هذه الرواية حصري على موقع دريمسيز، ممنوع النسخ منعاً باتاً نظراً لحقوق الملكية الفكرية ومن يخالف ذلك سيخضع للمسائلة.
المرأة تعشق من يكن لها سنداً، تحتمي به منه، تخطئ وتركض؛ لتختبأ بأحضانه.
فإذا كنت لها أباً تنام في كنفه بطمأنينة، وأخاً تشكوه وجعها وتسأله الصواب والمشورة، وحبيب يحتوي ويحنو ويكن في عسرها اليسر، وفي ظلامها طاقة النور، وفي عطشها نهر فياض بالحب.
ستكن لك أم رءوم، وأخت حنون، وعاشقة بجنون.
فقط لا تكن ليناً بسلبية فتزهدك، ولا تكن غليظاً بخشونة فتنفرك.
في سجن الجزيرة.
تناظره بشغف هذا الداهية سلب لبها، وسكن قلبها، وأسر روحها.
حقاً زعيم، بكل ما فيه زعيم، في كل حالته زعيم، إنه زعيم سمرائه.
“ريكا” السجين يخاطب سجانه بندية بل وله الغلبة، لا يهاب ولا يخنع.
لكنه معها غير، هو ذلك الفارس على جواده بعليائه، يدنو ويتودد ويناغش ويداعب ويتواقح أيضاً، تشعر جواره بالآمان والألفة وكأنها خلقت من ضلعه، خلقت له وخلق لها.
-اصمتِ غادة، ضاع صوابكِ في غرام الداهية.
ذاك ماجال بخاطرها، وهذا كان خطاب العقل.
تحرك “أريان” بتيه، يشعر بألم يجتاح كل أوصاله بؤرته مضغته النابضة القابعة بين ضلوعه.
وبخطوات خائرة وهنة تقدم ناحية هذا الجالس بأريحية لم يرف له جفن، ولم يصدر منه ردة فعل تدل على تأثره بقدوم القائد الأعلى لهذا الصرح.
وما إن قادته قدماه إليه حتى أشار له قائلاً بفتور:
-افسح “ريكا”، أريد الجلوس.
تأفف “ريكا” وهو يسبل أهدابه بملل، معتدلاً في جلسته، يحط بقدميه أرضاً متحاملاً على حاله، ولكن لم يبد عليه أي تأثر، فماذا يعني وجع جرح كهذا بالنسبة للداهية؟!
جلس “أريان” ملقياً بحاله على السرير، يزحف إلى الوراء، مسنداً ظهره إلى الحائط خلفه، يثني إحدى ساقيه لأعلى، باسطاً الأخرى أمامه، يتكأ بمرفقه إلى ركبته، يغمض عينيه مرجعاً رأسه إلى الخلف.
التفت “ريكا” برأسه ينظر إليه في تعجب من تلك الحالة التي يراه عليها، واكزاً إياه بساقه القائمة، قائلاً:
-ماذا هناك؟! هل مات لك عزيز؟! أم أصابك اليأس كونك لم تحظَ بمكافأة “نك”؟!
أفرج “أريان” أهدابه يزجره بعينيه، والآخر يناظره باستهانة وكأنه يقول بدلاً من نظرات الزجر هذه هات ما عندك.
رفع “ريكا” قدميه يعود إلى الخلف، يسند ظهره هو الآخر إلى الحائط، ممداً كلا ساقيه أمامه يسند مرفق قدم إلى الآخر، يمد يده إلى جيب منطاله يخرج علبة لفائفه يشعل إحداها، رافعاً رأسه ينفث دخانها لأعلى.
وقبل أن يعيدها إلى موضعها مرة أخرى، وجد الآخر يمد يده يلتقط اللفافة من بين إصبعيه، يدسها بفمه يسحب نفسا مطولاً ومن ثَمَّ أخرجه على طريقة “ريكا”.
لوى “ريكا” فاهه باستياء يخرج غيرها يطرق مبسمها على ظهر علبة اللفائف، ومن ثم قبضها بين أسنانه يشعلها واضعاً العلبة على السرير بينهما بدل من إعادتها إلى جيبه.
