):
يبقى لازم تصحى.

سيف (ضاحك بارتباك):
اقرصيني طيب… عايز أتأكد.

مدّت أسيل يدها وقرصته برفق، ثم نظرت إليه بابتسامة ظريفة:

أسيل:
كده اتأكدت؟

سيف (يضحك بخفوت):
آه… وجعتيني، بس وجع حلو. الحقيقة إنك مش خيال.
ومش حابب اليوم ده يعدي من غير ما أقعد معاكي وأتكلم شوية.

أسيل بعفوية:
هتدفع تمن القرصة عشا؟

سيف (بدهشة ممتزجة بالفرح):
ادفع عمري كمان، مش بس عشا! الساعة سبعة مناسبة؟

أسيل (وهي تهمّ بالمغادرة):
تمام… بس أوعى تتأخر.

من اللحظة دي… بقى وجودها في حياتي مش مجرد عادة، بقى إدمان.
كنا بنخرج كل يوم. وكل مرة كنت بحاول أخلّيها… تحبّني أكتر.
بس الحقيقة؟ أنا اللي كنت بغرق في حبها، وهي واقفة على الضفة بتتفرج.

أي حاجة كانت بتطلبها… بتتنفذ فورًا.
قالتلي نفسي في شقة… اشتريت.
قالتلي نفسي في عربية… اشتريت.
وكل يوم، هدية جديدة، وردة مختلفة، فكرة مجنونة…
وآخر اليوم، كان عشاء فاخر في مكان جديد.
كنت بعمل كل ده بقلب عاشق بيحاول يكسب قلب حبيبته.

لحد ما جه اليوم اللي قلبي كان مستنيه..
اليوم اللي فضلت أتخيله وأنا مغمّض… أحفظ تفاصيله زي اسمي.

وقفت قدامها، وأنا حاسس إن رجلي مش شايلاني،
إيدي بتترعش، وقلبي بيخبط كأنه طبل حربي،
طلعت العلبة من جيبي، فتحتها وقلبي بيتهز…
جواها خاتم بسيط، بس بالنسبالي كان الدنيا وما فيها.

مدّيت إيدي ليها، وعيوني بتترجاها قبل لساني ما ينطق:
  أنا بحبك يا أسيل… وعايزك تبقي مراتي.
رفعت رأسها نحوي، لكن بدل ما ألمح في عينيها الفرح…
انطلقت منها ضحكة.

ضحكت…
ضحكة باردة، ناشفة، مفيهاش ذرة إحساس.
ضحكة مش بس جرحت كرامتي…
دي كانت زي سكينة دخلت في قلبي وفتّحته على الآخر.

قالتها بصوت عالي كده، وهي بترفع حواجبها باستعلاء،
كأنها بتدوس على قلبي بكعب جزمتها:
أنا؟ أتجوزك إنت؟
ده أنا لو فتحت باب البيت، الرجالة تقف ليا بالطابور!
أنا مش عايزة واحد ينفذ كل كلامي !
أنا عايزة راجل… راجل بجد!
راجل يمشي كلمته عليّا… مش عروسة ماريونت أحركها بصوابعي!

الكلام دخل جوّايا زي الرصاص.
كل كلمة قالتها كانت طلقة…
وكل طلقة كانت بتكسر جزء مني.

بس رغم كل ده،
فضلت ماسك في آخر حتة فـ كرامتي،
وردّيت، وصوتي كان بيترعش، وأنا حاسس إني بنهار:

 يعني علشان بحبك؟
وعمري ما قلتلك لا؟
علشان كنت دايمًا جنبك؟
ده يبقى ضعف؟
ده مش خنوع يا أسيل…
ده حب…
حب بيكبر جوايا كل يوم!

بَصّتلي بنظرة…
نظرة قاتلة، زي الجليد…
كأنها بتبُصّ على حاجة مش شايفاها…
كأن وجودي بالنسبة ليها كان غلطة، ومش عايزة تفتكرها.

وبكل برود، قالت:
  مع السلامة يا سيف…
مش عايزة أشوف وشّك تاني في حياتي.

لفّت ومشيت…
وسابتني واقف في نص الشارع،
تايه، مكسور،
مش فاهم…
هو أنا كنت حلم وعدّى؟
ولا كنت ولا حاجة من الأول؟

صرخت وراها،
من أعماق روحي،
من آخر نفس لسه عايش جوايا:
  أسيل! بالله عليكي!
إديني فرصة!
أنا بحبك… بحبك بجد!
ومش قادر… مش قادر أعيش من غيرك!

