رواية زوجة الرئيس المنبوذة الفصل 201 الى الفصل 205

رواية زوجة الرئيس المنبوذة

الفصل 201

ضحك أحد المهندسين الواقفين جانبًا، قائلاً بسخرية: “أراهن أنها لا تعرف حتى من أين تبدأ!” 

فردّ عليه رفيقه الأصغر، وهو يهزّ كتفيه بلا مبالاة: “كان من الأفضل لها أن تغادر حين سنحت لها الفرصة… لكن، كما ترى، الأحمق المغرور لا يتعلم إلا بالطريقة الصعبة.”

وقبل أن ينتهي صدى سخريتهما في أرجاء القاعة، دوّى صوت شيهانة فجأة، حادًا كالسيف: “أنتما!” أشارت إليهما دون تردد، وصوتها يحمل نبرة سلطة لا تقبل الجدل، ثم أردفت بلهجة آمرة كأنها تصدر حكمًا نهائيًا: “بعد أن أتجاوز هذا الاختبار، كلاكما يخرج من هنا مع رئيستكما، لمياء!”

سادت لحظة من الذهول. “ماذا قالت؟” احمرّ وجه المهندسين غضبًا، ونظرا إلى شيهانة بدهشة واستنكار. أحدهما انفجر: “ماذا قلتِ؟ كيف تجرؤين على قول مثل هذا؟”

حتى لمياء نفسها صرخت وقد فقدت رباطة جأشها: “آنسة شيهانة! من المقبول أن تواجهيَني، لكن أن تهاجمي زميليّ الأبرياء؟ هذا غير مقبول!”

انقلب الجمهور ضد شيهانة في لحظة، فهؤلاء زملاؤهم الذين تهاجمهم، وكان من الطبيعي أن يدافعوا عنهم.

لكن شيهانة لم تكن ممن يخشون إثارة الجماهير أو اجتياز الخطوط الحمراء، بل اعتادت إزالة العوائق التي تعترض طريقها، بقصد ووعي. فبالنسبة لها، أن تكون لطيفًا مع عدوك، هو نوع من القسوة على ذاتك.

تقدّمت خطوة للأمام، وألقت نظرة هادئة على الحشد، ثم قالت بنبرة رزينة:
“هل تعتقدون أنني تجاوزت حدودي؟”

ردّت لمياء بازدراء: “أليس هذا واضحًا؟”

لكن شيهانة تجاهلتها، وأكملت بصراحة حاسمة:
“لقد عيّنني مراد هنا، وطلب من الجميع اتباع توجيهاتي طيلة الشهر القادم. لكن هؤلاء الثلاثة يعرقلون عملي عمدًا، ويصرّون على إقصائي. لا أعلم أي مكيدة يحيكونها، لكنني لن أقف متفرجةً على مؤامرتهم تنجح. في نهاية هذا التحدي، سينتصر إما أنا أو الرئيسة لمياء. وأيًّا كان الفائز، فسيكون من حقه قيادة هذا المختبر. وإن كنت أنا، فلماذا لا أتخلّص من مثيري الشغب الذين أعلم أنهم سيسعون لتقويض تقدمي إذا سنحت لهم الفرصة؟”

ساد صمتٌ ثقيل، فقد أربكت كلماتها الحضور وأخمدت الأصوات المعترضة. لم يتوقعوا منها هذا القدر من الحنكة والوضوح، حتى أنهم، رغم رفضهم لأسلوبها، وجدوا في منطقها ما يصعب مجادلته.

لكن لمياء لم تستطع كتم غضبها، كانت تغلي من الداخل. كيف تجرؤ شيهانة على التقليل من شأنها أمام زملائها؟ لقد أرادت أن تصفعها على الفور.

قالت بغضب، وقد حاولت استعادة السيطرة:
“آنسة شيهانة، كفى عن هذه المهاترات! دعونا نرَ الفعل لا القول. أثبتوا جدارتكم، وإلا فسيطردكم الحراس حالًا!”

ثم أضافت مهددة:
“لقد حان الوقت لتنظيف المكان من الفوضى!”

كان التوتر على أشدّه، وبدت المواجهة على وشك الانفجار. وفي لحظة لم يتوقعها أحد، تقدّمت شيهانة نحو السبورة، التقطت قطعة الطباشير، وبدأت في حلّ الأسئلة!

كانت تكتب بسرعة وثقة مدهشة، كأنما كانت تعرف الحلول منذ البداية. لا تردّد، لا توقف للتفكير. ثلاث مسائل رياضية معقّدة، أنجزتها في أقل من دقيقتين!