توجه “ريكا” بنظره إليها، وجدها تتابع ما يحدث بفاهٍ فاغر، تتنقل ببصرها بينهما وكأنها تشاهد عرض مسرحي.
“ريكا” بتسلية:
-اغلقي فمك “غادة”، واسحبي أحد المقاعد؛ لتجلسي بدل من المشاهدة وأنت واقفة هكذا.
انتبهت لما يقول، وهي تزم شفتيها بغضب طفولي بسبب تعقيبه بشأن فاها، فبدت شهية ولذيذة.
لعق “ريكا” شفاهه بطرف لسانه، غامزاً لها بعينيه خلسة في وقاحة، فابتعدت بنظرها عنه تجول بعينيها في أرجاء المكان بارتباك؛ باحثة عن كرسي فقد تبدل حال الغرفة كليا بعد التخريب الذي حل بها على يد الزعيم.
منتبهة لإختفاء حطام الأطباق وبقايا الطعام التي كانت تفترش الأرض، مستنبطة من قام بإصلاح تلك الفوضى فمن غيرها “راشيل”!!
-“راشيل”، سحقاً لك “راشيل”، نعم هي!! من سيفعلها إن لم تكن!! فلابد وأنها من قامت بإغلاق هذا الباب اللعين!! حسناً “راشيل” لك معي حساب كبير.
جزت غادة على أنيابها غيظاً، وهي تتوعدها بتلك الكلمات في سرها، تتوجه ناحية المقعد وقبل أن تقبض يدها عليه، استمعت إلى” أريان” وهو يقول:
-أريدك “ريكا”.
غصة مختنقة واتته بعد أن سحب نفساً من تلك اللفافة التي بيده وقبل أن يطلق زفيرها، خرجت هاتين الكلمتين من بين شفاه “أريان”، ليطوعها الداهية إلى منحنٍ آخر، فسعل مقهقهاً يلقي اللفافة من يده أرضاً يصفق بكلا يديه ساخراً، وقد أدمعت عيناه من شدة الضحك، وهو يقول:
-ها قد فهمت لِمَ لَم تتزوج حتى الآن أيها المثلي؟!
ولكن يؤسفني أن أردك فلا شغف لي بالرجال “ريا”.
خفضت بصرها بخجل، تتحمحم بحرج قائلة:
-إذاً سأخرج حتى تنتهيا……….
بتر “ريكا” عبارتها قائلاً، وهو لازال على حالته تلك من السخرية والتهكم:
-اجلسي دكتور “غادة” لن يحدث شيئاً، لننهه.
بينما خرجت من الآخر ضحكة خشنة تهكمية، يطرق رأسه بخفة إلى الحائط خلفه، ولكن لم تصل تلك البسمة إلى عينيه، ما يلوح بمقلتيه الآن لا يمت للهو بِصلة وكأنه يختزن هموم الدنيا أجمعها؛ لتكدر صفو أي لمحة مرح أو فرح.
استاء “أريان” بعد أن عاود “ريكا” القهقهة مرةً أخرى، وتلك التي نفذت الأمر بالجلوس تعض جانب فمها من الداخل تمنع حالها من الضحك هي الأخرى.
“أريان” بضيق:
-كفاك سخافة، ألا تستحي؟! ها هنا فتاة تجلس بيننا يا رجل.
“ريكا”:
-انتقِ كلماتك يا قائد، لو تفوهت بهذه العبارة أمام تلك الذئاب البشرية، لك أن تتخيل حجم المأساة التي ستحل عليك يا قائد الشهوات أنت.
ثم عض شفاهه مستكملا بصفاقة:
-إنهم جياع محرومين “ريا”.
ألقى الآخر تلك اللفافة من يده ولم تكن أشرفت على منتصفها، فهو ليس من معاقرين التدخين، هذه هي مرته الثانية أو الثلاثة على ما يظن، فإلى جانب أنه لا يجد بها ملذة ولا متعة، فأنه يحرص كل الحرص على صحته؛ لذا لا يُقْبل عليها.
اعتدل أريان في جلسته ينزل قدميه من فوق التخت يهم بالنهوض، فقد قاده اليأس إليه عله يجد لديه الحل.
