الفصل 136
تجنّبت شيهانة الضربة برشاقة، وردّت بركلة محكمة أصابت هدفها بدقة. ترنّحت ورد ثم سقطت أرضًا، فيما هوى الكرسي الذي كانت تلوّح به على بُعد شعرة من رأسها!
صرخ شهد وهو يزحف نحو والدته بلهفة:
“أمي! هل أنتِ بخير؟”
رفعت ورد نفسها ببطء، وهي تشد على أسنانها ألمًا وغضبًا.
“أنا بخير… شهد، اتصلي بالشرطة حالًا! هذه الحقيرة اقتحمت منزلنا واعتدت علينا! أبلغي عنها فورًا!”
“حاضر…” أخرجت شهد هاتفها بسرعة واتصلت برجال الشرطة دون تردد.
اعتقدت شهد أن شيهانة وقعت في الخطأ القاتل. وقعت في الجانب الخاطئ… الجانب الذي يعاقب عليه القانون. ولا مفرّ من العواقب.
ورغم أن شهد أصيبت بجروح سطحية، إلا أن قلبها كان يغمره شعور غامر بالانتصار.
أخيرًا، صار لديهم دليل ملموس يمكنهم استخدامه لإسقاط شيهانة!
لكن الأخيرة اكتفت بابتسامة ساخرة وقالت ببرود:
“اتصلتِ بالشرطة… لتسلّمي نفسك؟”
تجمّد إصبع شهد في الهواء، فيما اتسعت عينا ورد ذهولًا.
ما الذي تقصده؟!
تقدّمت شيهانة بخطى ثابتة، وارتسمت على شفتيها ابتسامة باردة تنذر بالخطر. ثم قالت بصوت لا يخلو من التحدّي:
“الأمر واضح… مؤامرتكم لارتكاب جريمة قتل جماعي انكشفت، وجميع الأدلة تُدينكم.”
تبادلت شهد وورد النظرات، وقد ارتسم الذهول على ملامحهما، وتسلل الارتجاف إلى قلبيهما.
هل حقًا انكشف الأمر؟
لكن كيف؟!
لم تكن النبرة الحاسمة التي نطقت بها شيهانة توحي بالكذب أو التلاعب.
ومع ذلك، كانت ورد على يقين تام أن “بلاك ثري” لن يُفشي سرهم، مهما حدث.
رفعت ورد رأسها متحدّية، وقالت بصوت ثابت:
“عن أي مؤامرة تتحدثين؟ يا شيهانة، هذه افتراءات بشعة! وإن لم يكن لديكِ دليل قاطع، فسأقاضيكِ بتهمة التشهير.”
تدخّلت شهد بغضب:
“نعم، أظهري لنا الدليل إن كنتِ صادقة!”
كانت خطتهما واضحة: الإنكار التام، والتظاهر بالبراءة.
لكن شيهانة ابتسمت بازدراء، وقالت:
“أتظنانني جئت إلى هنا خالية الوفاض؟ ورد… لقد اعترف ثري بلاك بكل شيء. أنتِ السبب خلف الحادث الذي وقع لي منذ سنوات، وأنتِ من دبّرت محاولة القتل الليلة. لقد خانكِ.”
شهقت ورد، وشحب وجهها في الحال. تمتمت بصوت مرتجف:
“هذا مستحيل… لا أعرف أحدًا يُدعى ثري بلاك، لا فردًا ولا اثنين ولا حتى اسمًا مستعارًا! وبالتأكيد لا علاقة لي بأي أنشطة غير قانونية! إن كنتِ صادقة، أحضريه الآن ليواجهني… وإلا سأقاضيك حتى النهاية!”
كانت واثقة أن “بلاك ثري” لن يخذلهم. لقد وعدها بنفسه.
كان مستعدًا أن يموت على أن يُعرّض ابنته “الثمينة” للخطر.
لا… لا بد أن شيهانة تنصب لهم فخًا.
يجب ألّا تنجرف خلف هذا الوهم!
