الفصل ٢٧
جسدها يرتجف بين يديه، وهذا الإحساس الذي تشعر به الآن يزيد من رعشتها، تلك الراحة والسكينة التي تأنسهما وهو بهذا القرب، تخيفها.
افتقدت هذا الآمان منذ أن مات والدها، وبدل أن تعوضها والدتها مشاعر الفقد، راحت تبحث عن راحتها ومتعتها
ولا تعلم “غادة” أهذا هو حال كل أهل بلاد الغرب أم حال تلك السيدة فقط!!
فوجود “غادة” بجمالها ذو الطابع الخاص الذي اكتسبته جينياً منها، وأيضاً من والدها الشاب المصري الوسيم ذو البشرة البرونزية بات ينغص عليها حياتها.
خاصةً بعد نظرات الإعجاب التي لاحظتها “كارلا” بأعين زوجها الذي يقارب ابنتها بالسن، وقد فاق جمال الابنة جمال الأم وتخطاه بمراحل.
فنشبت تجاهها غيرة عمياء من السيدة التي تلخص شغفها في الحياة بمتعتها في تبديل الرجال.
وبالعودة لسمرائنا “غادة” تلك الفتاة التي تحمل الجنسيتين المصرية والأمريكية، ابنة وحيدة لأبٍ مصري وأم أمريكية، والدها واحد من أبناء محافظة الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط.
Flash Back
بعد تخرج هذا الشاب فَخْر إحدى الأسر المصرية الفقيرة من كلية الطب جامعة الإسكندرية، فقد كان الأول على دفعته.
وأصبح تفوقه هذا عامل أساسي لجعل واحد من أساتذته يختاره للعمل في المشفى الخاص به.
وبعدها زكاه أستاذه والأب الروحي له؛ ليكن ضمن بعثة أعلنت عنها الحكومة المصرية لإرسال أنجب خريجي كلية الطب لاستكمال دراستهم بجامعة “واشنطن”.
بالطبع كانت فرصة لا تعوض بالنسبة لشاب في مقتبل عمره، ولكن حالة من العجز أصابت “آدم” والد “غادة” سببها قلة الإمكانيات المادية، وذلك بعد علمه أن على كل دارس تحمل نفقاته الشخصية من مسكن وخلافه.
حيث يتوقف دعم الدولة عند تحمل نفقات الدراسة الخاصة بطلاب البعثة التي كان لأستاذه فضل كبير؛ ليكن من ضمن قائمة الدارسين المرشحين لتلك المنحة.
وعندما قرر “آدم” الإعتذار عن السفر، بعد أن كان متحمساً للفكرة، وأمام إصرار أستاذه لمعرفة أسبابه ليتراجع عن السفر؛ ليحظى بتلك الفرصة التي تعتبر خطوة سديدة سترفع من شأنه ومستقبله المهني، أفصح “آدم” عن مكنوناته لهذا الأب الداعم.
فعمل على إثناءه عن هذا القرار، ولم تتوقف مساندة هذا الأستاذ الجليل حد التزكية.
وإنما ساعده لإتمام كل الأوراق الخاصة بالسفر، موصياً واحد من زملائه هناك بأن يهيأ له سكناً وفقاً لإمكانياته؛ كما عرض عليه مبلغاً من المال، ولكن “آدم” أبى.
وإتماماً لأسمى معاني الإنسانية والعطاء وفر له أستاذه فرصة عمل بمجال الترجمة لدى واحدٍ من كبار رجال الأعمال الذين يدعمون مثله من الشباب المكافحين.
وبعد تحالف القدر لصالحه انتقل “آدم” للعيش بأمريكا لإتمام دراسته هناك بولاية “واشنطن”.
إصراره على أن يكون أهل لثقة أبوه الروحي، جعله يجتهد بدراسته وعمله ويبلي بلاءً حسناً مقارنةً بأقرانه ممن سافروا معه لتلك البعثة، بل وتخطى تفوقه أمثاله من طلاب نفس المجال بهذه الجامعة.
الأمر الذي جعله محط أنظار لكل طلاب الدفعة على اختلاف أجناسهم، كما كان محل إهتمام وتقدير للأستاذة والمحاضرين ممن يدرسونهم هناك.
وقد كان من بين تلك الأعين التي صوبت إليه لنبوغه، عيون “كارلا” تلك الحسناء الأمريكية التي كان والدها يعمل ضمن هيئة التدريس بالجامعة.
وإلى جانب تفوقه الدراسي، لاقى “آدم” مساندة وتعاطف من رجل الأعمال هذا الذي عمل مترجم بشركته بناء على توصية أستاذه بمصر، وقد شفع له اجتهاده ودقته والتزامه بالعمل.
فقد كان يذهب إلى الشركة كل صباح؛ لاستلام الأوراق والعقود والفاكسات التي سيعمل على ترجمتها؛ لينهيها بعد عودته للسكن الذي منحه إياه ذلك الرجل الشهم والذي كان نعم الواصي.