عندما استدارت، كان الجميع لا يزالون مذهولين، لا تصديق في أعينهم.

رفعت الطباشير، ونظرت إلى البروفيسور بحماس، وقالت بصوتٍ مفعم بالثقة:
“هذه هي إجابتي!”

الفصل 202

عندما استدارت شيهانة، كانت العيون لا تزال شاخصة نحو السبورة، والدهشة تملأ الوجوه. الصمت كان كثيفًا، كأن الزمن توقف للحظة. رفعت الطباشير بهدوء، ونظرت إلى البروفيسور بحماس، ثم قالت بصوتٍ مفعم بالثقة:
“هذه هي إجابتي!”

ظل الحشد في حالة من الذهول، كأنهم مجسّمات متحجرة، لا صوت يُسمع سوى أنفاس متقطعة وعيون لا تصدّق ما تراه. مرت ثانيتان، وربما أكثر، دون أي رد فعل يُذكر. كانوا مصدومين للغاية، عاجزين حتى عن التعبير.

تردّد صوت داخلي في أذهانهم جميعًا: هل كتبت شيهانة تلك الإجابات بهذه البساطة؟ بهذه السرعة؟

انزلقت الكلمات من بين شفتي لمياء دون وعي، وقد بدت أكثر توترًا مما اعتادت:
“هذا مستحيل…” ثم التفتت بسرعة إلى الأساتذة الثلاثة، وكأنها تستنجد بحكمهم.
“إنها مخطئة، أليس كذلك؟ لم تُبيّن أي خطوات لحل المسائل! من  المؤكد أنها خربشات بلا معنى؟!”

لكن الأساتذة الثلاثة، المعروفون برصانتهم، بدوا للحظة في حيرة من أمرهم، وكأنهم يراجعون أنفسهم رغم خبرتهم. معظم الحضور، في الحقيقة، شاركوا لمياء شكوكها؛ كانوا مقتنعين بأن شيهانة مجرد متظاهرة بالمعرفة، تكتب بلا وعي.

ثم، فجأة، اخترق الصمت صوت البروفيسور يعقوب، بلهجة رصينة وواثقة:
“على الأقل… بالنسبة لسؤالي، إجابتها صحيحة تمامًا.”

رفع بروفيسور ثانٍ عينيه من الورقة التي كان يراجع فيها المسألة، وقال ببساطة، وهو يهز رأسه بإعجاب غير معلن:
“وأنا أيضًا.”

وأضاف البروفيسور شاهين، متبوعًا بالبروفيسور نور، بصوت موحّد تقاطع مع تأكيد يعقوب:
“الشيء نفسه ينطبق على عملي أيضاً.”

عندها، اتسعت عينا لمياء بشكل لم تعهده من قبل. تسارعت نبضات الحشد، وتوسعت دوائر الصدمة بينهم كما تنتشر الموجة في بحيرة ساكنة. هل يعقل؟ لقد تمكّنت شيهانة من حل تلك المسائل الرياضية المعقّدة… وبدون أي خطوات تحليلية ظاهرة؟!

هل كانت معرفتها بالرياضيات عميقة لدرجة أنها استطاعت إنجاز هذا العمل شبه المعجزي؟

سأل أحد المهندسين، الطويل بينهما، وقد ساد التوجس على ملامحه:
“هل من الممكن أن تكون قد عرفت الإجابات مسبقًا؟”

تسلّل الشك إلى صفوف الحضور كالدخان الخانق. فشيهانة، في النهاية، تحظى بدعم مباشر من الرئيس مراد.
قال المهندس الأصغر حجمًا بنبرة خبيثة:
“من المحتمل جدًا أن الأساتذة الثلاثة سربوا لها الحلول، فقط احترامًا للرئيس مراد… بعضهم يحب أن يرى العالم يحترق.”

وكأن تلك الكلمات كانت الشرارة، إذ بدأت همهمات الاتهام تتصاعد:
“نعم، لا بد أنها حصلت على الإجابات سابقًا!”
“حتى أذكى واحد منا لا يمكنه حل هذا النوع من المسائل دون إظهار الخطوات العملية!”
“يا بروفيسور يعقوب، ألم تكن أنت من أعطاها الجواب قبل الامتحان؟!”