وكأنها قرأت أفكارها، قالت شيهانة بنبرة هادئة تقطر سخرية:
“أظنّكِ تظنين أنه يفضل الموت على أن يبيعكِ؟ للأسف… لقد علم بالحقيقة. شهد… ليست ابنته.”
كأن قنبلة انفجرت في رأس ورد. تجمدت أفكارها، وتبعثرت كقطع زجاج.
ماذا قالت لتوّها؟
هل يعقل أن يكون ذلك صحيحًا؟
كيف اكتشف الأمر؟!
قالت بعصبية وهي تهز رأسها نفيًا:
“لا… لا أعلم عن أي شيء تتحدثين، أنتِ تهذين بكلام فارغ!”
لكن نبرة القلق التي تسللت إلى صوتها فضحت اضطرابها.
اقتربت شيهانة خطوة أخرى، ونظراتها تزداد قسوة:
“تريدين أن تعرفي كيف عرف؟ دعيني أساعدكِ… أنا من أرشدته إلى السجلات. لقد اطلعتُ على ملف الطبيب الذي دفعتهِ لرشوة وتزوير نتائج اختبار الأبوة. ومررنا بمنزل الطبيب قبل مجيئنا، وقد استخدم بلاك ثري طرقه الخاصة… وانتزع منه الحقيقة.”
الفصل 137
لم يعد هناك من سندٍ أو دعم.
إذا وصلت شيهانة إلى هذا القدر من الدقة في التفاصيل، فلا شك أن الحقيقة قد كُشِف عنها الستار…
لقد انتهى كل شيء.
ارتجف وجه ورد، وقد بدت على ملامحها لمحة من الانكسار، فيما تحركت شفتيها المرتعشتان دون أن تخرج منهما كلمة واحدة.
شهد، التي كانت تراقبها عن كثب، أدركت ما لم يُقال.
نعم، لقد انتهى الأمر… تمامًا، وبلا رجعة.
وقفت الأم وابنتها في ذهولٍ تام، وقد سقطت عنهما أقنعة الكبرياء، وانهارت كل مظاهر الغطرسة السابقة.
في تلك اللحظة، لم تكونا سوى كائنين مذعورين، كخنزيرين صغيرين ينتظران نصل الجزار.
همست شهد وهي تمسك بذراع والدتها، وصوتها بالكاد يخرج من بين شفتيها المرتجفتين:
“أمي… ماذا نفعل الآن…؟”
هكذا إذًا… هكذا يشعر الإنسان حين يشهد انهيار عالمه، قطعةً قطعة، دون أن يملك القدرة على إصلاح شيء.
كانت ورد عاجزة عن تقديم العزاء، ليس فقط لأنها لا تملك جوابًا، بل لأنها هي ذاتها غارقة في حيرتها.
كل شيء انهار، حتى هذا الذي وعدهم بالحماية، باع سرّهم عند أول مفترق.
“ثري بلاك”… خان العهد، وتخلى عنهم.
فماذا تبقّى؟ وماذا يُمكن فعله؟
حدّقت “ورد” في “شيهانة” بنظرات متوترة، وقد علا صوتها المنهك والمتهالك بالإنكار:
“من أين عرفتِ كل هذا؟! أنتِ تكذبين… من المستحيل أن تكتشفي كل هذه التفاصيل!”
لكن “شيهانة” اكتفت بابتسامة واثقة، مائلة بطرف شفتيها:
“هل نسيتِ أكثر ما أُجيده؟”
تكنولوجيا المعلومات…
ما دام شيء ما قد سُجّل إلكترونيًا، فهو في متناولها. بمهاراتها الاستثنائية، لم تكن هناك معلومة، مهما صغرت أو تعقّدت، قادرة على الإفلات منها.
قبل سنوات، كانت “ورد” و”بلاك ثري” يعملان في إحدى الجهات الحكومية، حيث خُزّنت بياناتهما في النظام المركزي. ومن هناك، بدأت خيوط القصة بالتكشّف.
الرشوة التي دفعتها للطبيب؟ تم تتبّعها من خلال معاملات بنكية دقيقة.
كانت الأدلة منفصلة، كأحجار مبعثرة، لا تكاد تلفت النظر. لكن حين جمعتها “شيهانة”، تكوّن المشهد كاملاً… حقيقياً، واضحاً، لا جدال فيه.
