الفصل 216
كانت تضحك بسخرية من سذاجتهم، إذ وقعوا بسهولة في شرك حيل لمياء الرخيصة التي نسجتها بدهاء.
أخطأت لمياء في تفسير ابتسامة شيهانة، فظنّتها عبوسًا، وهتفت بانتصار متهور:
“شيهانة! ألم يؤلمك هذا الشعور؟ في النهاية، أنا المنتصرة وأنت الخاسرة! لقد هزمتك!”
كانت تشير بوضوح إلى الحادثة التي وقعت قبل أيام. حينها، اعتقدت شيهانة أنها أزاحت لمياء من المختبر إلى الأبد، لكنها لم تكن تعلم أن لمياء لم تُهزم بعد… بل كانت تعد لنصرها الحقيقي، الذي تحقق اليوم!
فرحة لمياء كانت طاغية، إذ لم تتخيل أن فرصة الانتقام ستأتي بهذه السرعة، وقد آن أوان الثأر.
ذاك الإذلال الذي تعرضت له على يد شيهانة سيعود مضاعفًا، عشر مرات على الأقل!
لكنها كانت تعلم أن هذه مجرد البداية. الخطوة التالية ستكون عودتها الظافرة إلى المختبر، وحينها، إن تجرأت شيهانة على مواجهتها مرة أخرى، فلن تتوانى عن تحطيمها علنًا.
يبدو أن المثل القائل: “الطيور على أشكالها تقع” صادق، إذ كانت تالين ولمياء مقربتين إلى حد أن كلمات تالين كانت تُعبر عمّا يدور في ذهن لمياء تمامًا.
قالت تالين بلهجة متعجرفة، موجّهة كلامها لشيهانة:
“الآن، بعد أن أنهت لمياء التصاميم، أصبح من حقها العودة إلى المختبر. أراهن أنك لم تتوقعي هذا لحظة طردتها. لهذا يُعلّمنا الكتاب التواضع، لأنه من السهل أن ننقلب على أنفسنا بغرورنا.”
ردّت شيهانة بابتسامة هادئة:
“إنه مجرد تصميم. وأنا أيضًا أنهيت عملي. لم يُحسم بعد من سينتج النموذج الأفضل، لذا أليس من السابق لأوانه الاحتفال؟”
تدخلت السيدة شهيب العجوز، وقالت بحسم:
“يمكنكِ التوقف عن العمل فورًا. أنا راضية تمامًا عن تصميم شيهانة، ولن يصل تصميمكِ إلى مستواها. ، ونتيجة لذلك يُلغى الاتفاق معاكي رسميًا، وأكرّر: لم يُعد مسموحًا لكِ دخول المختبر بعد الآن.”
اعترضت لمياء:
“لكننا اتفقنا أن المهلة شهر كامل…”
قاطعتها السيدة شهيب بنبرة صارمة:
“حين أقول إنه لُغي، فهو لاغٍ. منذ أن قررتِ الانفصال عن عائلة شهيب، لم يعُد لكِ مكان هنا. مهما حاولتِ تخريب العلاقة بين تالين ومراد، لن يعود إليكِ. حبه الحقيقي هو تالين، وهي من سيتزوجها.”
ثم أضافت:
“أنا مستعدة أن أصفح عن محاولتك السابقة في إيذاء لمياء، لكن لا تتوقعي أن نغفر لكِ أكثر من ذلك. هذا المكان لم يعُد لكِ. حتى لو كان لين ابنكِ، فلن يترك عائلة شهيب، ولن يكون لكِ دورٌ في حياته من الآن فصاعدًا. أنتِ ذكية، فابحثي عن طريقكِ بعيدًا عنّا!”
ثم ختمت بحزم قاطع:
“لم يعُد لكِ أي حق في التواجد هنا!”
كررت كلامها مرة أخرى، وكأنها تُغلق الباب بإحكام أمام أي أمل في العودة.
ردّت شيهانة بهدوء وكرامة:
“لم أرغب في البقاء هنا من البداية، ولا أنوي العودة. لكن ابني سيعود إليّ، هذا ما أنا واثقة منه.”
صاحت السيدة شهيب بانفعال:
“شيهانة! هل فقدتِ سمعك؟! لين لم يعُد يخصكِ بشيء. هذه الحقيقة لن تتغير، لذا لا تُرهقي نفسكِ بأوهام لا طائل منها. غادري الآن، أو سأستدعي الأمن!”