وقف الأساتذة الثلاثة، وقد بدا الغضب على وجوههم بوضوح، فلو لم تكن أوامر لمياء، لما حضروا الاختبار أصلًا. والآن يُتّهمون بالخيانة؟!
والأدهى من ذلك، أن لمياء لم تحرّك ساكنًا لتبرئتهم، رغم معرفتها التامة ببراءتهم!

قال البروفيسور يعقوب، وهو يقمع غضبه بصعوبة:
“بما أنكم تشككون في نزاهتنا، فتفضلوا… اطرحوا أنتم الأسئلة عليها، وانظروا إن كانت ستنجح مرة أخرى.”

عندها قالت لمياء، وهي تحاول أن ترتدي قناع العدالة:
“الأستاذ يعقوب على حق. لإثبات براءة أساتذتنا، سأطرح السؤال بنفسي. ومن يشكّ في نزاهة النتائج، فليتفضل ويختبرها بنفسه! هذا المختبر لا يتسامح مع الغش. هذه المسألة لا تتعلق فقط باختبار، بل بسمعة مؤسستنا!”

قهقهت شيهانة ضاحكة، ضحكة عالية أربكت لمياء وأشعلت غضبها.
“ما معنى هذا يا آنسة شيهانة؟” صاحت لمياء بحدة. “هل تخشين التحدي؟ إن رفضتِ، فهذا يعني أنك متورطة!”

كان واضحًا للجميع أن لمياء تحاول تطويل أمد التحدي، رغم أنها تعلم في قرارة نفسها أن شيهانة لم تكن قد حصلت على الإجابات مسبقًا. لكنها لم تكن قادرة على تقبّل فكرة نجاحها بهذه السهولة.

كيف يمكنها السماح لشيهانة بتجاوز هذا الامتحان دون إذلال؟ كانت المسائل الثلاث معقدة، وشيهانة لم تشرح طريقة حلها، مما جعل لمياء تميل إلى تفسير وحيد: لا بد أنها صادفت نفس الأسئلة من قبل.

لكنها كانت واثقة أن الحظ لا يرافق أحدًا إلى الأبد. ما تبقى من التحدي، كفيل بكشف الحقيقة!

وما لم تدركه لمياء… أن شيهانة، كانت تتوقع هذا السيناريو تمامًا. لقد قرأت مسار أفكارها كما يُقرأ كتاب مفتوح.

الفصل 203 

كانت طريقة تفكير لمياء مكشوفة لدرجة تُثير الشفقة، واضحة كمعادلة أولية يحفظها طالب مبتدئ، حتى أن الأساتذة الثلاثة، برغم صمتهم، استطاعوا تتبع خطواتها بسهولة لا تليق بمقام من تدّعي القيادة. 

ومع كل انفعالٍ أحمق يصدر عنها، كانت شظايا الاحترام المتبقي لها تتساقط، قطعةً تلو الأخرى. 

لقد عرّى غرورها المتعجرف هشاشة سلطتها، وفضح زيف قناعها الذي طالما احتمت خلفه. 

شيئًا فشيئًا، بدأت الحقيقة تتسلل إلى العقول المتأملة، وتكشّف المشهد على وضوح مؤلم: المذنبة لم تكن شيهانة قط، بل لمياء… حاملة الخطيئة الأكبر، المتغطرسة التي أعمى كبرياؤها بصيرتها.

ومع ذلك، لم يكن لمياء تهتمّ بنظراتهم أو أحكامهم. فكل ما كانت تراه أمامها هو شيهانة، العدو الذي وجب سحقه. لم يكن اليوم مجرد اختبار، بل معركة مصيرية تتوقف عليها مكانتها في المختبر وربما مستقبلها بأكمله.

ولأنها تشعر أن الأرض تهتزّ تحت قدميها، قررت أن تمضي في خطتها حتى النهاية. أن تغمر شيهانة بالمزيد من التحديات. أن تدفعها إلى الحافة… أو السقوط.

لكن ما لم تتوقعه، هو أن شيهانة لم تُبدِ أي اعتراض.

بل، وكأنها كانت تنتظر هذا بعين الصقر.

تقدّمت بثبات، ووقفت في قلب دائرة الاتهام، ثم قالت بصوتٍ قويّ، نقيّ، يخترق الضجيج:

“بما أن هناك شكّاً، فأنا أرحّب بأي اختبار جديد. بل، سأزيدكم شرطًا: إن لم أتجاوز التحدي الذي وضعته الرئيسة لمياء شخصيًا، ولم أنجح فيه أمام أعينكم، فسأعتبر نفسي محرومة من دخول هذا المختبر إلى الأبد. وأذا فزت في الرهان، هي ستحرم من دخول هذا المختبر إلى الأبد.”