لم يخطر ببال “ورد” يومًا أن شيهانة قد تكون بهذه القوة… بهذه الدقّة.
تقدّمت “شيهانة” بخطوة وسألت ببرود مدروس:
“ومع ذلك، هناك سؤال يحيرني… طالما أن (شهد) ليست ابنة (بلاك ثري) الحقيقية، لماذا كل هذه الخدعة المعقدة لإقناعه بالعكس؟”
كانت ترتدي كاميرا خفية، تسجّل كل شيء: تعابير الوجوه، نبرات الأصوات، حتى الصمت المشحون. البثّ كان مباشرًا، يُنقل إلى شاشة داخل السيارة حيث يُحتجز “بلاك ثري”، المتابع بصمت وذهول.
انكشفت الأوراق. حانت لحظة الحقيقة.
تبدّل وجه “بلاك ثري”، فقد تأكّد تمامًا أن “شهد” ليست من دمه.
ضحكت “ورد” ضحكة خالية من العقل، مرّة ومُرعبة، وقد خانتها أوراقها الأخيرة.
قالت بنبرة انتصار مشوّه:
“كنت أخطط لاستغلاله منذ البداية! بهذه الطريقة فقط ضمنت ولاءه. أخبريني… هل يوجد سلاح أقوى من الإيهام بالأبوة لإخضاع قاتل؟”
جاء صوت “شيهانة” مرتجفًا بالغضب:
“يعني… منذ عشر سنوات كنتِ تخططين لهذا؟ منذ ذلك الحين كنتِ تريدين قتلي أنا وأبي؟!”
تخلّت “ورد” عن قناعها أخيرًا. نهضت ببطء، نظرتها جامدة، ضحكتها مكتومة، كنغمة امرأة لم يبقَ فيها شيء من الرحمة.
“نعم… حتى قبل أن أفكر في اغتيالكما، كنت أرسم ملامح اللعبة. ونجوتِ من محاولتي الأولى… يا لكِ من محظوظة! أعترف، لقد هزمتِني. لكنكِ لن تفوزي في النهاية. تلك الفتاة ستظل ابنتي، وسأبقى أنا المنتصرة!”
وبينما كلماتها لم تكتمل بعد، التقطت سكين تقشير من على الطاولة، وانقضّت بها نحو “شيهانة” بشراسة لم تُر من قبل!
كان في ذهنها أمر واحد: إن ماتت “شيهانة”، آلت ممتلكات عائلة “تيمور” إلى “شهد”.
وبلا تردّد، طعنت “شيهانة” بكل ما أوتيت من حقد.
في تلك اللحظة، صرخ “تميم” من داخل السيارة حيث كان يُراقب كل شيء عبر الكاميرا:
“شيهانة!!”
فتح الباب وقفز خارجًا بسرعة جنونية.
فوجئت “شيهانة” بالهجوم، لكن غريزتها أنقذتها في اللحظة الأخيرة. انحرفت عن مسار النصل، ثم أمسكت معصم “ورد” بقبضة فولاذية، ولوّت يدها بقوة حتى سقط السكين على الأرض.
ثم فجأة انطلقت صرخات مدوّية.
الفصل 138
“أمي!” صرخت “شهد” بأعلى صوتها، وانفجرت مشاعرها كبركان:
“شيهانة… سأقتلك!”
انحنت بسرعة والتقطت سكين التقشير الذي سقط على الأرض، وفي عينيها ومضة هائلة من الغضب والدموع. تقدّمت خطوة نحو “شيهانة”، لكنها توقفت فجأة، يدها مشدودة حول مقبض السكين.
لا… لا يمكن.
لم تستطع أن تقتل “شيهانة”.
كانت لا تزال شابة، يافعة، والحياة بكل وعودها لا تزال تمتد أمامها. لم يكن بوسعها أن تُنهي كل شيء بجريمة لحظة غضب.
