في الحانة المملوكة لزعيم المافيا “ريكا”، تحديداً داخل المكتب القابع به “نك”
تشنجت معالم وجه نك، وهو يسب ويلعن تلك المحتالة، يطيح بما يوجد أمامه على المكتب، يزأر بغضبٍ، متوعدًا إياها:
-أتسرقين “نك” الذي جابها من شرقها إلى غربها، أي ريحٍ خبيثة ألقت بك في جحيمي أيتها العاهرة.
رفع كفه الأيمن يدلك فقرات رقبته من الخلف، فمنذ أن كان في ذلك الدار وهو تلازمه حالة من التشنج في فقرات عنقه عندما تنتابه حالة من الثورة والغضب، يمكننا أن نعتبرها متلازمة لمرض نفسي.
توقفت يده فجأة يتحسس موضع ذلك السلسال الذهبي ذو دلاية على شكل خطاف مرصع بفصوص من الأحجار الكريمة.
سك على أسنانه بغيظ وهو ينظر إلى كف يده الخالي أيضاً من الخاتم وسوار اليد الخاص بالسلسال، فيبدو أن تلك الماكرة لم تكتفي بالهاتف وحافظة النقود، وإنما أخذت كل ما غلا ثمنه وخف وزنه.
سبة أخرى خرجت من شفاهه، وهو يقول:
-يا لا العذاب الذي ستتجرعينه على يدي!!ستتمنين الموت ليخلصك من هول ما ستلاقي.
وبينما هو على تلك الحالة استمع إلى طرق علي باب المكتب، فأذن للطارق بالدخول.
تقدم “أستيڤ” يناظره بنظرة شغوفة، وهو يراه واقفاً يستند بكفيه على المكتب أمامه، وقميصه المفتوح يكشف عن عضلات صدره وبطنه المشدودة في هيئة أسالت لعاب هذا المنحرف، اقترب منه تلك المسافة الصغيرة الفاصلة بين باب المكتب ومكان وقوفه.
“أستيڤ” بميوعة وهو يضع يده على ذراعه قائلاً بإغواء:
-ما بك سيدي؟! ألم تستمتع بوقتك مع تلك الفتاة؟! لا عليك يمكننا أن نكمل السهرة معاً هنا أو بأي مكان تريده.
ألتف “نك” إليه يرمقه بتقزز، ينفض يده الممسكة بذراعه، قائلاً بغضب محتدم:
-“أستيييڤ”، لا أريد أن أصب كامل غضبي عليك، ابتعد مسافة كافية، وإلا لن يعجبك ما ستجدني عليه الآن.
“أستيڤ”:
-يا لك من شرس، أعشق العنف.
“نك” بنفاذ صبر:
-إذن أنت مُصِر؟!
“أستيڤ” بإلحاح:
-جداااااً.
“نك” وقد وجد مبتغاه، إنه بحاجة ليفرغ تلك الشحنة بداخله:
-إذاً اقترب “أستيڤ”.
اقترب “أستيڤ” ليقبض “نك” على عنقه من الخلف؛ يدفعه بقوة لتصطدم جبهته بسطح المكتب أمامه بشدة، حقاً يستحقها هنيئاً لك “أستيڤ”.
“نك”:
-أتريد المزيد أم يكفيك هذا؟
قالها ويده تعبث بمحتويات درج المكتب، يخرج طبنجته التي وضعها به قبل دخول تلك المحتالة، يشد صمام أمانها، ويضعها أمامه على المكتب.
“أستيف” بهلع، وهو يهز رأسه برفض متراجعاً إلى الخلف:
-هذا يكفي سيد “نك”، أقسم هذا يكفي، أرجوك اسمح لي بالخروج.
“نك” بسخرية:
-ولِمَ أتيت من الأساس؟!
“أستيڤ” بتذكر، قائلاً بتوجس:
-هناك شخص في الصالة يسأل عنك، يقول أنه صديق جاءك برسالة من الجزيرة، كنت سأطرده، ولكن قولت أن أخبرك أولاً سيد “نك” لعله أمر هام.
“نك”:
-الزعيم، هذا لقبي من الآن فصاعداً، “الزعيم نك”.
أجاب “أستيڤ” سريعاً:
-أعتذر أيها الزعيم، هل أدعه يدخل لمقابلتك؟!
“نك” وهو يغلق أزرار قميصه ويعدل من هيئته:
-لا، أنا خارج إليه، أعطني عنوان تلك الفتاة.
“ستيف” :
-أي فتاة؟!
“نك” ملتقطاً سلاحه، فقد نفذ صبره من هذا المخنث، وقبل أن يصوبه كان الآخر يعطيه وصفاً مفصلاً بعنوان ذاك النُّزُل الذي تقطن به “ساندي”.