وقبل أن يستقيم من جلسته قبض “ريكا” على ذراعه، قائلاً بجدية:
-خلصنا “أريان”، قل ما جئت من أجله.
مال “أريان” بجذعه إلى الأمام يرتكز بمرفقيه إلى فخذيه، يخبأ وجهه بكلا راحتيه بضيق، زافراً أنفاساً مختنقة، بينما أفرج الآخر عن ذراعه مربتاً على كتفه بخفة، قائلاً بما لا يدع مجالاً للشك:
-تحدث “أريان”، لا أعتقد أن كلمة مما ستتفوه به الآن ستخرج عن ثلاثتنا.
قالها بثقة، وهو يوجه حديثه إليها دون أن يرفع نظره عن ذلك المكروب، لا ليسألها ولكن لتؤيد ما قال، مستكملاً:
-أليس كذلك دكتور “غادة”؟!
“غادة”؟! أين “غادة”؟! “غادة” شاخصة به وكأن على رأسها الطير، تراقب بإمعان كل همسة وكل لفتة، مُهلك أنت يا زعيم!!
وعندما لم يأته رد منها، رفع بصره إليها وجدها على تلك الحالة، فتراقص قلبه غبطة، ها قد بدأت تعجب به، لا يعلم أنها تخطت الإعجاب بمراحل.
فعاود مخاطبتها مرة أخرى، قائلاً بملامح وجه منبلجة:
-دكتور “غادة”، ما بك يا فتاة؟! ارأفي بي فعرض الآن سأكون أكثر من مرحب به، ليست كل العروض ترد يا شرس.
قال الأخيرة بغمزة، بينما تنحنحت بحرج، قائلة:
-عذراً لم انتبه لما قلته، فلم أنم جيداً.
ناظرها بتسلية قائلاً:
-حقا؟!….
وقبل أن يكمل عبارته وجدا ذلك الجالس يتحدث قائلاً بصوت معذب، وهو لازال يخبأ وجهه براحتيه:
-لم أتزوج لأنني كنت أبحث عن من تشغر مكانها بقلبي، بحثت بين جميعهن ولم أجد من تدق بابه، فهو بالأساس مكتف بمن تسكنه، لعنة الله على النساء أجمعين.
وكزه “ريكا” بكتفه قائلاً بحنق:
-مال النساء بخيبة أملك “ريا”!! ألعن كما تشاء ولكن استثني سمرائي.
دق قلبها بقوة، وتسارعت نبضاته وابتسامة ارتسمت على ثغرها تزينه، ولكنها وئدت بمهدها عندما رفع “أريان” رأسه، خافضا كفيه عن وجهه، قائلاً بسخرية:
-سمرائك!! أي واحدة تعني يا زير النساء؟!
بعدما لاحظ تغير معالم وجهها، وانطفاء لمعة عينيها بخيبة بعد تعقيب “أريان”، رفع إحدى راحتيه يمسح على وجهه بغضب، وصدرت عنه سبة نابية غير موجهة لشخص بعينه، وعقب قائلاً:
-تباً لك يا قائد الغباء أنت، كان هذا سابقاً قبل أن أقع لها لقد اكتفيت بإحدهن.
لازال التجهم يلوح على وجهها، فامتعض وجهه قائلاً:
-أقسم ما عدت، حقاً لقد اكتفيت بها عن سائر النساء.
ها قد بدأت عقدة جبينها تُفرج، وتبسمت عينيها من جديد.
ولا تعلم لم تصدق كل حرف تنبث به شفاهه ولكنها تثق به!!
فقال بجدية مخاطباً “أريان” الذي عاد لشروده:
-خلصنا “أريان”، وقل ما عندك ودون التفوه بحماقاتك عن تاريخي قبل الآن، تحدث ولا ترتاب دكتور “غادة” محل ثقة.
-فعلى أية حال لا أحد بإمكانه التلاعب أو الغدر بالداهية ومن قاده عقله ليتحالف مع أعدائي، أقسم بأنه لن يفلت، فهو في الطريق إلى هنا، وأنت ستأتيني بالآخر.
لقد استحوذ حديثه على كامل انتباهما، هي بفضول ورهبة وإعجاب بكبرياء وعظمة، وهو بلهفة وترتيب لعقد صفقة.