جريت وراها،
عيوني مغيّمة، وقلبي بينزف…
بس أول ما وصلت عند باب الفندق،
رجالة الأمن وقفوني، شدّوني، وزقّوني بعيد.

اترمَيت على الأرض زي المتسوّل…
زي الحرامي…
أنا؟
أنا اللي كنت شايلها فوق دماغي؟
اللي كنت بعيش عشان أفرّحها؟
أنا اللي كنت سبب ضحكتها؟
أنا… اترميت زي الكلب في الشارع.

رجعت إلى الفيلا كجسد بلا روح.
دخلت الغرفة، وقفلتها على نفسي لأيام.
لا نهار، لا ضوء، لا صوت…
فقط ليل طويل، ووجع لا يُحتمل، وخيبة أكبر من احتمالي.

فكرت في الموت.
نعم… فكرت أهرب من كل ده، بأي تمن.
أنا حبيتها بصدق، يا عمو…
وهي؟
هي عرفت تكسرني بسهولة… زي عود كبريت فاضي، ملهوش قيمة.

كان يشار واقفًا إلى جانبه، يصغي بصمت لكل كلمة ينطق بها، بعينين تُبصران الحياة من زوايا لم يصل إليها بعد.
في عينيه سكون غريب… سكون رجل جرّب الألم حتى آخره، ثم تعلّم كيف يقف وسط الركام دون أن يهتز.

لم يَقُل الكثير… فقط تمتم بصوته الهادئ، العميق:

 ما تضعفش، يا سيف…
خلي دي تكون البداية، مش النهاية.
خليها اللحظة اللي تطلع منها راجل بجد…
مش عبد لحب كدّاب.

كان يشار ينظر إليه بنظرة من يعرف الطريق وسط الحطام.
أما سيف، فكان صدره يغلي، وشيء في داخله ينفجر بصمت.
الغدر لا يترك جرحًا سطحيًّا… بل يحفر في العمق، حيث لا يراه أحد.

همس، وصوته متكسّر من تحت أنقاض الخذلان:

 أنا مش هسيب حقي…
لازم آخده منها…
لازم.

ابتسم يشار، ضحكة خفيفة لم تَخْلُ من الثقة، وكأن الأمر بين يديه:

 سيبها عليّا.
إنت ركّز في مستقبلك، وأنا هعرف أرجّعلك كرامتك.
معاك صورة ليها؟

هزّ سيف رأسه بصمت، وسحب الهاتف من جيبه وكأن يده تُخرِج ثُقْلًا من صدره.
فتح ألبوم الصور، تنقّل بين الذكريات، اختار واحدة، ثم قال بصوت خافت:

شوف… دي صورة من اللي كنا بنضحك فيها سوا.
ضحكة كانت شكلها بريء…
بس الحقيقة؟
كانت ضحكة واحدة بتضحك، والتاني بيتضحك عليه.

ناول الهاتف ليشار، ويده ترتجف كأنها تحمل رماد قلبه.
عندما تحرّك صوته من جديد، كان مختنقًا، مبللًا بدمعة سقطت رغمًا عنه:

 بص يا عمو…
دي صورتها وهي بتضحك.

أخذ يشار الهاتف، تأمّل الصورة بصمت، ونظراته ثابتة، فيها حنية لكن لا تخلو من الحزم.
  أوعى تكدّب على نفسك يا سيف… السيرة دي لازم تتقفل دلوقتي.
ارفع راسك… شد ضهرك، وفكّر إزاي تطلع من هنا واقف على رجلك، وتبني نفسك من أول وجديد.
انسى أسيل… امسحها من قلبك، كأنها ما دخلتش حياتك من الأساس.

أطرق سيف رأسه، ونبرة صوته كانت مكسورة، كلها وجع مستسلم:
  حاضر يا عمو…

وقف يشار، مد إيده بلطف، وربّت على كتف سيف بحنان أبوي، وقال بابتسامة صغيرة دافية:
  هسيبك دلوقتي… وهجيلك بكرة إن شاء الله.
خليك قوي… مع السلامة يا بطل.

