رواية حتى بعد الموت الفصل 83

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 83

كان انطباع أحمد عنها لا يزال راسخًا كما هو، لم يتغير منذ تلك الحاډثة التي وقعت قبل أيام قليلة، حينما فقدت أعصابها ورشقت عليه قدرًا من العصيدة في لحظة غضبٍ عارم. بدت آنذاك كقطة شرسة، تنقض على فريستها دون تفكير، تعابير وجهها مشټعلة بالحنق، وصوتها كان مليئًا بالڠضب والټهديد.

أما الآن، فقد كانت مختلفة تمامًا. وقفت أمامه برأسٍ منكّس، تائهة النظرات، تتململ في مكانها وتنتقل بقلقٍ ظاهر من قدمٍ إلى أخرى. كان الارتباك يكسو ملامحها، وكأنها تقف أمام قاضٍ بانتظار حكمه.

شعرت نوران بقلقٍ داخلي وهي تحاول تجاوز حالة الحرج التي اجتاحتها تحت عينيه الثاقبتين، واللتين كانتا تراقبانها كما لو كانتا تكشفان ما تخفيه نفسها. همست بصوتٍ خاڤت تحاول أن تخفي ارتجافه:
“أريد أن أطلب منك…”

قاطعها بابتسامة جانبية لا تخلو من السخرية، قائلاً بنبرة متعجرفة:
“الفضل؟”

ضحك وهو يجلس متربعًا، يسحب سېجارة من علبته المفضلة، يبطئ في إشعالها وكأنه يستمتع باللحظة. كانت ضحكته تحمل في طياتها تهكمًا واضحًا، وتعبير وجهه لم يكن يُخفي استهزاءه.
“وماذا تريدين هذه المرة؟” سأل ببرود.

في تلك اللحظة، كان جيسون ييتس، الشاب الثري الذي يتبعهم بنظراته المتفحصة، يقف على مقربة منهما. كانت لديه قدرة خاصة على ملاحظة الفروقات الدقيقة في تفاعلات الآخرين، وتمكّن ببراعة من إدراك التغيّر الطفيف في تعامل أحمد مع نوران، ذلك التغير الذي لم يكن ليمرّ عليه دون تعليق.

اقترب منهما قائلاً بصوتٍ ملؤه العبث والسخرية:
“لا أحد في هذا العالم لا يرغب في التوسل لمساعدة السيد القيسي. أيتها الآنسة، أهذا هو الأسلوب الذي تلجئين إليه عندما تطلبين المساعدة؟ أسرعي، أشعلي سيجارته، فهذا أقل ما يمكن تقديمه له.”

أشار جيسون نحوها بيده، طالبًا منها الوقوف إلى جانب أحمد. وكان الأخير مستندًا بلامبالاة إلى كرسيه، متكئًا براحة وكأن الأمر لا يعنيه في شيء.

رغم ما كان بينهما من مشاحنات دامت لعامين كاملين، والتي لم تكن تخلو من الكلمات اللاذعة والسخرية المتبادلة، فإن أحمد كان يتمتع في تعامله معها بدرجة غير معتادة من الأدب وضبط النفس. لم ېدخن يومًا أمامها، احترامًا لها، أو ربما عنادًا.

أما الآن، فقد بدت عليه ملامح استرخاء مختلفة، ياقته مفتوحة، والزران العلويان من قميصه مفكوكان. انعكس الضوء الخاڤت على تقاطيع وجهه الحادة، فأضفى عليه هالة من الجاذبية والهيبة.

في خضم توترها، بحثت نوران عن ولاعة، يدها ترتجف قليلًا. وما إن التقت نظراتها بنظرته العميقة، شعرت كما لو أنها تُحاسب أمام قاضٍ داخلي، يحكم عليها بصمت. لكنها لم تُعر ذلك اهتمامًا. جلست على الأريكة بركبة واحدة، منحنية للأمام لإشعال السېجارة.
كانت في موقف أقل منه، وقد بدا عليها التواضع بل والخضوع.

حينما اشتعلت شعلة الولاعة، أضاء وهجها وجه أحمد للحظة، فرسمت ابتسامة باهتة على شفتيه، ربما لأسباب لم تفهمها هي.

قال بصوتٍ فيه لمحة من التهكم:
“ألم تقولي ذات يوم إنك تفضلين القفز من الطابق السابع على أن تطلبي مساعدتي؟”

كانت كلماته مثل سهمٍ يخترق كبرياءها. لم تتوقع يومًا أن يتورط والدها في أمرٍ يدفعها للجوء إلى أحمد، ولم تكن لتتصور أن تكون في موضع كهذا. ومع ذلك، لم يكن لديها ترف الاستغراق في التفكير أو الاهتمام برأيه فيها، فقد كانت الأولوية لإنقاذ والدها.

ردت بصوتٍ خفيض، ونبرة حاولت أن تجعلها وديعة:
“أنت رجلٌ كريم يا سيد القيسي، وأنا واثقة أنك لن تغضب من مسألة بسيطة كهذه.”

كان جيسون يراقب المشهد بعيونٍ لامعة. أفكاره بدأت تأخذ شكلها، يتأمل في سلوك أحمد الذي بدا مختلفًا عن المعتاد. لم يكن يسمح للنساء بالاقتراب منه، لكن هذه المرأة — رغم ملابسها المتحفظة — بدت استثناءً.

صبّ جيسون ثلاثة كؤوس من الشراب، وضعها أمام نوران، ثم نقر بأصابعه على الطاولة قائلاً بنبرة حاسمة:
“هكذا تجري الأمور هنا.”

تجمدت ملامح نوران. كانت تعلم أن نصف كأسٍ من كفيل بجعلها تغيب عن الوعي، فكيف بثلاثة؟

نظرت إلى أحمد برجاء، لكنه قال وهو يسند ذقنه بيده:
“ما العذر الذي ستقدمينه هذه المرة؟ هل هو شعورك بالحرج؟ أم أنك مريضة بطريقة ميؤوس منها؟”

كانت كلماته مليئة بالسخرية، يعرف تمامًا ضعفها أمام الكحول، لكنه اختار أن يجعل الموقف أكثر تعقيدًا، وكأنّه ينتقم منها على طريقته الخاصة.

ارتجفت أنفاسها وهي تتذكّر كيف كان يمنعها من الاقتراب من الشراب في الماضي، كيف كان يضع حدودًا لا تُمسّ. لكن كل شيء تغير الآن.

بثقة مضطربة، أمسكت بالكأس الأولى، ورفعتها إلى فمها، ثم شربت ما فيها دفعة واحدة. لم تكن معتادة على الشراب، ولم تكترث بجودته، كل ما أحست به هو لهب اشټعل في حلقها.

لم يكن ذلك مجرد إحساس بالحړق، بل كان ألمًا حقيقيًا يمتد إلى معدتها، ينهشها من الداخل.

اختلط العرق بحرارة جسدها، فشعرت بثقلٍ في ملابسها التي بدت وكأنها تحبس الحرارة داخلها. ضغطت على بطنها پألم، بينما مدت يدها نحو الكأس التالية…

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 84

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top