لكن شيهانة لم تغضب، ولم تُظهر ضعفًا. بل ابتسمت برقي، كأنها تترفع عن مستوى خصومها.
قالت:
“حسنًا… يبدو أن ثقتكم بلمياء عمياء. سنرى مَن الذي سيحقق النجاح الحقيقي.”
ثم ألقت نظرة وداع ذات معنى، قبل أن تستدير وتغادر بهدوء.
تجمدت ابتسامة لمياء في مكانها.
شعرت بشيء غريب… كان هناك اضطراب في قلبها، سببه تلك الابتسامة الأخيرة من شيهانة. كان فيها شيء لا يُمكن تجاهله.
لكنها سرعان ما طردت الشكوك من ذهنها. لقد طُردت شيهانة رسميًا من المختبر، والنجاح بات بين يديها الآن. لا أحد يمكنه إيقافها الآن.
خطتها، ها هي تُزهر أخيرًا. وشعور الاقتراب من تحقيقها جعل قلبها يخفق بنشوة لا تُوصف.
الفصل 217
لقد طغت الإثارة على كل شيء آخر في ذهنها، حتى القلق والانزعاج تلاشى أمام وهج النصر الوشيك.
المجد والنجاح اللذان كانا على بُعد خطوات منها أعمياها عن كل ما عدا ذلك… عن المنطق، عن الحذر، وحتى عن الواقع.
بجوارها، كانت تالين تشاركها الحماسة، تكاد فرحتها تطغى على تعابير وجهها.
في البداية، عندما سمعت تالين عن وعد شيهانة بإتقان تقنية الأطراف البشرية الاصطناعية، سخرت في سرّها. لم تكن تصدق أن شيهانة قادرة على تحقيق مثل هذا الإنجاز. لكنها، رغم ذلك، شعرت بقلق داخلي لم تستطع نكرانه.
كان هناك احتمال، ولو ضئيل، أن تنجح شيهانة بطريقة ما.
وإن فعلت… فإن كل ما سعت له تالين سيتبدد. عائلة شهيب لن تظل على موقفها، وسيُعاد النظر في مكانة شيهانة، وقد يُفتح الباب أمامها من جديد للارتباط بمراد. وهي، تالين، لن تسمح بذلك أبدًا.
لكن لمياء أنقذتها من هذا الكابوس.
الآن، بعد أن طُردت شيهانة رسميًا من المختبر، تلاشى الخطر. الخطة انهارت، والفرصة الذهبية ضاعت.
ولا طريق للعودة!
هذا أعطى تالين فرصة لا تُعوّض لتقريب مراد منها، وجذبه نحوها دون منازعة.
ابتسمت تالين ابتسامة مفعمة بالزهو، كما لو أن القدر قد منحها ما تستحقه.
في داخلها، ترددت كلماتها بثقة متعالية:
“إنه قضاء الله! شيهانة لن ترتقي أبدًا. مكانها في القاع، بين من لفظهم المجتمع!”
وبهذا، فإن مراد سيكون لها وحدها.
“لقد خُلقنا لنُكمل بعضنا البعض… هذا هو قدرنا!”
في هذه اللحظة، فُتح باب الطابق السفلي بقوة، وظهرت شيهانة بخطى واثقة ونظرات مشتعلة بالانتقام.
رمزي، الذي كان لا يزال يعمل في قبو عائلة تيمو، رفع رأسه بذهول ليلتقي بعينيها.
في عينيه، بدت كإلهة منتقمة، قادمة لتنال منه بلا رحمة.
ولم تكن وحدها، بل رافقها شاهر وتميم، كأنهما ملائكة انتقام لا يعرفان الرحمة!
في تلك اللحظة، حاول رمزي أن يحافظ على رباطة جأشه، فابتسم وقال بسخرية باهتة:
“تبدو نظراتكم قاتلة… لستُ واثقًا، لكن لا أظن أنكم هنا لدعوتي لشرب الشاي، أليس كذلك؟”
أجابه تميم بنبرة ساخرة وغاضبة:
“تحليل ممتاز! والآن، ما رأيك أن تُخمن ما الذي سنفعله بك؟”
رفع رمزي حاجبه وهو يحك ذقنه متصنعًا التفكير:
“همم… أتمنى أن أكون مخطئًا، لكن لدي شعور بأن الأمر سيتضمن بعض… اللكمات؟”
وقبل أن ينهي جملته، صدرت أوامر شيهانة ببرود:
“أمسكوا به.”