حدّقت فيها لمياء بذهول، وكأنها لا تصدّق ما تسمعه. قلبها ينبض بعنف، وكأن جسدها كله يرفض ما يحدث. لم تعتد على من يواجهها بهذا الوضوح، بهذه الثقة… بهذا التحدي المكشوف.

لكن شيهانة لم تكتفِ بذلك.

رفعت بصرها، نظرت إلى لمياء ببرود ناريّ، وقالت بتهكّم حادٍ ونبرةٍ تختلط فيها السخرية بالوعيد:

“لماذا؟ أكنتِ تظنين أنك الوحيدة التي تملك حق إطلاق التهديدات؟ اثنتان يمكنهما اللعب بهذه اللعبة، يا رئيسة! أنتِ من بدأتِ الحرب… فلا تتوقعي مني أن أرفع الراية البيضاء!”

صمتٌ ثقيل ساد القاعة، كأن الكلمات انفجرت كقنابل دخانية حجبت كل صوت. اتّسعت العيون، وسرت موجة صدمة جديدة في صدور الجميع، كما لو أن تلك العبارة قد صفعت المكان كله.

لم يتوقع أحد أن تُواجه شيهانة لمياء بهذه المواجهة الصارخة والمباشرة. لقد فجّرت كلماتها الصمت، وقطعت الحبال الواهية التي كانت تُبقي على هيبة الرئيسة. ومع أن موقفها كان صادمًا، إلا أنه لم يُشعل في النفوس غضبًا كما اعتُقد… بل أثار شيئًا آخر، شيئًا لم يكن مألوفًا لهم من قبل: الإعجاب.

فشخصية شيهانة التي بدت لهم يومًا وقحة، باردة، منعزلة، بدأت تتكشف على حقيقتها. لم تكن متعجرفة، بل قوية. لم تكن متحدية بلا هدف، بل محاربة لا تهاب الظلم. وبقوتها هذه، وبصراحتها، تسللت إلى قلوب من كانوا يراقبونها من بعيد. لقد كانت شرسة… نعم، لكن شراستها لم تكن عيبًا، بل فضيلة وسط عالم يتهرب من المواجهة.

وبينما كانت شيهانة تتقدّم بثبات، كانت لمياء تتراجع دون أن تتحرك. لم يعد الحشد يهتف لها كما في السابق، لأنهم لم يكونوا يهتفون لها حقًا… بل للأساتذة الذين كانت تستظلّ خلفهم. أما الآن، وقد أصبحت وحدها في مواجهة حقيقية، فقد بدا كل شيء هشًّا.

وهنا، وجدت بعض الأصوات الجريئة فرصتها:
“صحيح، أيها الرئيسة لمياء، أليس عليكِ الآن قبول التحدي؟ أثبتي أنها غشّت!”
“نحن نثق بنزاهتكِ، أليس كذلك؟ إذًا لا مشكلة إن خاطرتِ بمنصبكِ… طالما أنكِ واثقة من كذبها، فما الذي تخشينه؟”

للمرة الأولى، لم يكن الحشد جمهورًا يتفرج… بل ضغطًا حيًّا يطوّق لمياء من كل جانب. أصبح سلاحًا استخدم ضدها.

شعرت لمياء بغصة تغمر صدرها، وصرّت على أسنانها، تحاول كتم ما تصاعد بداخلها من غضبٍ وقلق. لم تكن تملك الرد، ولم تكن قادرة على مواجهة نظراتهم التي صارت أقسى من أي كلمات.

كان الخوف قد بدأ يتسرّب إلى داخلها، لا من شيهانة، بل من الحقيقة الباردة: أن كل ما بنته من هيبة وسلطة، على وشك أن ينهار أمام عيون الجميع.

وفي لحظة يأس مكسوة بثوب الادعاء، تشبثت بفكرة وكأنها قشة نجاة تطفو على سطح محيط من الفضيحة: علوم الحاسوب… نعم، هذه ورقتها الأخيرة.

قالت بصوتٍ حاولت أن تملأه بالثقة، لكن ارتجافه لم يخفَ على أحد:
“حسنًا… أعدكم باختبارها! لكن عليها أولًا أن تجتاز اختبارًا في علوم الحاسوب… وهذا، طبعًا، سيمنحني الوقت الكافي للاستعداد!”