“أريان” بتفخيم لا يليق بغير الداهية:
-لا أفهم ما تعنيه، ولكن عندي استعداد للتحالف مع سفير جهنم فقط أحتاج لمساعدتك، فبدونك لن أحسن يا زعيم.
يالله لقد أصيبت بخلل في وظائف المخ حتماً، وباتت تشك في سلامة حواسها، مَن هنا القائد؟! ومَن عليه التوقير والتبجيل؟! ومَن لا يحسن بدون مَن؟!
أما “ريكا” يجلس وقد أَثْرت نظرات الإعجاب والتعجب التي ترمق بها كليهما جنون العظمة لديه، وأثارت خيلاء مترسخ داخله بالأساس.
“ريكا” قائلاً بثقة:
-إذا كان طلب فاعتبره نفذ، ولكن إذا كانت مساومة فلا حاجة لي عندك؛ لأقبل بشروطك.
“أريان” بلهفة:
-لا “ريكا” إنه رجاء يا زعيم.
المنطق بات في ذمة الله، أي هراء هذا؟! القائد يرجو!! وممن الالتماس!! من “ريكا” سجين لديه!!
جحظت عيناها بصدمة وهي تستمع لما يدور؛ السجين يملي شروطه ويَمِن على سجانه.
بينما حثه “ريكا” على استكمال حديثه قائلاً:
-أمنتك يا “ريا”، ماذا تريد؟
أطرق “أريان” رأسه قائلاً بقلة حيلة:
-أريد أن أخرجها من هنا، ستموت “ريكا”، أعرفها جيداً لا تطيق القيود، ذبلت وانطفأ وهج عينيها ولم تكمل هنا ليلة واحدة.
اختنق صوته قهراً وهو يمد يده يقبض على ظهر كفه قائلاً بتضرع:
-سأفعل ما تريد “ريكا” ولكن كن نصيري في هذا الرجاء يا زعيم، سأفعل ما تأمر به ولو كان آخر شيء سأقوم به حتى وإن سرحوني من وظيفتي ولو سأسجن عوضاً عنها، سأفعل، فقط أخرجها من هنا.
أيوجد حب مثل هذا؟! حقاً لا يفهما شيئاً مما يدور، ولكن رجاءه لامس قلبهما.
سحب “أريان” يده عندما أومأ إليه “ريكا” بالإيجاب، قائلاً بمآزارة:
-أهدأ “أريان”، وأفْهِمْني ما في الأمر حتى أستطيع المساعدة، تماسك يا رجل ولا تشغل بالك ستخرج، لكن من هي؟! ولِم أتت إلى هنا من الأساس؟!
زفر “أريان” أنفاسه بضيقٍ وهم، قائلاً بألم باتت معالمه ظاهرة على وجهه بوضوح:
-“سوزان مارتين” الوارد الجديد على طائرة الدعم اليوم.
“غادة” وقد اكتفت من كم الصدمات التي تنهال عليها هذا اليوم وكأن العالم أوشك على الانتهاء ولم يعد هناك مزيد من الوقت لتستقبل كل هذه الدفعات من الغرائب والعجائب مرة واحدة وبالنفس الليلة.
“غادة”:
-“سوزان مارتين”!! لا بربك، هل تقصد “سوزان مارتين” عارضة الأزياء؟!
أومأ “أريان” بإيجاب، فأردفت ببلاهة غير مصدقة:
-لا!! تباً لك “غادة” لقد أذهب عقلكِ على الأخير، وبتي تحتاجين إلى مصحة عقلية، ما يحدث الآن من المؤكد هلاوس سمعية وبصرية!!
أما “ريكا” بعد أن استمع إلى تعقيبها الأخير حتى رمقها بنظرة مرحة يملأها الوله، قائلاً:
-أذهب عقلكِ فقط؟! يا لا خسارته!! ماذا إذا كان يطمع في أكثر من ذلك!!
تخضب وجهها بحمرة الخجل، بينما وجه حديثه إلى “أريان” قائلاً:
-وما الذي أتى بها إلى هنا؟! ماذا فعلت مذهبة عقلك أنت الآخر حتى يزج بها إلى سجن الجزيرة؟!
