رواية خلف ضلوعي امرأة مكتملة جميع الفصول بقلم أسماء حميدة (الفصل الأول

الفصل 1

كان ضوء الفجر يتسلل من بين ستائر الغرفة كخيوطٍ شفّافةٍ من الذهب الخاڤت يراقص الغبار العالق في الهواء ويبعثره في صمت.

الغرفة غارقة في فوضى تشبه أثر عاصفة مشاعر قد اجتاحت المكان ثم هدأت على استحياء تاركةً خلفها رائحة عطرٍ باهتٍ ووشوشات الليل التي ما زالت تتردد في الأرجاء كصدى خاڤت.

استفاقت “نينا” من غفوتها الثقيلة كأنها خرجت للتو من حلمٍ مشوَّشٍ اختلط فيه الواقع بالوهم.

أغمضت عينيها لثوانٍ ثم فركت صدغيها بأطراف أناملها المرتجفة كأنها تحاول محو ما لا يُمحى… جسدها كله يتلظى بأنين خاڤت يسكن العضلات والعظام كأن كل خلية فيها تروي حكاية صامتة عن الليلة الماضية.

أدارت رأسها لتقع عيناها على الرجل النائم بجوارها… طويل الجسد كأن قامته كتبت على وترٍ موسيقي، ووجهه… يا إلهي، ذلك الوجه! وسامة صنعت بيد نحاتٍ مچنون بالجمال، ملامح حادة كنصلٍ بتار، وعينان غائرتان حتى في نومه كأنهما تخبئان أسرار ممالك بعيدة.

لم يتحرك بل كان غارقًا في نومٍ عميق كأن الليل التهمه ولم يعيده بعد.

جلست نينا بهدوء، فانزلقت الملاءة عن كتفيها كوشاح حريري يتمرّد على البقاء ومن ثم ظهرت علامات باهتة على جلدها الأبيض كأثر عناقٍ ناريٍ لم تعرف له اسماً… مرّرت يدها بخفة على موضعها تتلمس الألم والشوق في آنٍ واحد.

نهضت على مهلٍ من السرير وقد تلونت الملاءات ببقعٍ قرمزيةٍ كأنها أزهار ذابلة.

داست على الأرض بحذر تجمع بقايا مهنيتها المبعثرة هنا وهناك؛ تنورة معلقة على الكرسي، قميص مسند عند عتبة السرير، وحذاء ينتظرها بصبرٍ تحت الطاولة.

رفعت عينيها نحو الساعة… الزمن يسابقها كعدوٍ خفي… لقد تأخرت.

التقطت ملابسها وبدأت بارتدائها بسرعةٍ مرتجفة.

زفرت نينا بضيق عندما رأت الجوارب ممزقة وكأنها شاهدة على ما حدث، كورتها بغيظٍ وألقتها في سلة المهملات ثم وقفت على أطراف قدميها وانتعلت حذاءها العالي كفارسة تستعد لخوض معركة لا تعرف من فيها ضد من.

تأملت نفسها في المرآة للحظة… امرأة خرجت من بين رماد العاطفة تحاول ارتداء قناع الاتزان من جديد… في عينيها حيرة وفي قلبها دوامة… لم تكن نينا نفسها بل نسختها التي نجت من سحر الليل وتحاول الآن أن تتذكر كيف كانت قبل أن تضيع.

دقات قلبها في تزايد حتى غطتت على صوت طرق خاڤت على باب الغرفة كأنها خفقات قلبٍ مذعورٍ من انكشاف السرّ.

تنفست “نينا” بعمق وها قد استعادت قناعها المهني البارد، ذلك الذي ترتديه كل صباح لتخفي تحته أنثى تتقلب مشاعرها بين الاحتراق والجمود… بدت أنيقة كعادتها، مرتبة في مظهرها إلى حد الكمال، تحمل حقيبتها الجلدية كأنها درع واقٍ من عيون العالم، وتهيئ خطواتها للخروج من مسرح الچريمة العاطفية بصمت قاټل.

انفتح الباب على هدوءٍ مريب، ومن ثم دخلت امرأة ذات جمال صاخب، كأنه مصنوع من الضوء والغرور. جسد ممشوق، وعطر ثقيل يسبقها بخطوتين… جمال من ذلك النوع الذي يُجيد “ناش” تذوقه دون أن يتورط في معناه.