خرج يشار من الغرفة، وفضل سيف قاعد لوحده…
لكن صدى كلماته كان لسه بيرن في ودنه،

وفي ذلك البيت البسيط، حيث تعب الجدران يعلو على أي ديكور، كانت أثير تمشي ذهابًا وإيابًا وهي تحمل يحيى بين ذراعيها، طفل لا يتجاوز العامين، يبكي بلا توقف، كأنه يعبّر عن كل ما لا يُقال.

تهزّه برفق، تصدر همهمات ناعمة، تحاول تهدئته، بينما صوت خالتها تحية يعلو من خلفها بنبرة لا تخلو من اللوم:

 عجبك حالك كده يا أثير؟ لحد إمتى هتفضلي ترفضي كل عريس بيتقدم لك؟

أثير لم تلتفت، لكنها ردّت وهي لا تزال تهدهد الطفل:
  عارفة كويس أنا برفض ليه، يا خالتي.
مفيش واحد فيهم عايز يربّي يحيى كأنه ابنه.

تحية تنفست بضيق، وجلست وهي تشبك ذراعيها:
  آخر واحد عرض عليكِ تتجوزيه، وقالك صريح: أنا هتكفل بالولد، وهعامله زي ابني تمامًا.

أثير نظرت إلى خالتها أخيرًا، نظرة حزن:
  كان بيكدب.
بيقول كده دلوقتي، بس بعد الجواز؟
هيقول لي ارميه عند أي حد.
أنا مش هجازف بيحيى، مش هسمح لحد يستخدمه وسيلة عشان يوصل لي.

تحية باستغراب:
  وإنتي عرفتِ منين إنه بيكدب؟

أثير بصوت خافت لكنها واثقة:
  إحساسي… وعمره ما خيبني.

تحية رفعت حاجبها باستياء:
  يعني عاجبك شكلك ده؟ وشك مصفّر، جسمك هزيل، وسنين شبابك بتضيع وانتي لسه في عز شبابك!
بلاش تدفني نفسك بالحياة.

أثير شهقت بصمت، حضنت يحيى أكثر، كأنها بتحميه من كلام خالتها:
  ويحيى؟
ذنبُه إيه؟
اتولد يتيم، محروم من حنان أمه، ما شافش أبوه، وأنا بقيت له الكلّ…
مش هفرّط فيه عشان ألبس فستان فرح.

صمتت تحية، لكنها لم تحتمل طويلاً.
كأن الوجع المخزون في قلبها وجد ثغرة للانفجار:
  أمك هي السبب في كل ده!
ما سمعتش كلام الدكاترة. قالوا لها الحمل خطر، والجنين لازم ينزل.
بس دماغها كانت ناشفة.
أنا قلت ليها، أبوكِ اتوسّل لها، وبرضه ما رضيتش.
وفين النتيجة؟
ماتت وهي بتولد!

أثير دمعت عيناها، لكنها حاولت الدفاع:
  ماما كانت بتقول: حرام أقتل روح ربنا هو اللي خلقها…

تحية قاطعتها، وصوتها يرتجف من الألم والغضب معًا:
  روح إيه؟ ده كان لسه في علم الغيب!
هي ماتت…
وأبوكِ مات بعدها بشهور من الحزن.
وسابونا لوحدنا…
أنتي، وأسيل، والولد ده… كلكم بقيتوا أيتام!
وانتي سبتي المدرسة، وانتي من الأوائل…
ودلوقتي قاعدة في البيت، عمرك بيضيع على طفل لسه ما نطقش كلمة ماما!

أثير بصوت مرتعش، والدموع تحرق خديها:
  حتى أنتي كمان، يا خالتي؟
هتيجي عليه؟
هو ناقص؟
مش كفاية إنه اتولد محروم من حضن أمه؟
أنا بعمل اللي أقدر عليه… بحاول أعوّضه.

تحية خفضت عينيها للحظة، ثم همست والدموع تملأ صوتها:
  أنا مش زعلانة منك…
أنا موجوعة…
أمك، أختي، ماتت قدامي.
كانت عنيدة، بس كانت طيبة.
وحشتني…
سميرة وحشتني أوي، يا أثير.