انقضّ شاهر وتميم عليه كالصواعق، دون تردد!
رمزي رفع يديه محاولًا الدفاع عن نفسه، يصرخ:
“مهلًا! كنت أمزح فقط! لا تأخذوا الأمور بجدية هكذا!”
لكن تميم صاح وهو يوجه له لكمة مباشرة:
“أنت خائن! الخونة لا تُعامل بلطف!”
أما شاهر، فكان صامتًا، لكن قبضاته كانت تتحدث بصوتٍ عالٍ.
رمزي لم يصمد طويلًا. احتضن رأسه وتوسل بصوت مرتجف:
“اضربوا أي مكان، لكن ليس الوجه! ليس وجهي!”
لكن التنسيق بين شاهر وتميم كان مثالياً. كل منهما أمسك بذراع من ذراعيه، وانهالت عليه اللكمات.
قال رمزي وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه:
“قلت لكم لا الوجه! عندي معجبين، تعلمون؟”
لكنهم لم يُعروا كلامه اهتمامًا، بل تبادلا النظرات وأكملوا اللكمات بعناية… على الوجه تحديدًا!
وفي النهاية، انهار رمزي على الأرض، يتلوّى ألمًا.
تحسس وجهه المتورم وقال بتأفف:
“وجهٌ كهذا لا يُضرب! هل أنتما غيوران مني؟ أم ماذا؟!”
لكن نظرات الاحتقار التي رماه بها تميم وشاهر قالت كل شيء:
“حتى وهم يضربونه، كان لا يزال يعتقد نفسه أوسم رجل على الأرض!”
الفصل 218
“تحدث الآن… لماذا ساعدت لمياء في سرقة تصميمي؟”
قالتها شيهانة بحدة وهي تتقدم نحوه خطوة أخرى، تنظر إليه بعينين تشتعلان غضبًا.
رفع رمزي رأسه ببطء، ينظر إلى عينيها مباشرة. ثم أشار نحو تميم وشاهر الواقفين بجانبها.
“سأخبركِ بكل شيء… لكن بشرط، أخرجهما من الغرفة.”
تميم عبس، ورفع ذراعه، مستعدًا لجولة جديدة من اللكمات.
لكن شيهانة رفعت يدها لتوقفه: “انتظر. اخرجا من هنا.”
صُدم تميم وقال باعتراض:
“أختي! لا يمكنكِ الموافقة على هذا الطلب. ماذا لو هاجمكِ؟”
وأضاف شاهر، بقلق مماثل:
“معكِ حق يا آنسة شيهانه… ترككِ وحدكِ معه أمر خطير.”
لكن شيهانة هزّت رأسها بثقة:
“لن يؤذيني. أرجوكما، انتظرا في الخارج.”
“لكن…”
“سيكون كل شيء على ما يرام.”
كانت نبرتها حاسمة، لا تحتمل الجدل.
أدرك شاهر وتميم أن إصرارها لا يمكن كسره، فغادرا الغرفة، على مضض.
لكنهما لم يبتعدا. وقفا بجانب الباب، آذانهما ملتصقة بالحائط، عازمان على التدخل في أي لحظة.
في الداخل، ساد صمت ثقيل. جلست شيهانة على كرسي قريب وقالت بنبرة هادئة ولكن مشحونة بالتهديد:
“حان وقت الاعتراف. إن لم تقدم لي سببًا مقنعًا، فأحذّرك… لدي طُرقٌ كثيرة لتحويل حياتك إلى جحيم حيّ.”
رمزي، الذي جلس بتثاقل على الكرسي المقابل، لم يُجب فورًا. مسح بكفه على وجهه المتورم بالكدمات، متألمًا:
“لو كنت أعلم أنكم ستعاملونني هكذا، لما بقيت لحظة واحدة بإرادتي. فليذهب ضميري إلى الجحيم…”
قالت شيهانة ببرود:
“إذًا، تعترف أنك أخطأت؟”
لكنه أجاب بسؤال:
“وكيف عرفتِ أنني أنا من سرّق تصميمك وأعطاها إلى لمياء؟”
أجابت بلا تردد:
“كل شيء كان مثاليًا أكثر من اللازم. أن تنهي تصميمها في التوقيت ذاته الذي أنهيتُ فيه أنا تصميمي؟ هراء. وأنا لا أثق بقدراتها أصلًا.”
ضحك رمزي بسخرية خفيفة وقال:
“أوه، يا له من حُكم قاسٍ… لكنه دقيق. بالفعل لم تكن قادرة على إنهاء التصميم بمفردها.”