أسند “أريان” مرفقه إلى حافة متكأ التخت يمسد جبهته بإرهاق، قائلاً بإيجاز:
- حُكمت في جريمة قتل.
“غادة” وهي تهز رأسها بعدم استيعاب، هاتفة:
-مَن المتهمة؟! وبماذا؟!
زجرها “ريكا” قائلاً بحدة طفيفة، وهو يتململ:
-“غادة” ما بك؟! ستقفز عينيك من الدهشة!! على رسلك يا فتاة!! لا أفهم منه شيئاً؛ بسبب مقاطعاتك.
أومأت برأسها كعلامة امتثال، بينما استطرد يخاطب ذلك المتجهم قائلاً:
-وماذا بها إذا قتلت شخص عن طريق الخطأ كحادثة سيارة مثلاً؟! هذا لا يجعلهم يرحلونها إلى هنا لابد وأن هناك شيء آخر!!
“أريان” بخزي:
-لأنها لم تقتل شخصاً واحداً، لقد قتلت أربعة أشخاص.
ردد كلا من “غادة” و “ريكا” في الوقت ذاته وقد اتسعت أعينهما بصدمة:
-ماذا؟!
استكمل “أريان”:
-وبوحشية، التقرير المرفق في سجل الوارد يقر تورطها بأربعة جرائم قتل عائلة بأكملها، وذلك بطعن كلاً منهم عدة طعنات بآلة حادة.
هز “ريكا” رأسه بتهكم، يقول ساخراً:
-تلك التي تنضح عينيك قلوباً من أجلها قتلت أربعة أشخاص بتلك الطريقة؟!
“غادة” بمقاطعة:
-لابد وأن هناك شيء، خاطئ هيئتها لا توحي بذلك.
“أريان” بحيرة:
-لا أعلم شيئاً، عقلي متوقف عن العمل، لا أستوعب ما حدث، وحالتها تزيد الأمر سوءاً.
” ريكا” باستفسار:
-لِم لَم تسألها لتستفهم عما حدث؟! وكيف لا تعرف ،ألم تكن في إجازة مؤخراً؟! ما كل هذا الغموض؟!
“أريان” ضاغطاً بأنامله على مقدمة أنفه، قائلاً بفتور:
-لقد افترقنا لفترة، ولم يكن بيننا تواصل.
“ريكا” مشيحاً بيده، في نزق:
-بربك “أريان” مهما دام خصامكما، فلابد وأنك على علم بما حدث، فتلك القضايا تثير الجدل وحتماً أنها حاولت التواصل معك، وإذا لم تفعل فها هي هنا لٍم لَم تستفسر منها؟!
-فإذا كانت تلك التهمة ملفقة ربما نجد لها مخرجاً، بدل من تهريبها وتظلا أنت وهي مطارديْن!!
استقام “أريان” من مجلسه يقول بهتاف معذب، تتخلل حدته ألم ويأس:
-لم أستطع “ريكا”، عندما رأيتها تذكرت جرحها لي، تذكرت غدرها بي، ولم يطاوعني لساني على مخاطبتها، بكت وطلبت الصفح ولم أمنحها إياه.
وأشار إلى صدره جهة اليسار، مردفاً بصوت متحشرج:
-هذا اللعين قادني إليها، هذا اللعين لازال ينبض لها، بعد هجرها لي لازالت تأثر به، لم تغيره سنوات البعد والهجر، لازال حبها داخلي وكأننا افترقنا أمس وكأنه لم يمر على لقاءنا 20 عاماً.
-شاب قلبي في حبها ولازالت كما هي تلك الفتاة الصغيرة التي كانت ترتمي بين ذراعي حين تلقاني.
أدمعت عينا “غادة” بتأثر وللحق تعاطف الداهية صاحب القلب الفولاذي مع معاناته، فسمرائه ألانت الحديد ووشمت قلبه بلعنة حبها.
“غادة” بأسى:
-أهدأ سيادة القائد، أنا سأتحدث إليها وأفهم منها ما حدث، ولحين معرفة السبب وراء كل هذا الغموض، وكونها بريئة أم لا، برغم إحساسي أن شخص مثلها لن يقدم على فعل هذا وبتلك الطريقة التي ذكرتها.