في تلك الأثناء حاولت “كارلا” لفت انتباه “آدم” بشتى الطرق، وعندما لاقت منه التمنع بات “آدم” هدفاً لها، وزهده بها زادها عزيمة للإيقاع به.
وعلى الجانب الآخر كان “آدم” حاله مثل حال الكثيرين بالدفعة الذين افتتنوا بجمال الهيئة.
وإنما تكمن أسباب زهده الظاهري وتمنعه في كونه غير قادر على المسايرة، فتعاليم دينه وأخلاقه السامية وتلك التربية التي شب عليها يحولون دون الوقوع في الخطيئة.
بدأت “كارلا” بإحكام نسج شباكها حوله، وهي تبدي اهتماماً به، وحينها كان اهتمامها نابع من رغبتها بتجربة نوع جديد من الرجال لم تقابله من قبل
وأمام اهتمامها المبالغ به وقلة خبرة هذا الشاب الملتزم؛ وقع “آدم” لها.
وذات يوم عندما كان “آدم” جالساً بالسكن الذي منحته إياه الشركة، بعد أن استقر به الحال هناك.
سمع طرقٌ على باب السكن، وقد اندهش لذلك فلا أحد يعلم مكان سكنه سوى صاحب الشركة وواحد من زملاءه بالبعثة التي أُرسِلت إلى هنا، وكلاهما لم يسبق وأن زاراه من قبل.
“آدم” من خلف الباب:
-من الطارق؟!
وجد صوت أنثوي يجيبه قائلاً:
-افتح “آدم”، هذه أنا “كارلا”.
قطب “آدم” جبينه، وقد بلغت به الدهشة أقصاها، فآخر شخص توقع قدومه إلى هنا هي “كارلا”.
“آدم” ولازال متصنماً خلف الباب:
-ما الأمر “كارلا”؟ وكيف عرفت العنوان هنا؟!
“كارلا”:
-أف “آدم”!! هل عنوانك هذا سر حربي؟! عامةً لقد طلبت العنوان من صديقك “حازم”، افتح “آدم” لقد قطعت كل تلك المسافة؛ لأتحدث معك بأمر مهم.
احتار ماذا يجب عليه أن يفعل بموقفٍ كهذا، فجاءه صوتها من خلف الباب، يحسم تلك الحيرة لصالحها، وقلبه يؤيد وبقوة:
-افتح “آدم”، لن أبق سوى خمس دقائق، هل ستجعلني أترجاك هكذا؟
فتح “آدم” الباب بقلب ينبض بقوة، فهو حقاً عشقها، ورجائها لامس قلبه العذري الذي استجاب لسحر صوتها.
أسبلت أهدابها وهي تتصنع الحزن، قائلة:
-كل هذا لتفتح “آدم”؟!
“آدم” بارتباك:
-أعتذر “كارلا” فلست معتاداً على أن يزورني أحد، فقط المفاجأة هي ما ألجمتني.
تنحى جانباً؛ ليسمح لها بالدخول، قائلاً بعقل يصرخ بالرفض، ولكن اندفع اللسان يقول عكس ما حتمته عليه كل موازين الرشد:
-تفضلي “كارلا”.
دخلت “كارلا” بِخُطَى واثقة، وعزز ثقتها بحالها تلك النظرات الزائغة التي لمحتها بعينيه، وارتعاشة كفه في راحتها، عندما مد يده إليها بالسلام، وقطرات العرق التي ندى بها جبينه.
نظرات كالماسح الضوئي جالت بها أعينها تتفحص المكان ومحتوياته، بسمة ساخرة لاحت على شفتيها لتواضع الحاوي والمحتوى، وذلك مقارنة بتلك الڤيلا التي تسكن بها هي وأسرتها، فوالدها إلى جانب عمله بالجامعة يمتلك مشفى استثماري بمدينةٍ راقية من مدن تلك الولاية “واشنطن”.
“آدم” مشيراً إلى أحد المقاعد:
-تفضلي بالجلوس “كارلا”.
ولكنها لم تجلس حيث أشار وإنما تقدمت خطوتين ناحية تلك المنضدة البالية التي تفترشها الكتب والأوراق تجلس على الأريكة القديمة خلف المنضدة.
تجلس واضعة ساق فوق الأخرى، فانحصر طرف ذلك الثوب المنحصر بالأساس لتكشف بسخاء عن فخذيها ناصعي البياض.
ابتلع “آدم” لعابه بإثارة فمهما كان ملتزماً فالشيطان أكثر مكراً والمغريات أمامه أقوى، وما هو ب “يوسف”.
“آدم” محاولاً فتح مجالاً للحوار، وكذلك تلميحاً لرغبته في إنهاء تلك الخلوة المرفوضة، كمحاولة لدحر ألاعيب الشيطان الذي بدأ يزين له تلك الأجواء التي تحيط به الآن:
-ماذا تحبين أن أضيفك “كارلا”؟! أم لا ترغبين بإطالة الزيارة كما قلت؟!