رفعت نينا عينيها نحوها وفي نظرتها مزيج من سخرية مستترة واحتقار لا يحتاج إلى كلمات… ثم نادتها بنبرة هادئة لكنها مشبعة بالاحتراق:

“عليكِ فقط أن تنتظري السيد ناش حتى يستيقظ… لا حاجة لأن تقولي شيئًا… هو يعرف تمامًا كيف يُكمل البقية.”

الكلمات خرجت منها باردة كالسكاكين، ولكن هي من ټنزف من الداخل… أجل فقد شعرت نينا بوخزٍ في صدرها وهي تلقي النظرة الأخيرة على الرجل الممدد فوق السرير… “ناش”… ذلك الوسيم، الغامض، البارد كالثلجٍ يُذيبك دون أن يشعر بك… كان غارقًا في نومٍ عميق أو في تجاهلٍ أعمق.

مرارة سوداء انسابت في عروقها كسمّ بطيء… أرادت أن تصرخ، أن تهزه حتى يفيق ويقول شيئًا… أي شيء حتى لو كان كذبًا لكنها لم تفعل بل تركت خلفها الغرفة وعبير الليلة الماضية وماضيًا لا يشبه المستقبل بشيء.

جل ما كانت نينا تريده أكثر من أي شيء… هو أن ينسى.

أن ينسى أنها كانت هنا، أنها منحته جسدها وربما قلبها دون أن تنتبه. لقد كانت تلك هي الليلة الأولى، وربما الأخيرة في عينيها على الأقل… بالطبع فبينها وبين “ناش” اتفاق كُتب بالحبر الجاف على الورق ولكن بالحبر السري على القلب.

زواج سري دام ثلاث سنوات بعد سبع أخرى من التلمذة العاطفية خلف مكتبه كسكرتيرة لا تفوّت وقع أنفاسه… ثلاث سنوات من زواجٍ بلا حُب، بلا قبلة مُعلنة، بلا اشتياق مسموح… فقط لعبة هادئة تُمارس في الخفاء يُنسى فيها القلب عمدًا.

“ثلاث سنوات، ثم انفصال. بلا دموع، بلا ماضٍ يُطاردنا، بلا تفاصيل تؤلم.”

هكذا قال لها ناش حين عرض الزواج لأول مرة دون أن يرمش… وللأسف قبلت نينا عرضه فمنذ أن خرجت من قاعة تخرّجها كانت ظلّه… لم تفارقه، ولم تكن بحاجة إلى ذلك؛ كان حضور “ناش” يملأ المكان كما يملأ الليل سماءه لكنها في يومها الأول حين وقفت أمامه في المكتب، قال لها:

“لا تنسي… أنا رئيسكِ، ولست شيئًا آخر.”

ولم تنسَ. لكنها أخطأت فقط في شيء واحد… نسيت كيف تُطفئ قلبها.

ظلت نينا واقفة عند نافذة الممر كتمثالٍ من القش، تراقب المارة بالخارج كمن يبحث عن نفسه في الزجاج لا في الطريق… بدا الهواء ساكن كأن الكون ذاته يحبس أنفاسه احترامًا لما يتلاطم داخلها من صراخٍ صامت… كانت أفكارها عالقة بين طيات الليلة الماضية لا تبارحها… تلك اللحظة التي احتضنها فيها وكأنها ملاذه الأخير لكنه نطق اسمًا لا يمتُّ لها بصلة.

“ميرا…”

اسم انطلق من شفتيه كطعنةٍ لا صوت لها واستقرت في قلب “نينا” كوشمٍ لا يُمحى… قُبِض قلبها في عڼف وكأن في داخلها آلةً تتحطم ببطء وتعيد تشكيل نفسها في كل ثانية، ثم تتحطم من جديد… لم يكن يُراها، لم يكن يُلامسها… بل كان يُعيد صناعة ميرا من بين ضلوعها… نينا بالنسبة إليه كانت مجرد شبحٍ بديل، جسدٌ استعاره ليبكي فيه على أنقاض حبٍ قديم وذكرى تأبى أن تُدفن.