ضحك البروفيسور شاهين بخفوت، ضحكة لم تكن مجرد سخرية، بل مرآة تعكس خيبة أمل دفينة. ولأول مرة، رأى الأساتذة الثلاثة الصورة كاملة. لقد تهاوى القناع الذي طالما تخفّت خلفه لمياء، تلك التي اعتادت أن تتغنى بالنزاهة، وتتقمص دور القائدة العادلة. والحقيقة؟ لم تكن سوى امرأة تلهث خلف مخرج، ولو على حساب ما تبقى من كرامتها.

تجاهلت لمياء نظراتهم النافذة التي كانت تخترقها كالإبر. كانت تذوب من الخجل في أعماقها، لكنها، وبأنانية يائسة، أقنعت نفسها بأن ضياع شيء من السمعة أهون بكثير من أن تُطرد من المختبر الذي بنته على صورتها.

أما الجمهور، فقد التقط هذا التحول بدقة الصياد. لمياء لم تعد تُبهر أحدًا، بل أصبحت عبئًا بصريًا وعاطفيًا. صورة للسلطة التي فقدت بريقها، وتحولت إلى ظلّ ساخر، لا تملك سوى الادعاء، ولا تعرف إلا التحديات الجوفاء.

والأخطر… أن هذا قد يكون آخر تحدٍّ يمكنها فرضه على شيهانة. إن اجتازته الفتاة الصامتة الواثقة، فلن يتبقى لمياء حجة واحدة. الحشد لن يسامحها، ولن يسمح لها بالمراوغة مجددًا.

شيهانة، من جانبها، راقبت كل هذا بصمت العارف. وعندما رأت منافستها تترنح تحت وقع الهزيمة النفسية، ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة… ابتسامة المنتصر الذي لم يحتج إلى الانفعال، لأنه يعرف أن خصمه ينهار وحده.

قالت بنبرة رخية، لكنها تقطر ثقة لا تُخفى:
“حسنًا، من سيختبر معرفتي بعلوم الحاسوب؟”

رفعت لمياء صوتها، محاولة إخفاء ارتجافه خلف ستار من الحزم المصطنع:
“رمزي! تعال إلى هنا!”

لم تتحرك الوجوه في القاعة، لكن النظرات تكفلت بالباقي.
“أوه… عرفنا ذلك.”

لم يفاجأ أحد. فقد أصبحت تحركات لمياء متوقعة كما تُتوقع الحيل القديمة في مسرحية مكرّرة. بعد أن استدعت أفضل عقول الرياضيات لاختبار شيهانة، ها هي الآن تستنجد بأفضل عباقرة علوم الحاسوب. حتى الأعمى كان يمكنه رؤية إلى أين تتجه الأمور.

ومع ذلك، لم يبدُ على شيهانة أي تردد. بقيت واقفة في مكانها، صلبة كالحديد، تقرأ المشهد بأعصاب باردة، وكأنها تعرف ما سيحدث قبل أن يحدث. تحدّق في القادم لا كمن ينتظر الحكم، بل كمن يتهيأ للعبور… إلى المرحلة التالية من الجحيم، بابتسامة ساخرة، لا تخلو من احتقار.

الفصل 204

انشق الحشد كالموج المنقسم عند ظهور الرجل الذي تم استدعاؤه، وساد صمت مهيب أرجاء المختبر كأن الأنفاس قد احتُجزت في الصدور. تقدم الرجل طويل القامة بخطوات واثقة، ونظراته الثاقبة تمسح الوجوه من حوله.

رمقت شيهانة الوافد الجديد بنظرة متفحصة، واتسعت عيناها تدريجيًا في دهشة مشوبة بالريبة… كان مألوفًا إلى حد يثير القلق. لحظات قليلة مرت، ثم انجلى الغموض عن وجه الحقيقة. إنه إي تي… الهاكر ذاته الذي مثل مجد في مسابقة الهاكرز الشهيرة! لكن… ما الذي جاء به إلى هنا؟ ولماذا الآن؟

تراجعت لمياء خطوة إلى الوراء، ثم التفتت نحو شيهانة بنبرة تتخللها نغمة تعالٍ مغلّفة بابتسامة واثقة، وقالت:
“رمزي هو رئيس لجنة علوم الحاسوب في مختبرنا. سمعنا الكثير عن مهاراتك الخارقة في الحوسبة، لذا دعينا نرى ما إذا كانت الشائعات في محلها. نأمل أن تبهرينا بما لديك، وتظهري لنا ما تستحقينه.”

رفعت شيهانة حاجبها بسخرية تكاد تفلت من حدود السيطرة، وردت بنبرة تتأرجح بين التحدي والتهكم:
“هل تعنين أنه سيقوم باختباري؟”

أومأ رمزي برأسه، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة هادئة، خالية من التوتر، مشبعة بيقين لا يتزعزع. نبرة صوته حين نطق كانت مستقرة كجبل:
“نعم… هذا بالضبط ما كنت أنوي فعله.”

شيهانة رمقتها بصمت، ثم قالت بنبرة باردة، حادة كحدّ السيف:
“لمياء، أمنحك فرصة لاستبداله… بشخص أفضل.”

للحظة، خيّم الصمت. ثم دوّى صوت داخلي ساخر في أعماق لمياء، تبعته ابتسامة جانبية مُغلفة بالتهكم:
يا لها من مغرورة!
هل تظن نفسها في مركز القيادة؟
رمزي؟ لا تستهينوا به فقط لأنه أصغر منكم. إنه جوهرة هذا الفريق… عبقري لا يُكرَّر.
فلا تخدعكم الأغلفة البراقة.

لكن… من يغفل عن غلاف كهذا؟
وسيم، واثق، ومبهم بما يكفي ليتركك في حيرة.

“المديرة لمياء على حق.” قالها أحد الحضور بصوت حاسم.
“رمزي هو أفضل عالم حاسوب بيننا.”

ولم ينبس أحد بكلمة.
لا اعتراض. لا همس.
مجرد صمت مُطبق، كأن القاعة بأكملها عقدت إجماعها على ذلك.

لكن وسط هذا الجمود، كانت شيهانة تبتسم ابتسامة خفية، غامضة، كما لو كانت ترى ما لا يراه الآخرون.
قالت بنبرة واثقة، أقرب للهدوء من التحدي:
“حسنًا… فليكن. إذًا، سيد رمزي، ما نوع الاختبار الذي تود أن تضعني فيه؟”

كان صوتها أشبه بتحدٍّ مغلف بالمجاملة.

لمحت لمياء الفرصة، واستغلتها بذكاء خبيث. التفتت نحو رمزي، وقالت بنبرة ظاهرها المهنية، وباطنها التحريض:
“الاختبار يجب أن يكون صعبًا بما يكفي لإسكات كل شك. رمزي، لا تتردد. أعطها أقسى ما لديك. أريد اختبارًا لا يترك مجالًا للغش… ولا للرحمة.”

كانت تحرّضه بخبث.
تعلم أن رمزي حين يُفرج عن قدراته الحقيقية، لا ينجو أحد.
لقد رأت بنفسها كيف يحوّل التحديات إلى رماد.

هي لا تكره شيهانة… لكنها تخشى أن تخطف الضوء منها.
ولهذا، كانت متأكدة: هذه الجولة ستنتهي بانهيار شيهانة.

وفجأة، وسط كل هذا الترقب، وسط العيون المترقبة والقلوب التي ترفرف توترًا…
قال رمزي ببساطة تامة، وابتسامة ثابتة:
“أستسلم.”

كلمة واحدة… لكنها كانت كافية لخلخلة الأرض تحت أقدام الحاضرين.

“ماذا؟!”
التفتت لمياء إليه، كأن صوتها انفجر رغماً عنها.
حدقت فيه، فمها مفتوح، كأنها لم تصدّق ما سمعته.

كرّر رمزي، بهدوء مخيف، وبابتسامة أكثر اتساعًا:
“الرئيسة لمياء، لقد قلت إني… أستسلم.”

ثوانٍ قليلة، كانت كافية لزرع الذهول في وجوه الجميع.
الدهشة، الارتباك، وربما شيء من الرعب، تسلل إلى العيون.

رمزي؟ يستسلم؟ دون أن يُجرّب؟ دون حتى مقاومة؟

صرخت لمياء، ونبرتها تقطر غضبًا وذهولًا:
“من سمح لك بالاستسلام؟! من أعطاك هذا الحق؟! آمرك أن تبدأ الاختبار الآن!”

رمزي لم يصرخ. لم يدافع. فقط نظر إليها بعينين ثابتتين، وقال بصوت منخفض لكنه نافذ:
“رئيسة لمياء… استسلمت، لأنني أعلم أنني… لست ندًا لها.”

كانت كلماته كالسكاكين.
حادة، صادقة، لا يمكن تجاهلها.

صُعق الجميع.