لقد اختارت والدتها مسبقًا أن تضحي بنفسها لأجلها… فهل تقابل هذه التضحية بالدم؟
هل تُخيّب أملها؟
ومع ذلك، لم تستطع إنكار ما تشعر به. كان الألم يمزّق صدرها كلما نظرت إلى “شيهانة”، وكلما رأت ما فعلته بأمها.
انهارت دموعها فجأة، تنهمر بلا مقاومة، وسرعان ما تراخت قبضتها عن السكين، حتى كادت تسقطه من يدها.
نظرت إليها “شيهانة” بعين حادة، وسألت بتحدٍّ بارد:
“لماذا توقفتِ؟ ألم تخططي أنتِ ووالدتكِ لقتلي؟ هذه فرصتكِ الأخيرة، فهل ستضيعينها؟”
سقطت “شهد” على الأرض، منهكة، جسدها يرتجف، وعيناها تتأرجحان بين الذهول والدموع. هزّت رأسها بعنف، وصوتها المرتجف يخترق السكون:
“لا أعلم عمّ تتحدثين! أقسم… لم أتآمر عليكِ قط! لا أعرف شيئًا، أبدًا!”
اقتربت منها “شيهانة”، ملامحها جامدة، وصوتها ينضح بالسخرية الباردة:
“إذًا، كل ما حدث كان من تدبير ورد وحدها؟ وأنتِ مجرد ضحية بريئة؟”
شهقت “شهد”، كأن السؤال طعنها في قلب كذبتها، لكنها تماسكت وردّت بسرعة:
“نعم! لا علاقة لي بشيء! لا أعرف أي شيء، فقط… فقط اتبعت ما قيل لي!”
كانت الكلمات تحفظها عن ظهر قلب. سيناريو دُرّبت عليه، علّه يكون خلاصها.
راقبتها “شيهانة” بعيون خبيرة، ثم أزاحت بصرها عنها باستخفاف، كما لو أنها لم تكن سوى ظلٍ باهت لشخص لم يُولد شجاعًا يومًا.
في تلك اللحظة، اندفع “تميم” إلى داخل الغرفة وهو يلهث:
“أختي! هل أصابك شيء؟”
تقدّم خلفه حارسان شخصيان، بينهما رجل مقيد بملامح غاضبة، تحوّلت إلى وحش يتأهب للانقضاض.
“بلاك ثري”… مقيّد الجسد، لكن عينيه كانتا مشعلتين بغضبٍ لا يُكبح.
أومأت “شيهانة” برأسها بهدوء، وكأنها لم تكن لتوّها وسط فوهة بركان:
“أنا بخير، تميم. اتصل بالشرطة، فورًا.”
“على الفور!”
مدّ يده إلى جيبه ليُخرج الهاتف، لكن لم تُمهله الأحداث لحظة.
في ومضة، تمكّن “بلاك ثري” من الإفلات من الحارسين، ثم اندفع بجسده نحو “ورد”، التي كانت تحاول الوقوف.
أمسك بها من كتفيها، ورفعها بعنف، وصرخ بجنون:
“أيتها القذرة… كنتِ تخدعينني كل هذه السنين؟! هذه اللقيطة ليست ابنتي؟! دمّرتِ حياتي، والآن… سأُنهي حياتك!”
كانت عيناه ممتلئتين بخيبة لا تُغتفر. التقط سكين التقشير عن الأرض، ووجّهها إلى صدر “ورد” بيد مرتعشة من شدة الغضب.
لكن “شيهانة” تحركت بسرعة.
بركلة حادة، أطاحت بالسكين من يده قبل أن تلمس الجسد المرتعش.
صاح “بلاك ثري” بها، غاضبًا أكثر مما كان:
“لماذا منعتِني؟! لماذا لا تدعينني أُنهي الأمر؟!”
نظرت إليه “شيهانة” بابتسامة خافتة، تخفي وراءها الاحتقار:
“قتلها؟ هذا سيكون خلاصًا لها… والنجاة من العقاب. أن تبقى حيّة، وتتحمل كل ما فعلته… هذا هو الجحيم الحقيقي.”
ساد صمت مفاجئ.
تجمّد “بلاك ثري”، ثم بدأ يرتجف دون وعي.