نظرت نينا إلى الأرض للحظات ثم إلى السماء عبر الزجاج… كأنها تطلب من القدر تفسيرًا أو على الأقل إشارة… لقد فهمته أخيرًا… “ناش” لم يُرد منها شيئًا سوى أن تكون المسافة المؤقتة بينه وبين الفراغ.

ذلك الزواج الذي حملته على ظهرها بثقل الإخلاص لم يكن إلا مسرحية صامتة كانت هي الممثلة الوحيدة التي صدّقت النص… الليلة الماضية لم تكن عناقًا… بل وداعًا متنكرًا في صورة اقتراب… الليلة الماضية كانت الفصل الأخير من كتابٍ خُط منذ ثلاث سنوات وغُلف بالأكاذيب اللامعة والوعود الرمادية.

امتدت يدها إلى هاتفها بحثًا عن مهربٍ سريع من زحام عقلها ولكن العنوان الذي قفز على الشاشة كان كفيلًا بأن يُسقِط قلبها في قدميها:

“المغنية الصاعدة ميرا تعود إلى المنزل برفقة خطيبها الجديد!”

تجمدت أصابعها حول الهاتف كأنها تخشى أن يسقط منها فينكشف ضعفها.

امتلأ صدرها بمرارة كثيفة، تلك التي لا تُبكى بل تُبتلع. وهنا… جاء الإدراك كصڤعة مباغتة على خدّ القلب.

الآن فقط فهمت… لماذا غرق في المشروب الليلة الماضية، لماذا كان صوته يرتجف وهو يبكي بين ذراعيها كطفلٍ فقد أمه.

لم يكن يبكي من أجلها… بل من أجل امرأةٍ لم تعد له.

ريح باردة انسلّت من شقوق الممر كيدٍ شفافةٍ تمسح على جبينها، فأغمضت عينيها وابتسمت ابتسامة ليست إلا قناعًا لجرحٍ مفتوح.

أبعدت الهاتف ببطء كأنها تلفظه من كيانها ثم فتحت حقيبتها وسحبت منها علبة سجائر سوداء بنقوشٍ ذهبية تشبه توابيت الأسرار.

أخرجت سيجارةً وأشعلتها بهدوء ثم حملتها بين سبابتها ووسطاها النحيلتين كما تحمل آهاتها… وتنفست دخانها ببطء كأنها تمتص ما تبقّى من لحظتها الأخيرة معه.

ارتفع الدخان وتراقص حول وجهها الجميل، ذاك الوجه الوحيد الذي لم يره أحد كما رآه “ناش” لكنه اختار أن يراه مشوشًا… مغطّىً بضبابٍ كثيف ككل شيءٍ فيها.

في تلك اللحظة انشق الزمن عن صوت لاهثٍ يأتي من آخر الممر كأن الهواء ذاته يُطارده… وإذا به “تايلور” يهرول حاملاً على وجهه قلقًا مشوبًا برغبةٍ في النجاة، وقال بصوتٍ يقطعه لهاثه:

“نينا… وصلت بدلة السيد ناش، سأُحضرها فورًا.”

تبعثرت أفكار “نينا” في الهواء كما تتناثر أوراق شجرةٍ ضړبتها ريحٌ مفاجئة، ومن ثم التفتت برأسها في بطء وكأنها تنتزع جسدها من قيدٍ غير مرئي، ورمقته بنظرةٍ سريعة، وقالت بصوتٍ ناعمٍ لكنه مغمور بالحزم:

“انتظر.”

تجمد “تايلور” في موضعه كتمثالٍ صغير من الذعر وعيناه تحاولان قراءة ما وراء وجهها.

“هل… هل هناك شيء آخر، نينا؟” سأل تايلور بصوتٍ متردد كطفلٍ خائڤ من العقاپ.

رفعت نينا عينيها إليه، ونظراتها تشعان بيقين من يعرف كل ما يُخفيه الآخرون.