أكمل رمزي، وكأنه يفتح صفحة ماضٍ لم يكن يعرف أحدٌ عنه شيئًا:
“واجهتها قبل أشهر. في مسابقة حقيقية… وكنت الطرف الخاسر. ليس فقط بالخسارة الرقمية، بل بالفارق الساحق. لم أرَ عقلًا إلكترونيًا كمثل عقل الآنسة شيهانة… حرفيًا، سيطرت على المسابقة. وإن لم تصدقوا… فابحثوا عن تسجيلات تحدي الهاكر لهذا العام.”

أضاءت عيناه بلمعان مألوف… الاندفاع ذاته الذي شعر به حين واجهها.
كأنه عاد للحظة التي سُحق فيها… ولم يندم.

أما لمياء، والثنائي الذي يقف خلفها، فقد تجمدت وجوههم.
لا قدرة على التظاهر.
حتى التوتر بات أوضح من أن يُخفى.

كان شعورًا مرًا…
كالنهوض على حافة هاوية، واكتشاف أنك كنت تسير وأنت معصوب العينين.

الفصل ٢٠٥

“هل مهاراتها في الحاسوب… مذهلة إلى هذا الحد؟” سأل أحد الحضور بفضول.

“سمعت عن مسابقة الهاكرز الأخيرة”، قال آخر وهو يقترب بخطوة إلى الأمام، “يُقال إن امرأة واحدة… تفوّقت على الجميع. أطاحت بأشرس المتنافسين، وسحقتهم بلا رحمة.”

“لا يمكن أن تكون…؟”
“بل هي… لا بد أنها هي!”

وانقلبت النظرات.

في لحظات، تغيّرت العيون التي كانت تحدق بشيهانة بازدراء.
اختفى الاستعلاء، وبدأت ومضات الاحترام تتسلل.
بعضهم رمش مرتين، وكأنهم يحاولون رؤية ما لم يروه من قبل.

في البداية، رأوها مجرد وجه جميل… والآن؟ عبقرية نادرة.

شيهانة لم تكن فقط بارعة في الرياضيات لدرجة تثير الرهبة، بل كانت كذلك سيدة الأكواد، والآلة، والعقل الإلكتروني.

هنا، في هذا المختبر، لم تكن الجماليات وحدها هي ما يلفت الأنظار… بل الذكاء. وهنا، الذكاء يُعبد.

وفي تلك اللحظة، شعرت شيهانة بأن الأرض بدأت تميل لصالحها.

الجميع بات يراها بشكل مختلف.
بعض الإعجاب في النظرات، نعم، لكن ما أعمق ما رافقه… احترام، خالٍ من الحسد.

ثم، قطعت الصمت بصوت رصين، لكن يحمل وخزًا من التحدي:
“إذًا؟ هل نتابع اختبار الكمبيوتر، أم أن الرئيسة لمياء تنوي خوض المنافسة بنفسها؟”

كانت كلماتها كصفعة… أنيقة، لكنها مدوية.

احمرّ وجه لمياء، واشتدّت قبضتاها بقوة حتى كادت مفاصلها تبرز.

رغبت في الرد.
في الدفاع.
في إنقاذ ما تبقّى من هيبتها… لكن الكلمات خانتها.

وماذا عساها أن تقول؟
أي اختبار يمكنه أن يضع شيهانة في موقف محرج؟

المواجهة المباشرة ستكون انتحارًا علنيًا.
لكن، في ذات الوقت، الصمت… استسلام.
شيهانة لم تهدم ثقتها بنفسها فقط، بل هزّت قواعد المختبر التي عملت لمياء سنوات لترسيخها.

لو كانت تعلم من هي شيهانة في الواقع…
لو تنبأت بقوة حضورها، بعقلها، بهدوءها الواثق…
لكانت قد أعدّت خطة بديلة.
لكن الوقت فات.

وفجأة، وجّهت شيهانة نظرها إلى أحد الرجال الواقفين خلف لمياء.
قالت بصوت بارد، نفد منه الصبر:
“لمياء، هل قررت أم لا؟ أم أنك تفضلين الاختباء خلف الآخرين؟ إن كنتَ جبانة لدرجة أنك لا تجرؤين على مواجهتي مباشرة… فأنت تعرفين العواقب.”

ثم التفتت بحدة نحو الثلاثي بأكمله، وختمت ببرود قاتل:
“أنتم الثلاثة… جهّزوا أنفسكم. انتهى وقتكم هنا.”