شيء ما في نظرات “شيهانة” جعله يشعر بأنه، هو الآخر، في طريقه إلى الجحيم ذاته.
أما “ورد”، فقد شعرت بقشعريرة تسري في عمودها الفقري.
نظرت إلى “شيهانة”، التي بدت أمامها في تلك اللحظة ككائن خرج من أعماق الجليد… قاسٍ، بارد، لا يُكسر ولا يرحم.
لكن أكثر ما آلمها… لم يكن تصرف “بلاك ثري”، بل الحقيقة التي انفجرت بداخلها:
شيهانة لم تُخبره بالحقيقة.
لقد وقعت “ورد” في فخ مُحكم، دون أن تدري، وكشفت أوراقها بنفسها.
لقد خُدعت… ببساطة وسذاجة.
وصلت الشرطة بعد دقائق.
تم اقتياد “ورد” و”بلاك ثري” إلى سيارة الدورية، بينما طُلب من “شهد” مرافقتهم للمساعدة في التحقيق.
عندما خرجت “شيهانة” من الفيلا، كان ضوء الفجر يتسلل إلى السماء.
ليلة طويلة، مليئة بالحسابات، بالكشف، بالخسارات… لكنها لم تكن النهاية.
وقف “تميم” إلى جانبها، وقال بصوت خافت، يحمل في طياته مرارة لا تُخفى:
“أختي… صحيح أن ورد وبلاك ثري سينالان جزاءهما، لكن ما زال كل من مجد وشهد طليقَين… لم تنتهِ اللعبة بعد.”
الفصل 139
كانت “شيهانة” تدرك تمامًا أنه لا وقت للتراخي.
كان عليها أن تُوجّه الضربة وهي لا تزال حامية، بينما الحديد لم يبرد بعد.
فقد وعدت نفسها منذ البداية أنها ستُحاسب كل من تآمر عليها، ولن تتراجع عن هذا القرار مهما كلّفها الأمر.
وكما توقّعت، سارعت “ورد” لتحمّل اللوم كاملًا، طواعية، وكأنها تحاول حماية ابنتها بأي ثمن.
أما “شهد”، فأصرّت بشدة على براءتها، مدّعية أنه لا صلة لها بمحاولات القتل.
وبما أن الشرطة حصلت بالفعل على اعتراف واضح من “ورد”، لم يكن هناك ما يُمكنهم فعله تجاه “شهد” في هذه المرحلة.
وبعد أن أدلت بشهادتها، همّت “شهد” بالمغادرة مسرعة، متجهة إلى المنزل لإحضار “مجد”.
فقط هو، برأيها، قادر على إنقاذ والدتها الآن.
وإلا… فإن كل شيء سينهار.
حتى أحلامها بالاستيلاء على ثروة عائلة “تيمور”، ستتبخّر.
“شهد.”
نادى صوت “شيهانة” من خلفها، حازمًا، لا يخلو من التحدي.
توقفت “شهد”، والتفتت ببطء.
عيناها كانتا مزيجًا من الغضب، والخوف، والانكسار.
وفي تلك اللحظة، أدركت حقيقة لم تستوعبها من قبل:
“شيهانة” ليست شخصًا يمكن كسره بسهولة… وليست خصمًا يمكن الانتصار عليه بالخداع.
نظرت إليها “شيهانة” ببرود، لكن كلماتها فاجأت “شهد”.
“بما أننا كنا ذات يوم أختين، سأمنحكِ بعض النصائح. قد تكون هذه فرصتكِ الوحيدة للنجاة. فهل ترغبين بسماعها؟”
رمقتها “شهد” بسخرية لاذعة:
“هل أصبحتِ لطيفة فجأة؟”
ابتسمت “شيهانة” ابتسامة باهتة:
“بالطبع.”
تسلّل الشك إلى قلب “شهد”. ما الحيلة التي تحيكها “شيهانة” الآن؟
لكنها كانت يائسة، والمُفلس لا يملك رفاهية انتقاء النصائح.