شيهانة ضيّقت عينيها:
“لست هنا لإجراء دردشة. ادخل في صلب الموضوع!”
عندها، تغيرت نبرة رمزي، وأصبح أكثر جدية.
“لمياء واحدة منّا.”
تجمدت نظرات شيهانة، لكنها لم تُظهر دهشتها سوى للحظة، ثم سألت:
“وما الذي يعنيه هذا؟”
قال رمزي بنبرة أكثر غموضًا:
“إنها تملك شيئًا أسعى للحصول عليه. تواصلت معي وطلبت مني سرقة تصميمك، ووعدتني بإعطائي هذا الشيء إذا نجحت.”
نظرت إليه شيهانة بتمعّن، تبحث في ملامحه عن كذب أو تلاعب.
“ما هو هذا الشيء؟”
هزّ كتفيه وأجاب بابتسامة غامضة:
“بصراحة؟ لا أعلم ما هو بالضبط. لكنني أعلم أن لديك واحدًا أيضًا.”
هذه المرة، لم تخف شيهانة دهشتها.
قالت بحذر:
“أعترف، لدي واحد. وهناك آخرون أيضًا، أليس كذلك؟”
أومأ رمزي:
“نعم، لسنا وحدنا. عندما نجمعها كلها، سنعرف الغرض منها.”
سألته شيهانة بهدوء قاتل:
“ومن غيرنا؟”
هزّ رأسه:
“لا أستطيع الجزم. حاليًا، تمكنت فقط من تحديد موقعك وموقع لمياء. سأخبركِ حالما أعثر على المزيد.”
مدّت يدها نحوه:
“أين الشيء؟ أعطني إياه.”
لكن رمزي ابتسم ابتسامة آسفة، وقال:
“لا يمكن. من يجده، يحتفظ به. ما لدي سيبقى معي… على الأقل الآن. لكن لا تقلقي، سأعود إليكِ به. فأنتِ الوحيدة القادرة على فك لغزه. أنا فقط أحفظه لكِ مؤقتًا. ثقي بي، سأعتني بهما جيدًا.”
الفصل 219
“كيف تتوقع مني أن أثق بك، وأنت من خانني للتو؟”
تحدثت إليه شيهانة بنبرة صارمة، وعيناها تلمعان بخيبة وريبة.
رمزي عبس وقال مدافعًا:
“هذا اتهام لا أساس له. لم أكن في صف لمياء يومًا، لقد ساعدتكِ في التصميم! ألا يكفي هذا لإثبات ولائي؟ أجبتكِ على كل أسئلتك، ولم أُخفِ شيئًا!”
لكن شيهانة لم تتزحزح:
“هل نسيتَ أنك ساعدتها في سرقة تصميمي؟”
هتف رمزي بانفعال:
“التصميم الذي سلّمته لها كان مزيفًا! أقسم بذلك!”
ارتسمت ابتسامة باردة على شفتي شيهانة، وقالت:
“سواء خططتَ لذلك أم لا… فالتصميم سيظل مزيفًا.”
تجمّد رمزي لوهلة، وكأن الحقيقة التي نطقت بها صدمته للتو. تأوه وقال بخفوت:
“إذًا… كنتَ تحذري مني طوال الوقت.”
أومأت شيهانة بخفة، وردّت بثقة:
“والأحداث أثبتت أنني كنتُ على حق.”
شعر رمزي بالحرج، والتزم الصمت.
لكن سرعان ما عادت الابتسامة إلى وجهه، وكأنه استعاد رباطة جأشه:
“وهذا، بالضبط، ما جعلني أختاركِ دونًا عن غيرك! أنتِ أذكى وأشد حذرًا. أعدكِ، هذه شراكة لن تندمي عليها. لقد قررت البقاء إلى جانبك!”
لكن فجأة، جاء صوت شيهانة حادًا، قاطعًا:
“اخرج.”
رمزي ارتبك:
“أخرج؟”
“نعم. لم أعد بحاجة لمساعدتك في تصميم الطرف الاصطناعي. أما الشراكة؟ فما زلتُ مترددة. يوم تسلمني ما بحوزتك سيكون اليوم الذي أبدأ فيه التفكير بالأمر.”
لم يتوقع رمزي هذا الرد الصارم. تمتم بانزعاج:
“لكنني كنتُ صادقًا… يمكنكِ الوثوق بي.”
أجابته شيهانة بجفاء:
“أنا لا أثق بأحد… سوى بنفسي.”
تنهّد رمزي وقال بنبرة تائقة للإقناع:
“عدنا إلى الحديث عن ذلك الشيء، أليس كذلك؟ لقد قلت لكِ بالفعل، لم أكن خائنًا بحق…”
قاطعته شيهانة ببرود قاتل:
“ليست المسألة ما إذا كنت خائنًا أم لا، بل المسألة أنني لا أريد ذلك. أنصحك بالمغادرة قبل أن أستدعي الأمن.”
تأمّلها رمزي قليلًا، ثم قال باستسلام:
“حسنًا. ربما بعد أن أساعدك في العثور على المزيد من أمثالنا… ستدركين أنني في صفك منذ البداية.”
لكن شيهانة لم تُجبه. نظراتها كانت جامدة، يصعب سبر أغوارها.
غادر رمزي بعد لحظات، يجرّ أذيال الخيبة.
في الخارج، كان تميم وشاهر في حيرة من أمرهما، لا يفهمان سبب سماح شيهانة له بالمغادرة دون عقابٍ حاسم.
لكنها لم تشرح شيئًا، واكتفت بالقول:
“التصاميم التي سرقتها لمياء جميعها مزيفة.”
رغم ذلك، تبقى الحقيقة مؤلمة: أنها طُردت من المختبر.
وهذه حقيقة لا يمكن محوها.
ودون دعم المختبر، كيف يمكنها مواصلة تطوير التصميم؟
وبينما كانت تفكر إن كان عليها الاتصال بمراد لطلب العون، رنّ هاتفها فجأة.
كان المتصل: زوجها السابق.
ترددت للحظة، ثم أجابت:
“مرحبًا.”
جاء صوته مقتضبًا:
“أنا أمام منزلك، اخرجي الآن.”
ثم أغلق الخط قبل أن تُجيب.
أغلقت شيهانة هاتفها، وتوجهت نحو الباب الأمامي.
من خلف زجاج النافذة، نظرت إلى الخارج. الليل كان قد بسط رداءه، والهدوء يغمر المكان.
كان مراد واقفًا إلى جانب سيارته، قميصه الأبيض المعتاد يبرز تحت سترة سوداء خفيفة، كأنها درع هشّ أمام برد المساء. يداه في جيبيه، وعيناه معلّقتان بالسماء، يتأملها بصمت، كما لو كان يبحث بين النجوم عن شيء ضاع منه.
خرجت شيهانة من المنزل بخطوات متزنة. وعندما وقعت عينا مراد عليها، استدار نحوها كأن شيئًا أيقظه من غفوته.
تمامًا كما في مشهد من رواية رومانسية، تلاقت النظرات.
وفي تلك اللحظة العابرة، قرأت شيهانة في عينيه طيفًا من المشاعر المختلطة: شوق لم يخفت، ألم لم يُداوَ، وربما ندم لم يُعترف به.
أبعدت عينيها عنه وسألت بصوتٍ هادئ:
“لماذا اتصلت بي؟”
أجابها بسؤال، وبصوت مليء بالعتاب: “لماذا لم تأتِ إليّ عندما حدث شيء بهذه الأهمية؟”
الفصل 220
لم يكن في سؤال مراد أي لمحة غضب، بل العكس تمامًا.
في صوته تسرّب قلقٌ خافت، طبقاتٌ من الاهتمام الصادق، شعرت بها شيهانة بوضوح.
“هل تقصد ما حدث في المختبر؟ الطرد؟”
سألته بنبرة باردة.
“نعم. ألم أقل لكِ سابقًا أن تأتي إليّ فور حدوث أي شيء مهم؟”
من الواضح أنها لم تفعل. لقد علم مراد بما جرى من مصدر آخر، وليس منها.
ولحسن حظه، كان لا يزال في اجتماع خارجي عندما وصله الخبر.
دون تردد، أنهى كل التزاماته، حجز أول رحلة طيران متاحة، وعاد فورًا، تاركًا جدول أعماله المتخم بالاجتماعات خلفه.
قالت شيهانة بصراحة:
“في الواقع… كنت أفكر بالاتصال بك.”
لكنها لم تتوقع أن يصل بهذه السرعة.
ابتسم مراد ابتسامة دافئة فجأة، ثم أمسك بذراعها برفق قائلاً:
“تعالي. لندخل. لا يبدو هذا المكان مناسبًا لمثل هذا الحديث.”
لكن شيهانة سحبت ذراعها على الفور وقالت بحدة هادئة:
“هذا المكان جيد بما فيه الكفاية.”
حاولت التحرر من قبضته مرة أخرى، لكن تمسكه بها ازداد.
قال بنبرة مرهقة:
“لقد نزلت للتو من الطائرة. لم أتناول شيئًا منذ الصباح. دعينا نكمل الحديث على العشاء.”
سحبت شيهانة ذراعها هذه المرة بقوة أكثر، وقالت ببرود:
“لا حاجة للعنف.”
ثم استدارت ودون كلمة إضافية، صعدت إلى سيارته.
كان مراد خلفها، يبتسم ابتسامة صامتة، مشرقة، تشي بشيء من الأمل.
ما إن جلسا داخل السيارة حتى سألها بنبرة خفيفة:
“أي نوع من الطعام تفضلين؟”
أجابته بإيجاز:
“هذا عشاءك، لا عشاءي.”
“لا بأس، اختاري ما تشائين.”
“أنا في مزاج لإنهاء هذا الحديث، لذا دعنا نتخطى العشاء.”
سكت لثوانٍ، ثم قال لسائقه:
“اذهب إلى أقرب مطعم.”
لم يكن المكان بعيدًا. مطعم راقٍ قريب من منطقتهم السكنية، مطعم متخصص في المأكولات الغربية.
وصلوا بعد وقت قصير.
كانت هذه أول مرة تجلس شيهانة مع مراد على مائدة عشاء بمفردهما.
بالنسبة له، ربما كان موعدًا.
أما بالنسبة لها، فكان اجتماعًا مهنيًا بحتًا.
ما إن جلسا حتى بدأت مباشرة:
“هل يمكنك مساعدتي في العودة إلى المختبر؟”
لكنه رد بسؤال مضاد، يحمل في نبرته شيئًا من الضيق:
“سمعت أن لمياء قدّمت تصميمًا نال رضا جدتي.”
قالت شيهانة بهدوء مدروس:
“التصميم مسروق… هو في الأصل لي. لكنها عدّلته، ومع ذلك، تصميمها معيب.”
“هل تملكين دليلًا؟ يمكنك مقاضاتها إن كان الأمر كذلك.”
ابتسمت شيهانة ابتسامة غامضة وقالت:
“لا داعي لذلك. ستقع في خطئها عاجلًا أم آجلًا.”
أثار ذلك فضول مراد، فسألها:
“وما خطتك؟ ماذا تنوين فعله؟”
لكن شيهانة لم تُجبه مباشرة، بل قالت بجفاف:
“لا شأن لك بهذا. على أي حال، لم تُجب على سؤالي بعد.”
تنهد مراد، ثم قال بنبرة مُحبطة:
“جدتي أصدرت قرارها. لمياء ستعود إلى المختبر. حتى أنا لا أستطيع تغيير رأيها. ما لم تُظهري دليلًا قويًا، فستظل لمياء هناك.”
كانت تلك الحقيقة المؤلمة التي لم تكن شيهانة بحاجة لسماعها من جديد.
قالت ببرود قاطع:
“لا يوجد دليل ملموس… أو على الأقل، لا شيء سيصدقونه. بما أنكم عاجزون عن مساعدتي، فسأبحث عن مختبر آخر لأُكمل فيه بحثي.”
ثم أضافت وهي تنهض:
“استمتع بعشائك، سأغادر.”
مدّ مراد يده فجأة، ممسكًا بذراعها، محاولًا إيقافها.
نظرت إليه ببرود، وكأن لمسته أحرقتها.
قال بنبرة مستنكرة:
“لم يصل الطعام بعد… لماذا كل هذا الاستعجال؟”
ردّت بنبرة حاسمة، دون تردد:
“جئت لأتحدث في أمور العمل، لا لتناول العشاء. بما أن الحديث انتهى، فلا جدوى من بقائي.”
لم تكن تتصرف بتكلّف أو تلعب دور المرأة المتمنعة.
الحقيقة البسيطة؟
هي لم تكن تريد هذا اللقاء منذ البداية.
في نظرها، كان مراد شريك عمل سابق… لا أكثر.
وبما أن العمل قد انتهى، لم يكن هناك ما يدعو للبقاء.
في لحظة صامتة، اجتاح مراد شعور قاسٍ بالخذلان؛ وكأن وجوده كله كان مؤقتًا، وانتهى حين نظرت إليه بتلك الطريقة وقالت دون كلمات: انتهى دورك.”