صمت.
تجمّد.

بهت وجه لمياء، شحب لونها حتى غدت شبحًا لامرأةٍ كانت تفيض بالغرور قبل دقائق. ولم تكن وحدها… مرافقاها بدَوَا كمن سُحب الهواء من رئتيهما. عيونهم تائهة، أفواههم مفتوحة، وصدورهم تضج بأسئلةٍ لا يملكون لها إجابات.

هل هذه هي النهاية؟
هل تنهار سنوات من السطوة والهيمنة بلحظةٍ واحدة؟
شيهانة لم تصرخ، لم تتوعد، لم تُلوّح بأكثر من كلمات ناعمة كالسكاكين، حادّة كالعدالة. استخدمت العقل وحده، والمنطق، وسحقت بها كل ما حاول الوقوف في طريقها.

كان الخبر سينتشر كالنار في هشيم المؤسسات البحثية.
الطرد من مختبر كهذا؟ وصمةٌ لا تُمحى.
لا أحد سيجرؤ على توظيف من فقد ثقة هذا المكان.

لكن… هل يمكن أن يكونوا بهذا القدر من الوقاحة ليستمروا في البقاء؟

لا، البقاء يعني شيئًا واحدًا: الاعتذار.
انحناءة مذلّة. خضوعٌ مُطلق لسلطة شيهانة الجديدة، ولامتحاناتها اليومية التي لا ترحم.
ولمياء؟ كانت تعرف أنها لا تملك القدرة على بلع هذه الإهانة.

قبضتاها اشتدّتا حتى تخلّلتها الرعشة، وحدّقت في شيهانة بعينين تشتعلان غضبًا.

“آنسة شيهانة!” تفجّرت كلماتها بنبرة ممزوجة بالحنق واليأس، “أما زلتِ تُبالغين؟ أردتُ فقط منافسة ودية، وتحوّلين الأمر إلى حرب طرد وإذلال؟ يا لكِ من وحش!”

تنفّست بغضب ثم تابعت، “لكن حسنًا، اليوم ينتصر الشر! سأرحل… لكن لا تظني أن هذا انتصار لكِ! لن تُتقني تقنية الأطراف الاصطناعية في شهر! وبعد شهر من الآن… ستسقطين كما سقطتُ اليوم!”

كلماتها حملت كل السموم التي عجزت عن بثّها سابقًا.
كانت تُراهن على الوقت، على الفشل، على تعثّر مشروع شيهانة.

في خيالها، ستعود بعد شهر، والمختبر يئن من فشل المشروع، وشيهانة… مكسورة.

“سأنتقم منكِ، أعدكِ!” قالتها في داخلها، وكأنها تحفرها نذرًا في صدرها.

استدارت لمياء بخطوات متوترة، لكن صوت شيهانة لحق بها:

“يبدو أنكِ تخططين للعودة… بكل وقاحة، بعد نهاية الشهر؟”
قالتها بابتسامة، لكنها كانت تحمل سُمًا خالصًا.

توقفت لمياء، وساقها في الهواء، كأنها عالقة بين الرحيل والذل.
كانت كلمات شيهانة كاشفة، عارية لنيّتها، جعلت الدم يصعد إلى وجهها مجددًا، لكن هذه المرة من الإحراج.

رفعت شيهانة صوتها قليلًا، وصقلته بنبرة قطعية:
“آسفة، ولكن عودتكِ؟ لن تحدث إلا في أحلامكِ، آنسة لمياء.”

لوت لمياء شفتيها بازدراء، واستجمعت بقايا كبريائها المهدور، وقالت بسخرية:
“أتظنين أن مشروعكِ سينجح؟ إذًا، فلننتظر ونرى من يعيش في أوهامه أكثر!”

لكن الرد جاء سريعًا، بلا تردّد، وبلا أدنى اهتمام:
“ممتاز… وبالمناسبة، لا تنسي أن تحذري من الباب… فقد يصفع مؤخرتكِ أثناء خروجكِ.”

قالتها شيهانة بلا مبالاة، كمن يُسدِل الستار على مشهدٍ تافه.

ارتعش جسد لمياء، واشتعل وجهها غضبًا.
لم يكن في خروجها أي أثر للكرامة.
لقد فشلت في الانسحاب بنظرة شامخة، وانتهى بها المطاف تهرب من المختبر كما يهرب لصّ كُشف أمره.

كانت تمشي… لكن قلبها خلفها، يتلوّى بين الحقد… والخزي.

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top