تنهدت، ثم همست على مضض:
“…وما هي النصيحة؟”
“بسيطة. عودي إلى هناك، واستسلمي. تحمّلي العقوبة، وابدئي من جديد.”
قالتها “شيهانة” بثبات، وكأنها تقدم عرضًا عادلًا.
صرخت “شهد” بغضب، وقد تفجرت أعصابها:
“يا حقيرة… في أحلامك!”
كيف تجرؤ “شيهانة” على تقديم مثل هذه النصيحة؟ كانت تتوقع خيانة، لكنها لم تتخيل هذه الوقاحة.
“تريدينني أن أغرق مع السفينة؟ لن يحدث. أقسم أنني سأجعلك تدفعين الثمن، حتى لو كان الثمن حياتي!”
استدارت “شهد” بعنف، ومضت خارجًا، وعيناها تشتعلان.
في تلك اللحظة، كانت الورقة الوحيدة التي تبقت في يدها… “مجد”.
زوجها. شريكها. وعدو “شيهانة” اللدود.
اعتقدت أنه سيساعدها. ما زالت تراهن على ولائه.
راقبها “تميم” وهي تخرج، وقال بقلق:
“أختي، أعتقد أن شهد قررت خوض معركتها الأخيرة… هل قصدتِ استفزازها؟”
“لم أفعل.”
نظر إليها بدهشة:
“هل يعني ذلك أن نصيحتك كانت صادقة؟”
أومأت “شيهانة” برأسها ببطء.
“للأسف، اختارت طريقًا أسوأ من العقوبة.”
هزّ “تميم” رأسه، وهو يهمس:
“ما زلت لا أفهمك أبدًا.”
ثم ابتسم بخفة، فقد اعتاد على ألغاز أخته التي لا تنتهي.
دخلت “شهد” إلى منزلها… لتجد الصمت يلف الفيلا الفسيحة ككفن.
كان الصمت ثقيلًا، مخيفًا، وكأن شيئًا كارثيًا وقع للتو.
لم تكن هناك أي خادمة.
ولا صوت خافت، ولا خطوات مألوفة.
حتى الهواء كان ساكنًا بشكل مريب.
كان باب غرفة المعيشة مفتوحًا على مصراعيه، لكن شيئًا ما فيه جعلها تتردد.
كأن الداخل ليس غرفة، بل فم وحش ينتظرها.
شدّت على نفسها، وتقدّمت بخطوات ثابتة.
هناك، عند طاولة البار، جلس “مجد”.
هادئًا. مسترخيًا. يُدوّر كأس النبيذ بين يديه بنظرات شاردة.
تدفّق النبيذ في الكأس بصوت ناعم اخترق السكون،
لكن بالنسبة لـ”شهد”، بدا كأنه ناقوس خطر.
تنفّست بارتياح حين رأته. بدا طبيعيًا، لا شيء يُنذر بالخطر.
“عزيزي، لماذا أنت وحدك؟ أين الخدم؟”
سألت بصوت ناعم وهي تتقدّم نحوه.
استدار “مجد” ببطء نحوها، وحدّق في عينيها طويلًا، ثم سأل بهدوءٍ قاتل:
“أين كنتِ؟”
الفصل 140
“أين كنتِ؟”
ولم يمنحها فرصة للرد، إذ ارتجفت عيناه قليلًا قبل أن يتابع ببرود:
“هل اعتنيتِ بها فعلاً؟”
تغيرت ملامح وجه شهد على الفور، وقالت بانفعال:
“عزيزي، شيهانة ذكية وماكرة للغاية. لقد كشفت خطتنا. والدتي محتجزة الآن في مركز الشرطة. أنا هربت، لكن إن لم نتحرك بسرعة، ستستولي شيهانة على كل ما نملك! لا أحد سواكِ يستطيع مساعدتي الآن. علينا أن نجد طريقة لإسقاطها، وإلا فلن يتبقى لنا شيء!”
كان الحزن يثقل ملامح شهد، حتى أنها لم تلحظ النظرة الغريبة التي لمعت للحظة في عيني مجد.
وضع كأس الشراب جانبًا، وسار نحوها بهدوء. جذبها إلى عناق دافئ أربكها وأثار دهشتها.