-سوف أدرج اسمها بقائمة السجينات اللاتي يقمن بمساعدة فريق التمريض هنا بدلاً من توزيعها على الأشغال الخاصة بالورش النسائية أو أعمال التنظيف؛حتى تكون قريبة إلي وأتمكن من مخالطتها وكسب ثقتها كي تفصح لي عما حدث.
-فقد يستطيع “ريكا” إيجاد مخرجاً لها كما قال، لأنني أوافقه الرأي في كون الهروب ليس بالحل الأمثل.
“أريان” بلهفة:
-أحقاً دكتور “غادة”؟! هل ستساعديني في هذا الأمر؟! أريد أن أعرف كل شيء؟! منذ أن….. أعني..
ثم أطرق رأسه بخزي، مستكملاً:
-منذ أن تركتني.
“ريكا” بسأم:
-لا “أريان”، حالتك ميؤوس منها يا رجل؟!
ثم توجه بحديثه، إلى “غادة”، قائلاً:
-وبالمرة استفسري منها كم ابن لديها؟! وكم رجلاً عاشرت؟!
وعقب قائلاً:
-أم أنك تعتقد أنها كانت راهبة بأحد الأديرة!! إنها شخصية عامة كما تقول فلابد وأن لها معجبون كُثر وحتماً انهالت عليها عروض الزواج من شخصيات مرموقة.
-وربما رُحِّلت إلى هنا وهي لازالت زوجة لأحدهم، فكما ذكرت لم تراها منذ 20 عاماً.
وعلى ذكر ما تلفظ به “ريكا” ساخراً، تطرق إلى ما ذكرته أثناء تواجدها بمكتبه قائلاً بارتباك، فحتماً سيظنان أنه أبله إذا أتى على ذكر ذلك،
خاصةً وأنه لم يكن ناسكاً معتزلاً للنساء، أحبها بل عشقها، وحبه لها لم يحول دون تجاهل احتياجاته كرجل.
فهو بالأخير بشر وتلك هي طبيعة الإنسان، فالغرائز دائماّ ما تقودنا إلى استكشاف عالم موازي، عالم الجنس الآخر وكلاً منا حسب معتقداته ومفاهيمه وثقافته.
إما أن يشبع غرائزه الجنسية على نحو صحيح مع الشخص الذي يراه نصفاً آخر له في ظل روابط تبيحها شريعته.
وإما أن تقوده غرائزه إلى الانسياق وراء نزوات وعلاقات محرمة دينياً وأخلاقياً.
“أريان” بحرج ليس فقط مما سيقول ولكن مما سيعقب به ذلك الصفيق، بل وستبدو تعليقاته اللاذعة أكثر منطقية، فهو حتى الآن لا يصدق ما قالت، أو للدقة لا يستوعبه:
-دكتور “غادة” لقد أكدت عند استيفائي لبياناتها بدفتر الوارد في بيان الحالة أنها.. أنها…
ثم انعقد لسانه ولم تأته الجرأة؛ ليكمل، بينما زفر “ريكا” قائلاً بتأفف:
-إنها ماذا!! هل خضعت لعملية تحويل أم إنها ذكر بالفعل؟! أتم جملة حتى نهايتها “أريان” بدلاً من التأتأة التي أنت عليها الآن، مللت يا رجل.
“أريان” بضيق:
-كفاك سخرية وتهكم، حتى أنا لا أستوعب ما قالت.
“غادة” ببلاهة:
-تستوعب ماذا؟! أنها ذكر؟!
“أريان” محركاً رأسه ينفي ما قالت مستطرداً بتوجس:
-إنها عذراء.
“ريكا” هازئاً:
-يالا سذاجتك!! قل كلاماً يعقل “أريان”، من تتحدث عنها تلك، كم عمرها الآن يا قائد الحماقات أنت؟!
“أريان” بثورة؛ من استهزائه وتجاوزه في الحديث:
-كفاك تطاولاً “ريكا”، وإلا…….
بتر “ريكا” جملته مقاطعاً بحدة مماثلة، وهو يهب واقفاً من مجلسه، متقدماً نحوه، يقف باسطاً عضلاته بسطو، رافعاً رأسه إليه في شموخ:
-وإلا ماذا؟! إذا لم أكف ماذا عساك أن تفعل “ريا”؟! احفظ لسانك أنت من عليه التزام الحدود هنا، فإذا أصغيت إليك هذا لا يعني أن تجرؤ على تهديد الداهية.
-لم يخلق بعد من يفعلها، وإن وجد سأعلق لسانه السليط هذا دلاية برقبته.
وأشار بسبابته إلى نحره، فابتلع الآخر رمقه بتوجس، بينما هناك من تقف مشدوهة، ترميه بنظرات إعجاب وفخر لا تعلم سببه أو تعلم ولكنها تكابر.
“غادة” بتدخل:
-اهدأ “ريكا”، لا تأزما الأمور على هذا النحو.
“أريان” باعتذارٍ مبطن:
-أنت لا تعلم ما أعانيه الآن، تدور برأسي الدوائر، وأول شخص فكرت أنه يمكنني طلب مساعدته هو أنت، فبرغم كل شيء أعلم أن الداهية لا يرد سائليه.
ما قاله “أريان” ليس إدعاء أو مراءاة، فالداهية برغم كل ما اقترفته يداه لكنه أبداٌ لا يتوانى عن مآزارة لاجئيه، لا يغلق بابه بوجه من جاءه يطلب العون، عار عليه إذا احتمى به شخص وخذله هذا هو الداهية.
نصرٌ ظفر به الداهية دون سعي، سيمرقها لأجل تلك النظرة التي لمحها بعينيها، نظرة الإعجاب والتباهي التي لمعت بمقلتيها تغفر لهذا السفيه من وجهة نظره ما قال، وبموجب نظرة الرجاء التي تلتها فهو على استعداداً تام لفعل ما يخرق قواعد المعقول.
“ريكا” بنبرةٍ أقل حدة، قائلاً بصيغة آمرة:
-انتهينا “أريان” سأنتظر رأي دكتور “غادة” بعد أن تفتينا بأمرها، و سأخبرك بما ستؤول إليه الأمور.
“أريان” موجهاً حديثه إلى “غادة”:
-اعلم أن هذا ليس من اختصاصك ولكني أتمنى إذا كان في إمكانك التأكيد أو النفي.
انعقد حاجبيها بعدم فهم فاستطردت تقول بتساؤل:
-لا أفهم سيادة القائد، كيف يمكنني المساعدة؟!
“أريان” بثبات:
-أريدها أن تخضع لفحص العذرية، هل يمكنك إفادتي بهذا الأمر؟!
“غادة” بعملية:
-بالطبع سيادة القائد، ولكن هل ستوافق هي على إجراء الفحص؟!
“أريان” بعناد وداخله لا يعلم إذا كان سيقدر على التنفيذ أم لا:
-إذا رفضت الخضوع إلى الفحص، فهي مدعية وقالت ذلك لأتعاطف معها وفي تلك حالة دعونا ننسى ما دار بيننا الآن.
-وكما هو معروف عنك يا زعيم بإنك لا ترد لاجئيك، فأنا لا أخلف وعودي.
-وبشأن اتفاقنا الآخر فأنا على أتم الاستعداد لتنفيذ ما ستراه مناسباً بشأن ذاك اللعين “نك”، على أية حال لقد كنت مجبراً على ما حدث.
“ريكا” بإيماءة، قائلاً:
-اذهب الآن “أريان” أريد أن أنال قسطاً من الراحة، وبعد أن استرد عافيتي لنا حديث بهذا الشأن.
“أريان” بامتثال:
-حسناً يا زعيم.
توجه “أريان” ناحية الباب؛ ليبرح المكان، وبعد عدة خطوات توقف يلتفت إليها، قائلاً:
-دكتور “غادة” لحين خضوعها للكشف، ادرجي اسمها ضمن المنتدبين لمعاونة قسم التمريض وسأؤشر على الطلب بالقبول.
“غادة”:
-أوامرك سيادة القائد.
استكمل “أريان” طريقه إلى الخارج وما إن اختفى عن الأنظار حتى_
رواية سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