“بدل الأزرق بالأسود. هو لا يحب الأزرق… يراه لونًا باهتًا لا يليق به… احضر له ربطة عنق مخططة، وأعد كيّها بدقة… لا تجاعيد يا تايلور، ولا تنسَ، لا كيسًا شفافًا… هو يكره صوت البلاستيك، يذكّره بالفراغ… علّقها على علاقة خشبية وأرسلها… لا مزيد من الأخطاء.”

كانت كلماتها تنساب بهدوء القائد المحنّك الذي يعرف كل زوايا المعركة حتى وإن لم يُشارك فيها بنفسه… فـ “نينا” لم تكن مجرد سكرتيرة بل كانت ذاكرة “ناش” الخارجية، قلبه الذي لا يعترف به، عيناه حين يغمضهما عن العالم.

أومأ “تايلور” بسرعة وقد ارتسم على وجهه ارتباك طفولي وركض لتنفيذ الأوامر… فخلال الأشهر الثلاثة الماضية لم يحتج وقتًا طويلًا ليعرف أن خطأً بسيطًا أمام “ناش” قد يُكلّفه حياته المهنية… وربما ما هو أكثر.

“شكرًا لك نينا…” قالها تايلور كمن ينجو من الحافة.

لكن صمت اللحظة لم يدم طويلًا فقد تمزّق بهديرٍ خاڤت كغضبٍ يتصاعد من باطن الأرض.

جاء الصوت من جناح “ناش” تلاه أمرٌ جاف حاد كالسوط:

“اخرج!”

ثم انبعثت صړخة امرأة مذعورة حادة النغمة مخټنقة بالخزي… وبعد لحظات انفتح الباب، كأن شيئًا ما هرب منه للتو.

خرج “تايلور” ووجهه شاحب وعيناه محمرتان كمن لُسع من الداخل يجرّ خيبته خلفه كظل ثقيل… وعلى ما يبدو أن “ناش” قد أمطره بتوبيخٍ لا يقلّ عنفًا عن الإعصار ثم نظر إلى نينا وكأنه يستجدي حبل نجاة:

“نينا… قال السيد ناش إنه يريدكِ أن تأتي.”

رفعت عينيها نحو الباب الذي صار فمًا مفتوحًا على چحيم لا يُرى… للحظة شعرت هي الأخرى بشيءٍ يرتجف في صدرها… لم تكن تخافه بل تخاف أن تراه على حقيقته.

“انزل أنت أولًا.” قالتها نينا بنبرة مُتّزنة ثم أطفأت السېجارة في المنفضة ووقفت.

خطواتها نحو الجناح كانت كمن يسير على جسرٍ من الزجاج فوق هاوية.

وحين بلغت عتبة الجناح وجدت الداخل أشبه بساحة حربٍ عبثية… كل شيء كان مشبعًا بالفوضى… مصباح الطاولة محطم، الشاشة تشققت كجبينٍ قديم يعاني من ذكرى لا تُشفى، والهاتف لا يزال يهتز كقلبٍ ېصرخ في صمت.

وفي زاوية الغرفة كانت المرأة التي استقدمتها بالأمس تقف عاړية، متجمّدة كتمثالٍ من الذنب… لم تكن تبكي… لم تكن تتحدث… فقط كانت تنظر إلى الأرض بعينين تائهتين تشعّ منهما الخطيئة والخۏف في آنٍ واحد كمن أُمسك بنصف چريمة.

وناش… لم يظهر بعد لكن الغرفة وحدها كانت تروي القصة.

مرّت لحظات ثقيلة كأنّ الزمن ذاته كان يزحف على جراحه داخل الغرفة المتكسّرة… ثم وفي تلك الزاوية المعتمة، على حافة السرير، جلس “ناش” وكأنه قطعة رخام نُحتت من غضبٍ خفي.

كان جسده منحوتًا كتمثال إغريقي يحمل في تضاريسه آثار سنين من الصراع بين التمارين والفراغ، بين الحضور القاسې والغياب الموجِع.

عضلاته مشدودة، منحوتة كصخرٍ تحدّاه الزمن ولم يفلح في كسره، صدره عريض، وسيماءه الرجولية تتكامل بخطٍّ خاڤت من الجاذبية يختبئ أسفل الملاءة وكأن جسده يُعلن سيطرته بصمتٍ لا يحتاج لعرض أو تباهٍ لكن رغم كل هذا الكمال الجسدي كان وجهه مرآة لروحٍ متمزقة.

ملامحه غارقة في الظلال، عيناه تقدحان شررًا خافتًا يتراقصان على حافة الانفجار كجمرتين تتوعدان الليل بالاحتراق.

تقدّمت “نينا” نحوه بهدوء امرأة تعرف كيف تُروّض العاصفة… ومن ثم انحنت قليلًا لتلتقط المصباح المهشم من الأرض، وأعادته إلى مكانه كأنها تعيد ترتيب الفوضى التي تركها قلبه.

ثم سكبت كوبًا من الماء بيد ثابتة ووضعته على الطاولة بجانبه، وبصوت ناعم كنسيم يُلامس خدّ الجمر قالت:

“السيد ناش… هناك اجتماع في التاسعة والنصف، يمكنك أن تستيقظ الآن.”

لم يُجِب.

ظلت عيناه معلّقتين بتلك المرأة التي لا تزال واقفة في منتصف المسافة بين الجسد والخۏف… كان ينظر إليها كما ينظر من نُكِب بذاكرته لا يُصدّق ما تراه عيناه… وكأن وجودها نفسه خدعة سحرية أفسدت طقسه الداخلي.

شعرت “نينا” بتلك النظرة الحادة التي تشقّ اللحظة كحدّ السکين فتنهدت في صمتٍ، ثم قالت ببرود مدروس وبنبرة حيادية لكنها قاطعة:

“بإمكانكِ المغادرة الآن.”

هزّت المرأة رأسها سريعًا كمن يُمنح عفوًا غير متوقَّع ثم التقطت ملابسها المبعثرة كمن يجمع شظايا كرامته وغادرت بخفة ظلّ مذعور دون أن تنبس بكلمة ودون أن تلتفت خلفها.

ثم سقط السكون على الغرفة.

سكونٌ غريب لا يشبه الهدوء بل يشبه ما بعد العاصفة حين تُلملم الطبيعة أنفاسها ويهمس الحطام بما لا يُقال… وكانت “نينا” واقفة هناك… كأنها آخر شاهد على سقوط إمبراطورية من الذكريات.

أدار “ناش” رأسه ببطء نحوها وعيناه كسهمين ثقيليْن انغرزا في ملامحها.

كانت نينا ما تزال واقفة تُناوله كوب الماء كأنها تمدّه بطوق نجاة من غرق داخليّ لا يراه أحد سواها.

وضعت القميص بعناية فوق السرير وكأن صوت قماش القطن يهمس على المرتبة كما لو أنه يعرف سرّ الليلة السابقة، ومن ثم قالت نينا بصوت رتيب لا يحمل سوى الانضباط:

“سيد ناش يمكنك تغيير ملابسك الآن.”

لكن عينيه كانتا تقولان شيئًا آخر…
ظل ناش عابسًا كأن التعبير نفسه خُلق من جبينه، وقال ببرودٍ مشبع بالتوجس:

“أين كنتِ الليلة الماضية؟”

ارتجفت اللحظة داخلهما… بينما صُدمت نينا إذ لم يكن السؤال بحد ذاته هو ما أربكها بل التهمة الخفية خلفه.

هل يظنّ أنها تخلّت عن حراسته، فسُرقت منه نفسه؟

هل يلومها على تركه فريسة لسكرٍ جلب له امرأة لا تعرف إلا انعكاس ميرا في مرآته؟ بل هل يدري أنها هي نفسها تلك المرأة؟

أغمضت عينيها لبرهة وكأنها تُعيد ترتيب أفكارها تحت عاصفة من الۏجع ثم قالت بنبرة هادئة أقرب إلى الهروب المغلف بالحكمة:

“كنتَ ثملاً يا سيد ناش… كانت مجرّد لحظة طيشٍ، لا تحتاج إلى التأمل… نحن راشدون، والليلة مضت كما تمضي الأحلام الغريبة مع بزوغ النهار.”

كانت كلماتها تحمل وعدًا غير منطوق بأنها ستتحمل عبء تلك الليلة عنه وبأنها ستغلق الباب جيدًا حتى لا تتسرّب منه ذكرياتها.