خرج “نك” من باب الصالة، بعد أن التقى بذلك الحارس المسئول عن استقبال الإشارات من سجن الجزيرة، وأبلغه الأخير بالرسالة التي تلقاها من نظيره على الطرف الآخر، وتقاضى مقابل ذلك مبلغاً لا بأس به من المال، أغدقه عليه “نك”.
وبرغم سخطه مما حدث من تلك المحتالة، إلا أنه سَعِد برغبة “ريكا”، فإذا لم يتمكن “أريان” من تخليصه من عائقه الأكبر، فبالطبع سيفعلها “سام”.
وهكذا سيكون أصاب عصفورين بحجرٍ واحد، أولهما إزاحة “ريكا” من طريقه إلى الأبد، والثاني إخلاء الساحة من “سام” الذي يمثل تهديداً؛ لكونه معارض للنشاطات التي يقوم بها تلك الجماعات وزعمائها والذي يعتبر نفسه واحد منهم الآن.
عند خروجه أشار لواحد من رجاله المرابطين أمام الحانة، فحضر على الفور، الرجل:
-أمرك يا زعيم.
” نك” بإزدراء:
-أتعرف صديق ذاك العربي “سام چاكوب”؟!
الرجل:
-أجل يا زعيم، إنه عربي مثله يدعى “چاسم”.
“نك”:
-أجل “چاسم”، أعلم أن لديه ابن، صحيح؟!
الرجل:
-أجل يا زعيم لديه طفل من زوجته الأمريكية.
“نك”:
-حسناً أريده عندي الليلة دون خدش واحد، ودون جلبة، أريدها عملية نظيفة دون نقطة دم واحدة، أسمعت؟!
الرجل:
-سيتم كل ما تريد بالطريقة التي ترغبها أيها الزعيم.
ربت نك على كتفه باستحسان:
-أعلم، ولذلك أخترتك أنت تحديداً لهذه المهمة، ابدأ في خطتك.
استقل “نك” سيارته، وقاد حيث وجهته.
*بعد مغادرة “ساندي” الحانة وبحوزتها تلك الغنيمة الثمينة، توجهت حيث المشفى المحتجز به أخيها؛ لتضع بخزانة المشفى مبلغاً لا بأس به من المال.
وذلك بعد أن توقفت في طريقها عدة مرات أمام كل ماكينة من ماكينات الصراف الآلي التي قابلتها على طول طريقها إلى المشفى.
وقامت بسحب مليوني دولار من رصيد بطاقاته الموجودة بحافظة النقود بشكل متقطع، فقد يسر “نك” عليها الأمر، نظراً لكثرة ما بحوزته من بطاقات مصرفية، قام “نك” بوضع ملصق على ظهر كل بطاقة بكلمة المرور، وكان ذلك بمثابة العثور على مغارة الكنز السحري.
الأمر الذي جعلها تتأخر في القدوم إلى الفندق الرخيص هذا، فلولا وجود كل الأوراق الخاصة بها وبأخيها في حقيبة سفرها من بطاقتها الشخصية وجواز سفرها، وكذلك التقارير الطبية وتقارير المتابعة الخاصة بحالة أخيها، لم تكن لتفكر بالعودة إلى هنا مرةً أخرى، فبخلاف تلك الأوراق لا يوجد شئ ذا قيمة.
أخذت تدندن بكلمات أغنية من الأغاني اليونانية القديمة التي كانت والدتها تُسْمِعها إياها وهي صغيرة، تصعد السلم حيث الطابق الموجود به غرفتها، وهي تُمَني نفسها بشراء شقة صغيرة بأي مكان نائي وسيارة، وأخذت تحلم باقتناء أفخم الملابس والأحذية من أرقى دور الأزياء، فما كسبت يداها من هذا السادي الوسيم، لن يجعلها بحاجة إلى العمل مدى الحياة.
مدت كفها تتمم على ذلك الخاتم الذي أدخلته بالسلسال الخاص به، المطوق لعنقها، فقد كان مقاس الخاتم أكبر من أصابعها كثيراً، وإذا ارتدته ربما أضاعته من يدها؛ ففضلت وضعه بالسلسال ودستهما أسفل ملابسها.
ولم يكن الحال أفضل مع سوار اليد “الأنسيال”، ولكنها علقته كخلخالٍ في كاحلها.
ناهيك عن المال الذي اقتنصته!! فأصغر قطعة في هذا الطاقم يحل مشكلة قرية بأكملها في اليونان.
وعندما وصلت أمام باب الغرفة، أخرجت ميدالية بها مفتاح واحد لباب هذه الغرفة المستأجرة من حقيبة يدها الكبيرة نوعاً ما، وللحق عانت بسبب ألم أصابعها حتى أخرجت تلك الميدالية، وأيضاً بسبب رزم الدولارات المكدسة بها، متذكرة ميداليته المليئة بالمفاتيح، وعنفت حالها على تركها لها، فحتى لو لم تكن تنوي أخذ السيارة من أمام الحانة؛ بسبب تلك الحواجز البشرية المأمنة لمدخلها، كانت حتماً ستنفعها تلك الميدالية يوماً ما.