همس وهو يلامس شعرها برفق:
“شهد، أنا آسف… لكن لا يمكنني مساعدتك.”
رفعت رأسها بقلق، وصوتها يختنق بالسؤال:
“لكن لماذا؟”
أجابها مجد، بنبرة ممتزجة بالمرارة:
“لأنني… مفلس.”
شهقت شهد بدهشة، وصاحت:
“ماذا؟! كيف حدث ذلك؟”
“كيف…؟” تمتمت شهد بذهول.
قال مجد وهو يضحك ضحكة خالية تمامًا من المرح:
“انهيار سوق الأسهم. بين ليلة وضحاها، خسرت كل شيء. كل شيء، هل تفهمين؟”
تراجعت شهد خطوة إلى الوراء دون وعي، وجهها شاحب وقد اتسعت عيناها صدمة:
“لكن كيف حدث هذا بهذه السرعة؟…”
كانوا بالأمس يعيشون في رفاهية كاملة، فكيف يمكن أن ينهار كل شيء بهذه القسوة وفي لمح البصر؟
قال مجد فجأة، بنبرة حاسمة:
“شهد، ابتعدي واهربي قدر استطاعتك. لم يعد لدي شيء، ولا أستطيع مساعدتك بعد الآن. سأختبئ أنا أيضًا… ربما هذه آخر مرة نلتقي فيها.”
تشبثت شهد بيده، نظرتها ممتلئة بالرجاء:
“لا! ما زال لدينا شيء! لديّ مال… مال كثير! هذه ليست النهاية. يمكننا أن نركض معًا، أو نستخدم المال للقضاء على شيهانة!”
نظر إليها مجد بلطف، وداعب وجهها بحنان قائلاً:
“عزيزتي، لا تحاولي أن تُبهجيني. حتى لو كان لديكِ بعض المال المدّخر، فلن يكفي لنبدأ من جديد…”
شهقت شهد، وقالت بإصرار:
“بل يكفي! لديّ كل أموال عائلة تيمور. عشرة مليارات! هذا أكثر من كافٍ!”
تبدلت ملامح مجد، وقال بسرعة:
“حسنًا، حوّلي المبلغ فورًا إلى حسابي في الخارج. سيمنحنا هذا وقتًا كافيًا للهروب من البلاد.”
تسلل الشك إلى قلب شهد. راودها صوت داخلي يحذرها: لا تعطيه كل ما تملكينه.
لكن الواقع كان يضغط عليها بشدة. إن لم تحوّل الأموال الآن، ستفقدها قريبًا!
فقد وُجّهت إلى ورد تهمة قتل توفيق ومحاولة قتل شيهانة، ولن يمضِ وقت طويل حتى جمدت الشرطة ما تبقى من ممتلكات عائلة تيمور.
إذا لم تتصرف الآن، ستفقد كل شيء.
ثم فكرت: في النهاية، مجد هو زوجها الشرعي. لم يكن ليؤذيها… أليس كذلك؟
كما أنه وعدها بالهرب معًا. ألا يُمكن أن تراهن على ذلك الوعد؟ على ذلك الحب؟
قررت شهد أن تثق به، وأن تراهن على قلبها.
بمساعدة مجد، حوّلت الأموال من حساباتها الخاصة، ومن حساب ورد، إلى حساب خارجي باسمه… بسرعة ودون أي تعقيد.
ولحسن الحظ، بدا أن مجد يفي بوعوده. ساعدها في حزم أمتعتها، ثم قال:
“شهد، اذهبي إلى المطار أولاً وانتظريني هناك. سأكون خلفك مباشرة بعد أن أنهي أمرًا بسيطًا. عليّ أن أجد من يعتني بشيهانة قبل أن نغادر البلاد.”
نظرت إليه باستغراب:
“أتريدني أن أذهب وحدي؟”
أومأ برأسه:
“أجل، لكن لا تقلقي. سأكون هناك بعد قليل. لن أتركك، فأنت زوجتي الحبيبة. هيا، لنسرع. لا وقت لدينا. إن تأخرنا، ستصل الشرطة.”