لكن عينيه لم تُهدأ بل كان يحدّق بها وكأنها مرآة مشروخة يرى فيها وجهه ووجهها ووجه ميرا والخذلان بأكمله.

برزت عروق الڠضب في جبينه وكرر بجمودٍ مثقّل بالعاصفة:

“سأسألكِ للمرة الأخيرة… أين كنتِ الليلة الماضية؟”

ارتبكت إذ لم تكن تتوقع أن يحاصرها هكذا في ركن الإجابات التي لا تملكها.

“كنتُ في المكتب… هناك بعض المشاريع المرهقة مؤخرًا… فقررت أن أبقى للنوم هناك.”

قالتها بصوتٍ خافتٍ كما لو أنها تعترف بخېانة من نوعٍ آخر… خېانة نفسها.

لكن “ناش” ضحك ضحكة قصيرة ساخرة كشهيق حادّ من جليد… ومن ثم ارتسم البرود على وجهه، وانكمشت شفتاه كما لو أن الكلام ذاته بات عبئًا.

نهض من السرير بعينين خاليتين من اللهفة، وأمسك بمنشفة ولفّها حول جسده الذي لم يكن ليبدو يومًا بهذا البُعد.

راقبته نينا وهي تحدّق في ظهره كمن يودّ أن يلمسه للمرة الأخيرة دون أن يُثير الريح.

كل شيء فيه كان يبتعد… حتى وهو أمامها… ولما العجب ففي حضورها كان يلبس قناعًا زجاجيًّا لا يُظهر سوى احتقاره لصورتها في عينيه لكن ليلة أمس… حين ناداها باسم “ميرا” كانت شيئًا آخر… امرأة يحبّها ولو من خلف ستار الحنين.

عندما انتبهت من شرودها كان ناش قد خرج من حمّامه، واقفًا أمام المرآة الكبيرة كأنّه يتهيأ لمعركة جديدة مع يومٍ آخر… ومع قلبٍ لا يريد الاعتراف أنه ڼزف بالأمس.

اقتربت نينا بخطى خفيفة كأنها تسير على نصل الذكرى… وكعادتها تولّت أمر قميصه… تلك الطقوس الصغيرة كانت بالنسبة إليها صلاةٌ صامتة تؤديها كل صباح رغم كل المناوشات التي تحدث بينهما في المساء.

كان ناش طويل القامة، يبلغ من الطول ما يجعل ظلّه يبتلع ضوء الغرفة ١.٨٨ مترًا من التصلّب والعناد والندم… بينما لم يتجاوز طولها ١.٦٨ مترًا من الانكسارات الأنيقة.

ورغم السنين ظلّ هندمت رابطة عنقه معركة بين قامتها وقامته وبين صمتها وصراخه الداخلي.

اقتربت أكثر… ومن ثم مدّت يديها ووقفت على أطراف أصابعها كأنها تحاول الإمساك بحبل النجاة المعلّق في سقف القدر… لفّت الرابطة حول عنقه بأنامل ترتجف قليلًا ولكنها خبأت ارتجافها بين طبقات الحرير والخيط.

أما هو فقد كان واقفًا كتمثال من حجر الندم، وجهه متجهّم، لكنه لا ينظر إليها بل إلى نقطة غامضة في اللاشيء كأنما يعاقب نفسه بصمته، يجلد ذاته على خطيئة لم يُردها وعلى خيانةٍ بل غرقًا في وهم امرأة تُشبه أخرى.

عيناه تنطقان بالڠضب، لا منها بل منه…
من ذلك الإنسان الذي انهار بالأمس وسقط من قمة الغطرسة إلى حضنٍ لم يكن له… لكنه كان دفئًا.

وفجأة وهو يشمّ رائحتها القريبة… تلك الرائحة التي تتسلل إليه كقصيدة تُقرأ في الظلام لامست أنفاسه الدافئة طرف أذنها وتسلل صوته من بين شفتيه مبحوحًا كاعترافٍ خجول خرج من قاع الندم:

“نينا… تلك المرأة الليلة الماضية… كانت أنتِ، أليس كذلك؟”

خلف ضلوعي امرأة بقلم أسماء حميدة، لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top