فتحت الباب وهي تتمتم بآسى:
-ما كان يجب أن أترك له الميدالية إذ ربما فكرت أن أسطو على بيته، فبالتأكيد به من الخيرات ما لم يتخيله بشر، كما أن الميدالية من الفضة الخالصة.
مدت يدها إلى زر الإضاءة، فأحست بيدٍ تقبض على رسغها، تجذبها إلى الداخل وسط الظلام، وأنفاسٌ حارة معطرة برائحة المينتول المنعش تداعب جانب عنقها وخدها الأيمن، وصوت الباب يغلق.
وجسدها يُدفع إلى الخلف، ويد بشرية امتدت تكمم فمها، وأخرى مكبلة لخصرها من جهة اليسار، وجسد رجولي يضغط جسديهما معاً إلى حائل ما خلفها.
وفجأة أزيحت اليد المُكممة، ومع اشتعال الضوء بغتة، انتفضت بفزع تتمسك بما أمامها، فأصبحت مطوقة لعنقه، تتشبث به بقوة، وما إن استوعبت الأمر أنزلت ذراعيها؛ لتبتعد أولاً، ومن ثَم تستكشف هوية ذلك الدخيل، وهي على تأكد بنسبة 99.9% من هويته مسبقاً، ولكن داخلها يرجو أن يخيب حدثها.
بدأت تدفع جسده بعيداً عنها، ولكن يبدو هذا المُحاصر لديه رأياً آخر، يده التي شددت من حصار خصرها، والأخرى التي ارتفعت تحط أعلى ظهرها، أنبأتاها بذلك.
أرجعت رأسها إلى الخلف؛ لتُؤكد أو تَنْفي ما تشك به.
وما إن وقع بصرها على ملامح وجه المُقَيِّد لها حتى لعنة تحت أنفاسها، قائلة بلهجتها الأم وبهمس بالكاد التقطته أذنه، وهي تظن أنه لا يعرف اليونانية.
ولكن أول شيء فعله “ريكا” مع “نيك” عندما عثر عليه، ورأى فيه عوناً له؛ لما لمس لديه من ذكاء وفطنة، أحضر من يعلمه القراءة والكتابة وكذلك معلمين لغة ليجيد على يديهم خمس لغات حية من بينها اليونانية:
-يا لا تعاستك ساندي، يبدو أن الحظ السيء سيظل يلاحقني حتى بعد أن ظننته سيبتسم لي بنهب زكيبة المال هذا.
اتسعت حدقتيه بغيظ وتعجب من وقاحة تلك المحتالة، وللحق أعجب بذكائها وجرأتها وسلاطة لسانها أيضاً، وبرغم براءة ملامحها إلا أنها تمتلك عقلية تنضح شراً وخبثاً، جميلة بل فاتنة، حركة شفاهها الممتلئة بهمس حتى ولو بتلك الحمقات التي ألقتها على مسامعه تغوي القديس.
شَخَصَ بها يتأمل معالم وجهها عن قرب، عينيها الخضراء الزاهية تلمع بحيوية، رموشها الكثيفة تزيدها حسن، انتقلت نظرات عينيه تتأمل سحر عينيها تارة ولمعة شفاهها تارة أخرى.
أسبلت رموشها تخفي بريق الدهاء والمكر الذي لمع بعينيها، وهي ترى تأثيرها عليه.
وما إن أغمضت عينيها، اقترب يميل إلى جسدها، يتوق لملمس شفاهها بين خاصته.
بها شيء يجذبه إليها حتى أصبح يتنفس أنفاسها، وضلوعه تئن تطالبه احتضان جسدها إليه أكثر وأكثر.
لم يقاوم رغبته بها، وإنما التقط شفتيها يُقَبِلها بنعومة.
انتعشت حواسه، عندما بدأت تبادله شغفه بها، وهي ترفع كفها إلى وجهه، وإبهامها يداعب ذلك العرق النابض إلى جانب شفتيه.
ثوانٍ وقطعت تلك القبلة التناغمية، وهو يزأر برفض، فهو يريد المزيد، ولكنها أسندت خدها إلى جانب وجهه، تقول وهي ما زالت بين أحضانه:
-أرجو أن تكون خدماتنا نالت إعجابكم.
جملة لم يستوعبها إلا عندما شعر بشكة مؤلمة على جانب عنقه، وبرودة تكتسح جسده بؤرتها تلك الوغزة وشلل يزحف إلى أطرافه.
سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة