فقد بلغ جنون إحداهن إلى أنها قامت بتصوير ليلتهما معًا، ونشرتها على حساباتها بكل مواقع التواصل الاجتماعي، تحت عنوان “ليلتي مع الداهية”، وللحق سجل هذا الفيديو رقمًا قياسيًا لعدد المشاهدات.
ولكن في حالته هذه مع سمرائه تلك، ذات التركيبة الفريدة، بعيونٍ زرقاء، وشعرٌ غجري كستنائي، وبشرةٍ برونزية، لا يسعى لقضاء ليلةٍ معها يكفيه رؤياها من تلك النافذة.
أخذ يدور حول تلك السكنة التي يراها تطل من نافذتها، كالصياد المرابط لفريسته، لا هذه المرة غير، ولنقل “روميو” الماثل تحت شرفة “جوليته”، ينتظر أن تنعم عليه بمرآها، ولكنها للآن لم تظهر، أخذ يحادثها وكأنها تسمعه:
-أين أنت سمرائي؟ اشتقت لرؤياكِ، أتشتاقين إليَّ، مثلما أتوق إليكِ؟! أم أنني أتوهم؟
شرد في الماضي القريب، عندما كان يقف هنا في تلك الساحة، يحتشد حوله هو وخصمه مجموعةٌ كبيرة من السجناء، وهو يناوره قبل الهجوم، وأراد الخصم أن يسدد له لكمةً مباغتة بقبضته تستهدف وجهه، فتفاداها ببرعةٍ جاعلًا يد الخصم تطير في الهواء دون أن تلمسه، مندفعًا إلى الأمام، حتى تخطاه.
ففاجئه “ريكا” بركلةٍ قوية في باطن قدمه من الخلف، مما أدى إلى انبطاح الخصم على وجهه، وعندما رفع بصره إليها وجدها تصفق بإعجابٍ، وبقى أن تطلق صافرة تشجيع.
بفعلتها تلك جعلت الدماء تندفع إلى عروقه في حالة نشوى لم يعهدها من قبل، وكأنه تلقى للتو جرعة محفزاتٍ، تلك التي يُقْبِل عليها بعضاً من لاعبي الملاكمة أو مَن يمارسون مباريات قتال الشوارع، وعندما شاهد ردة فعلها تلك، أخذ يزأر وهو يدور حول خصمه المنبطح أرضًا يحرك عضلات صدره العاري بإستعراض،قبل أن يجثُ فوقه يُكَيِّل له الضربات المتتالية.
هو ليس بشخصٍ سادي متعطشٌ للدماء، وإنما كل تلك المهارة أبرزها؛ ليحوز على إعجابها.
منذ ذلك اليوم وهو يأتي إلى هنا في جولةٍ استكشافية، فقط ليراها.
توقف في مكانٍ يستطيع منه رصد تلك الشرفة، يستند بظهره إلى جدار الحائط خلفه، يثني ركبته اليمنى، يستند بها إليه، مادًا يده إلى جيب قميصه، يخرج علبة لفائفه، يشعل إحداها، ينفث دخانها بنزق، فيبدو أنها لن تظهر اليوم أيضاً.
ومع خروج آخر نفس سحبه من تلك اللفافة، خرج مع دخانها، آهة حارقة أشعلت صدره يأسًا، فلقد أعلن ذلك الإنذار ضرورة إنسحاب كل السجناء إلى عنابرهم، وكم كره تلك الصافرة التي حرمته إنتظارها .
يكره القيود، محبٌّ للحرية، ولكنه في هذا الوقت، ومع هذا الإحساس الذي لم يستشعره من قبل، أحب قيده معها، عشق سجنه بقربها، تمنى لو حُكِم عليه بالسجن مدى الحياة، مادامت تلك الجدران تحوي جسدها.
حتى لو كانت بمنأى عنه، لا يتحدثان، ولا يجتمعان، ولا يستطيع بثها هذا الشعور الذي تسلل إلى قلبه لها، تلك القريبة البعيدة.
فهو لو أراد الخروج من محبسه هذا، لأرسل إشارة كَتِلْكَ التي أرسلها إلى صديقه المخلص “نك” وغيره الكثيرون الذين يتفانون في نَيْل ثقته، صديقٌ كان أو عدو، ويالا كثرة الأصدقاء، أما الأعداء سيقدمون يد العون؛ تجنبًا بطشه، وكي يأمنوا غدره وعداوته، وهم على عِلمٍ تام بأنه خارجٌ لا محالة.
لو أراد لشن أسطول طائرات روسية على أحدث طراز هجوماً على هذا المنفى يخسفه عن بَكْرةِ أبيه، يدكه مساوياً له بالأرض، وكأنه لم يكن، ولكن هذا آخر شئٌ يريده، هو الآن في قمة استمتاعه.
جر قدميه يبتعد عن ذلك المكان، عائداً إلى عنبره، غافلاً عن ذلك المراقب الذي ما إن سنحت له الفرصة، حتى انقض عليه من الخلف بِخِسَّة، يطوق عنقه بإحدى ذراعيه، وبيده الآخر شيءٌ لامعٌ، صدح بريقه وهو يرفعه لأعلى غارساً إياه بصدر “ريكا” في سرعةٍ لم يستوعبها بعد.
خرجت عنه صرخة ألم مكتومة عندما سحب هذا المهاجم نصل سكينه من الجرح الغائر الذي سببه للآخر، يستعد لتغفيلةٍ أخرى يقصد بها إنهاء الأمر كلياً بإزهاق روحه.
صاحَبَ تلك الصرخة، انتباهاً لغريزة البقاء لديه، فقام بإمالة رأسه إلى الأمام، يرتد بها إلى الخلف بقوة، يضرب وجه مهاجمه، مسببًا له نزيف حاد بأنفه أدت إلى حالة من التشوش ، وربما كسرت سناً أو اثنين من أسنان فكه الأمامية، سقط على إثرها أرضاً ذلك السكين الملوث بدم “ريكا”.
فأنحنى يلتقطه تزامناً مع فك المهاجم لحصار رقبته، فرفع “ريكا” جسده سريعاً، يلتف مواجهاً مهاجمه يلتقط إحدى ذراعيه يلويها بقوةٍ متخذاً هو وضعية الآخر، فأصبح هو المسيطر على هذا الشخص، يصوب نصل السكين إلى رقبة خصمه، غارزاً طرفها بعنقه دون أن يغمدها به، فتسبب ذلك بثقبٍ في رقبة الآخر، يسيل منه خطٌ رفيع من دمائه الساخنة.
اقترب “ريكا” من أذنه وهو يطوق رقبته، يشدد من حصارها بساعده، وهو يقاوم نزيف جرحه، يفح بأذنه حديثه، قائلاً:
-من أنت؟! ومن أمرك بذلك؟!
أخذ الآخر يئن بألمٍ ناتج عن إحساسه بالإختناق إلى جانب ضغطت “ريكا” بنصل السكين موضع الثقب النازف.
وعندما لم يجيب الآخر، قال له بتهديدٍ جحيميّ:
-حسناً ابقى على صمتك، وتجرع وحدك نتيجة أفعالك، ومحرضك ينعم بحياته، في حين خروج روحك من هذا الجسد؛ لينتظرني بالجحيم حتى آتيك؛ لأكمل ما سأبدأه الآن من تشريح أعضاءك، يا عديم العقل.
جحظت أعين المكبل أمامه وهو يهز رأسه برفضٍ، فخفف “ريكا” من قبضته على نحره؛ ليسعل الآخر ملتقطاً أنفاساً مسلوبة، والحديث يخرج من فمه دفعة واحدة، قائلاً:
-لا، بربك، سأتحدث، مَن أمرني بفعل ذلك
سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