أثير لم تحتمل، انفجرت باكية:
  وأنا كمان… ماما، وبابا…
كل ليلة بفتكرهم…

تحية مسحت دموعها سريعًا، كأنها تخجل من انكسارها:
  بس خلاص، كفاية كده.
ما تزعليش مني عشان فتحت السيرة دي.
خلينا في المهم.
لقيتي شغل ولا لسه؟

أثير تنهدت، وقالت وهي تمسح دموعها بطرف كمّها:
  لسه، كله طالب مؤهل عالي أو دبلوم… وأنا مكملتش تعليمي علشان يحيى.
وإنتي ما كنتيش تقدري تشيلي الحمل لوحدك، يا خالتي

تحية أومأت برأسها بصمت، ثم قالت بقلق:
  حاولي تدوري، الفلوس اللي معانا بتخلص بسرعة.

أثير ترددت، ثم قالت بحذر:
  أنا كنت بفكر… أخلي أسيل تشوفلي شغل.

انفجرت تحية كأنها أصيبت بصفعة:
  أوعي تجيبي سيرة أسيل تاني!
وانسي إن ليكي أخت!

أثير نظرت إليها بذهول:
  إزاي يعني؟

أنا مقدرش… مقدرش أنسى أسيل.

تحية بصوت حاد:
  هو أنتي نسيتي أختك عملت ايه؟ نسيتي إنها هربت من البيت بعد أربعين أبوك بيوم؟
نسيتي راحت اشتغلت إيه؟

همست أثير، كأن الكلمة ثقيلة على لسانها:
  عارضة أزياء… موديلز.

تحية بسخرية مُرة:
  موديلز!
يعني جسمها فرجة للناس!
يا فضيحتي في المنطقة…

بنت أختي اشتغلت عارضة أزياء، وجسمها بقى معروض على الملأ،
وعيون الرجالة بتعدي عليها من فوق لتحت كأنها سلعة تتباع وتشترى، من غير أي احترام ولا اعتبار.
فاكرة فستان بيلا حديد في مهرجان كان؟ اللي كان عبارة عن قطعة قماش صغيرة متلاصقة بجسمها ولا كأنها لابسة حاجة.
هي كده بالظبط، بس دي بنتنا… واحنا سايبينها تتعرض قدام الناس كأنها سلعة للبيع!

أثير حاولت تهدّئ خالتها، وعيناها تلمعان بحزن:
  دي بقت مهنة محترمة، يا خالتي…
مش أي حد بيحضر عروض الأزياء، دول ناس راقية و… أغنياء.

تحيّة قطعتها قبل ما تكمل، صوتها كان كالصفعة:
  أغنياء إيه وناس راقية إيه؟!
دي مهنة عار!
أنا من يوم ما مشيت، نسيت إنها بنت أختي!

ثم أردفت بمرارة أكثر، والخذلان واضح في نبرتها:
  أنا مش مصدّقة الكلام اللي بتقوليه…
هي عرفت تغسلك دماغك.
خلاص… بقينا في زمن البدع، الحرام حلال، والحلال حرام.

أثير خفضت عينيها وهمست بصوت مكسور:
  أنا عارفة يا خالتي… عارفة الكلام ده كويس.

تحيّة، وقد اشتد غضبها:
  مدام عارفة، بتدافعي عنها ليه؟!

 مش بدافع… أنا بس بحاول ألاقي ليها عذر.
يمكن تكون تايهة، يمكن ربنا يهديها في يوم…
ادعي لها يا خالتي… ادعيلها من قلبك.

تحيّة نظرت إلى أثير طويلًا، ثم قالت بصوت خافت لكنه صادق:
  أنا والله بدعي لكوا أنتو الاتنين…
قلبي بيتقطع عليكم.
ربنا يهدي أسيل، وترجع عن السكة اللي ماشية فيها.

لكن فجأة…

سكتت تحيّة.
تجمّد الكلام على لسانها.
عيناها اتّسعتا فجأة وهي تبصّ ليحيى، اللي كان هادي لأول مرة طول الجلسة.
نظرتها ما كانتش عادية… فيها دهشة، ارتباك، وتساؤل دفين.

أثير لاحظت التغيير في ملامح خالتها، وقالت بتوجّس:
مالك يا خالتي؟
بتبصي ليحيى كده ليه؟

لكن تحيّة ما ردّتش… كانت بتراقب ملامح الطفل، كأنها شافت..

توقّعاتكم لحلقة بكرة؟
يا ترى…
هل في سرّ مخفي عن نسب الطفل؟
ولا يحيى قال أول كلمة… وكانت صدمة؟

 هل لحظة الصمت دي هتكشف بداية خيط لقلب الحكاية؟!

بانتظار آرائكم…
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top