اعتبرت “كارلا” عرضه لتقديم الضيافة رغبةً منه بإطالة المكوث، وذلك عندما تلاه باستفسار عن رغبتها بإطالة الزيارة من عدمه.
فقالت برقة وهي تمد يدها تلتقط كفه، فهو لازال واقفاً بالقرب من الطاولة، على مسافة قريبة منها:
-لا “آدم” لا أريد أن أعذبك معي.
سل كفه من راحتها، فلقد شعر بحرارة تنتقل إلى كامل جسده بعد لمستها تلك، وعينيها ذات اللون الأزرق تأسر نظراته، فاخترقت سحرها مراكز القوة والثبات لديه.
بينما استكملت تقول وهي تتصنع الحرج والحزن، تتسوله الاهتمام، ضاغطة بعنف على وتر قلبه الذي أعلن راية الاستسلام:
- ثُمَّ من قال أنني لا أرغب بالمكوث، ولكن يبدو أنها ليست رغبة متبادلة، حتى أنك لا تريد الجلوس، وتتعمد أن تشعرني بإثقالي عليك بالزيارة، في حين أنني لم أتوقف عن التفكير بك، عندما لم تأتي اليوم إلى الجامعة.
بالسابق كانت تبدي الاهتمام، ولكنها أبداً لم تركض خلفه، كانت تحاول إظهار الإعجاب، ولكن أبداً لم تصرح بالكلمات، أما الآن تبدأ مخططها اعتماداً على نظرية أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، فكل تلميحاتها لم تعطيها نتائج مرضية.
تساءل بلهفة، وهو لا يصدق ما تسمعه أذنيه:
-تفكرين بي أنا؟!
أغمضت عينيها تومئ بإيجاب، ومن ثم استقامت تقف قبالته، تحط بكفها على كتفه بتودد، قائلة برقة:
-نعم أفكر بك وفيك، فأنا أحبك “آدم”.
التعقل بات الآن في ذمة الله، فما يسمعه يجعله مشرف على أعتاب الجنون، ضاعت العقلانية وأُسُسها ومصدرها أصبح في حالة احتضار، هذه كانت حالة العقل.
أما عن ذلك النابض، فهجومها الشرس لم يلقَ دفاعاً، فما من رجل محب يملك دفاعات أمام هجومٍ من امرأة تحتل قلبه، فأي هجوم لغازي مستوطنٌ بالأساس.
“آدم” بمقاومة واهية محسوم نتيجتها:
-لكن “كارلا”، أنا لا أملك شيئاً، لأقدمه لك.
رفعت كفها الآخر ليتوسد صدره جهة القلب، وكأنها بفعلتها تلك اخترقت ضلوعه، فمس دفء لمسات يدها شغاف قلبه دون حائل، وهي تزيدها عليه، قائلة بصوتٍ دافئ:
-لا “آدم” تمتلك الكثير، أنا المعدمة هنا، ألا يكفيك أنك امتلكت قلبي “آدم”
يدها الموضوعة على كتفه، تسللت تحاوط عنقه والأخرى لازالت مستقرة بالقرب من ذاك اللعين الذي لا يتوقف عن النبض حتى بات صوت ضرباته مسموع لكليهما.
وعينيها تراقب بريق تأثيرها عليه الذي يطفو من عمق نظراته، وقد بدأت تتهدج أنفاسه بلوعة.
لامت حالها على تأخيرها في بدأ الهجوم المباشر، فها قد أعلن الهدف الذي حاصرته لأشهُرٍ الاستسلام بأول غارة شنتها؛ لتستنزفه.
هبطت نظراتها التي استحوذت على كامل حواسه؛ لتلعب على وتر آخر وتر الإثارة والتشويق، وهي تبلل شفتيها المغريتين بطرف لسانها، ولم تفرج عن الشفاه السفلية تحبسها بأسنانها، مصدرة أمر نفذته رئتيه بحبس أنفاسه هو الآخر.
وهي ترتكز بنظرات عينيها على شفتيه التي انفرجت وهي تقترب منه حد اللعنة.
فباتت أنفاسها تداعب وجهه، وهي تنتقل ببصرها ما بين أعين تحذو حذوها، وشفتيه التي تطالب بغزوٍ كالذي سطت به على قلبه.
ها قد لبت الطلب وهي تسدل كفها الموضوع على صدره؛ ليلامس باطن راحتها ظهر كفه، وهو مغيب، لترفع كفه تحاوط به خصرها، فارتفع ذراعه الآخر لا إرادياً يشد على جسدها بين يديه.
وما أن فعل حتى أمالت رأسها تقترب بشفتيها إلى خاصته تقبله برقة، وهي تضغط جسدها إليه.
ذاب بها فتلك أول قبلة له، أول تقارب جسدي، أول إحساس بالحب، وها قد أغدقت عليه سيل من القبلات.
فما عاد يتحكم بجسده، ولم يشعر بها وهي تقوده معها إلى تلك الأريكة، تدفعه إلى الوراء ولم تعطي له فرصة؛ ليفيق من سحر تلك الحالة التي بثته إياها.
وقامت……
سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