رواية سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة الفصل 38

Prewedding

*في سجن الجزيرة.

أنجلت عتمة الليل لتبزغ شمس نهار جديد تداعب أهداب تلك التي انكمشت على حالها تتخذ وضعية الجنين من طاقة نور تنبعث من نافذة بأعلى الجدار المقابل لزنزانة العنبر المتكورة بجسدها على تخته.

وهي تفرج عن جفنيها بصعوبة، وهذا الضوء المتسلل عبر النافذة يشعرها بالضيق، فقد أخرجها من حلم تتمنى كل ليلة أن يراوضها وتنتظر أن يغزوها النعاس كي تنعم به، هذا الحلم به وله وعنه.

-“أريان”.

هذا ما نطقت به شفاهها وهي تستمع إلى أصوات بالخارج في ممر العنابر تكات مفاتيح تدار وأبواب تفتح وخطوات تقترب.

إلى أن توقفت إحدى الحارسات أمام بوابة الزنزانة القابعة بها تدير قفل بابها، وحالة نشاط وحركة تعم الأجواء بالخارج، وتلك الحارسة تحثها باقتضاب قائلةً:

-هيا انهضي، طابور العرض لتوزيع المهام لن ينتظركِ، وفي حالة تلكؤكِ ستعرضي حالكِ للتعنيف وربما يصل الأمر للعقاب.

قالت الحارسة تلك الكلمات، واستدارت لتخرج على الفور تاركةً تلك التي تحاول لملمت قواها فقط لتتمكن من النهوض، شاعرة بالتخبط والتيه، لا تعرف معنى طابور العرض، ولا مقصدها بشأن توزيع المهام، ولا إلام سيصل ذلك العقاب و التعنيف!!

ابتهجت أوداجها وهي تجد قلبها يتراقص فرحاً عندما خطر ببالها أنها يمكن أن تره الآن بذاك المسمى بطابور العرض.

أخذت تعدل من هيئتها وهي تخلع عن خصلات شعرها ذلك الرباط الذي يقيد حريته فهو دائماً ما كان يناشدها أن لا تجمع خصلاتها الحريرية في حضرته.

بعد فقرة التأنق تلك، وللحقيقة هي ليست بحاجة إليها، انطلقت مهرولة خلف الحارسة لتعرف مكانها فيما أسمته بطابور الصباح. 
وليس كأي صباح أنه صباح على وجه “أريانها”!!

بعد أن هبطت الدرج في تعجل تتخبط بكل من تمر بجواره من سجينات تصطدم وتعتذر حتى انقادت خلف الجمع إلى ساحة واسعة.

يقف بمنتصفها ذلك الوسيم بشموخ يعقد ذراعيه خلف ظهره، يرفع رأسه بكبرياءٍ وعظمة، ودون وعي توجهت نحوه.

وهذا الواقف يلتمس التماسك لذا كان يبتعد بناظريه عن بوابة القسم الخاص بذلك العنبر الذي ستهل عليه منها، يتظاهر بانشغاله في متابعة وتفقد البقية.

أما هي عندما لاحظت إحدى ضابطات التمام  شرودها عن موقع الطابور، أسرعت نحوها تجذبها قابضة على ذراعها بقوة تعيدها إلى السرية في محاذاة الصف.

وهي تنهرها قائلة:

-هاااي أنتِ، إلى أين أيتها الخرقاء؟! ستدودرين حالك!! 
القائد لا يتهاون.

لاحظ “أريان” تعنيف الضابطة لصغيرته، ولكن لا يمكنه التدخل، أي تدخل الآن سيلفت الانتباه ويثير الجدل، فصمت مرغماً وذلك حفاظاً على هيبته ووقاره.

بينما استقامت بالصف ورأسها ملتفٌ تجاهه تتأمله بولهٍ وشغف، عضلاته التي زاد بروزها عن ذي قبل في ذلك الزي العسكري أعطته طلة تشع قوةً وصلابة، حضوره الطاغي زاده جاذبية، وملامحه التي أكسبها ضوء الشمس سمرة أبرزت وسامته.

فذاك الزي وتلك الرسمية وهذه الهالة من الهيبة لا تليق إلا ب “أريان” أو كما يحب أن تناديه “ريو”.

توقفت ضابطة التمام أمام الصف، تأمرهن بقوة:

-انتباه.

عن أي انتباه تتحدث؟! 
فصديقتنا “سو” في عالم موازي.
عقلها وذهنها وتفكيرها موجهٌ إليه، حتى نظرات عينيها لا تحيد عنه.

بخطوات نظامية تقدمت منها تلك الضابطة حتى أصبحت أمامها قاطعة ذلك الاسترسال البصري الموجه منها إليه، ونظراتها تسأله باستمالة أن يوهبها التفاتة.

و للحقيقة هو يريد أن يشبع وصبه إليها ويتمنى أن يختفي العالم حوله إلا منها، ولكن ما باليد حيلة.

الضابطة وهي تشيح بيدها في وجه تلك الشاردة:

-ما بك أنت؟! ألا تسمعين؟!

أسبلت جفنيها بخزي عندما استمعت إلى توبيخ الضابطة قائلة بصوتٍ رقيق عذب انتبه له من وصل إليه نبرته ممن هن بالصف أمامها وخلفها وقد جذبهن حلاوة النبرة وجمال الهيئة، فهذا تأثيرها عليهن. 
فما بالنا بحاله هو!!
أعانك الله “أريان” على ما ابتلاك به من فتنة.

“سوزان”:

-عذراً سيادة الضابط، لم أكن منتبهة.

أومأت الضابطة بتفهم، وأردفت:

-عليك الانتباه وسرعة تنفيذ الأمر.

أجابت “سوزان”:

-حسناً سيادة الضابط.

كل هذا دائر تحت أنظار من يدعي عدم الاهتمام وهناك قبضة تعتصر مضغته النابضة بداخل ضلوعه حزناً عليها، لاعناً كل قيد حال دون جذبها إلى أحضانه؛ لتكن مصانة بمكانها الصحيح، فقلبه سكن لها.

عادت الضابطة إلى موقعها أمام طابور العرض، وهي تتلو عليهن اللائحة الخاصة بتقسيم المهام مع ذكر أسماء السجينات المدرجات بكل قائمة على حدى مع تعريف كل مجموعة المهام المُوكَّلة إليهن.

وفي تلك الأثناء كان هناك اثنتان ممن تجاورنها بطابور العرض يتحدثان بصوت وصلها بوضوح، وهما يتآكلناه بنظراتهما.

الأولى:

-تباً لوسامته، أحترق شوقاً لقبلة من ذلك الفتيُّ.

الثانية بهيام:

-صدقتي قبلة وليلة و…….

وقبل أن تكمل تدخلت تلك التي تتميز غيظاً وغيرة، ولم تشغل بالها من هي ولا مع من ستفتعل المشكلة.
ولا عاقبة ما ستقول وما سيحدث، كل ما بها الآن نيران ستنشب بجسد كل من تحاول أن تتقرب أو تتودد له.

لا الوضع أخطر بكثير، بل إنها ستفتك بكل من شردت بخيالها ليكن “أريانها” بطل أحلام الغفوة أو اليقظة لواحدة غيرها.

فقالت تنهرهما بحدة وقد ارتفع صوتها:

-ما بكما أنتما الاثنتان؟! ألا تخجلا!!

توجهت كلتاهما بنظراتهما إليها، فقالت الأولى بتهديد مبطن:

-نعم لا نخجلا ولا نخافا أيضاً، ولو تجرأت إحداهن ورفعت صوتها على إحدانا يمكننا تشويه وجهها الجميل هذا، ونحيلها إلى مسخ دميم يكره الجن ذاته النظر إليها، أفهمت يا قطة؟!

توجهت إليهن ضابطة الصف وتقدم الآخر منهن بعدما لاحظ الجمع وجود بلبلة في بؤرة الصف، وتلك التي ستصيبه بأزمة قلبية تفتعل المشاكل مع اثنتان من أخطر السجينات.

إحداهن قاتلة مأجورة تقتل ضحاياها بطرق وحشية بناء على رغبة المستأجر الانتقامية.

والثانية واحدة من تجار الأعضاء البشرية وقد ضبطت بالوكر الذي تحتجز فيه من قامت باختطافهم هي وعصابتها.
وتحفظت القوة المداهمة للوكر على خمسة عشر جثة حديثة التصفية.

وقد تمكن الطبيب معدوم الضمير من الهرب أثناء المداهمة وذلك بعد أن قام بإخلاء جثامين الضحايا من كل عضو بأجسادهم يمكن المتاجرة به.

وبذلك تحملت تلك السجينة العقوبة كاملة بعد أن حُكِمت بعدة قضايا كان مجموع أحكامها يجعلها بحاجة إلى أعمارٍ وأعمار فوق عمرها القادم والذي مضى أيضاً؛ لتفي مدة عقوبتها.

زجرها بعينيه قائلاً في المطلق يشمل حديثه جميعهن:

-ماذا يجري هنا؟!

ثم أشار إلى السجينتين، مستطرداً:

-أنتما الاثنتان، المدة التي قضيتاها هنا تجعلكما على علم تام بالقواعد، لِمَ المخالفة إذاً؟!

تحدثت إحداهما بخلاعة وغرضها لفت انتباهه:

-أرأيت يا قائدي؟! هذه التي لا أعرف اسم لها!! تطاولت علي أنا ورفيقتي دون أن يصدر مني ولو كلمة موجهة إليها!! هل يرضيك ذلك أيها القائد الوسيم؟!

رائحة احتراق قلب تنهشه الغيرة، وألسنة لهب اندلعت من عيني تلك الساحرة الصغيرة، فلو أطلقت العنان لسهام نظراتها لأردتها قتيلة.

وهي تقول ببسالة لا يحمد عقباها:

-هاااااي أنتِ أيتها الوقحة!! تتغزلين بالقائد هكذا وعلى الملء!! ابلعي لسانك وكفي عن خلاعتك المبتذلة تلك يا قبيحة.

لا يعلم أيبتهج لِما يسمع ويرى!! 
فصغيرته تغار، وكم بدت لذيذة!! وهي تدافع عن حقها به.

أم يشق هذا الزي الذي يرتديه كأرملة تنعي بعلها، بعد ما أقحمت به حالها تلك الساذجة؟!

وفضاً لهذا النزاع الذي يحدث؛ رفع كفه بوجههن فقضمت ثلاثتهن حديثهن.

وهو يقول بقوة وتعنيف حقناً للدماء، وبالطبع ما يهمه الحفاظ على دمائها من الهدر هي تلك الحمقاء الغيورة.

“أريان” بحزم:

-أنا لا أقبل أي مخالفات وتجاوزات تحدث هنا في مكان أنا قائده. 
ومن أخطأت منكن عليها الاعتذار.

ثم توجه إليها يحثها بنظراته الراجية على تنفيذ الأمر، فإذا استطاع حمايتها الآن فقد يتربصا بها في وقتٍ آخر وقد لا يسعفه الوقت في إنقاذها.

أما هي ففسرت أمره ونظراته إنه يمعن في إذلالها، وذلك عندما رأت بعيني هاتين القميئتين نظرات تشفٍّ؛ وهو يأمرها دونهما على تقديم الاعتذار، فقالت بتحدٍ وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها:

-لم أخطأ لأعتذر سيادة القائد.

ناظراها بشر لم يخفَ عليه، وعيناهما ينبثق من جوف بئر الغل والثأر الكامن بمقلتيهما عزماً لا هوادة فيه على تلقينها درساً يجعلها عبرة بين السجينات حتى لا تتجرأ أخرى على مناطحتهما.

ما شطح به خياله جعل قلبه يرتعد خوفاً عليها، فالوضع الآن لا يبشر بالخير، وإذا لم يتخذ موقف ما من شأنه ردع تلك العداوة التي ستكن الغلبة فيها لخصيمتيها فلا قبل لها بإحداهما. 
فما بالكم بمحرابي الشر مجتمعين!!

جز على أنيابه من يباسة رأسها وصلادة فكرها،  يأمر الضابطة قائلاً وهو يشير نحو من أفقدته صبره:

-أديريها مكتب؛ لأرَ ما قصتها، فلابد وأن تعاقب على مخالفتها للأوامر وإثارة الفتن بين زميلاتها.

نظرات خيبة ولوم رمته بها وهي تطرق رأسها أرضاً بقهرٍ وحزن؛ فقد ظنت أنه سينصفها عليهما، ولا تعرف ضيقة الأفق تلك أنه يحميها من هلاك محتم، فإذا لم يشفِ هو غليل الأخرتين، فعليه أن ينعيها من الآن.

فحتماً لن يستعصَ على هاتين الشرهتين للدماء قتلها والتمثيل بجثتها وبدم بارد دون أن يرف لهما جفن.

انقادت خلف الضابطة التي وضعت إحدى حلقات الأصفاد الحديدية حول معصمها والحلقة الأخرى تجذبها منها لتسر تلك التي تشعر بالخزي خلفها تجر قدميها بتوجس وريبة، وهي تسأل حالها:

“هل فقدته إلى الأبد، وستظل تتوسله نظرة حبٍ حتى تموت قهراً أمام عينيه حتى تُشْفَ جراح الماضي؟!!” الرواية كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top