الفصل 73
حدقت نوران في القمر الشاحب، معلقًا في سماء الليل كأنما يُطِلُّ عليها بسخريةٍ باردة. كان انعكاسًا صادقًا لحياتها الرمادية، الفارغة من أي معنى.
لم تعد ترغب في العودة إلى أحمد، ولا إلى الحياة التي تقاسمتها معه. في الموت، لا وجود لحبٍ ولا كراهية، لا صراع ولا خيبة. فقط صمت. وربما، إن ماتت، سيتوقف عن مطاردتها، عن هذا الهوس الذي يكاد يخنق أنفاسها.
لكن، ولدهشتها، قفز أحمد في اللحظة الأخيرة، وأمسك بمعصمها وهي تهوي من الشرفة.
ركض رُكان مذعورًا خارج الغرفة، عينيه ممتلئتين بالخوف. كان هشام في الخارج، يدخن بصمت، لكنه ما إن لمح الطفل يتعثر نحوه حتى ألقى السيجارة على الفور.
انحنى إليه وسأله برفق: “مهلاً، رُكان، ما بك؟”
قال الطفل بفزع وهو يشير للخلف: “ماما… تبكي…” لم يستطع التعبير بالكلمات، لكن إشاراته كانت كافية لتُقلق هشام.
حمله فورًا بين ذراعيه: “الجو بارد، لا يجب أن تكون هنا.” ثم أسرع عائدًا نحو الغرفة.
في الداخل، كانت الفوضى على أشدها.
كان أحمد يتدلّى من الشرفة، جسده نصفه في الداخل ونصفه الآخر يتشبث بحافة الحياة، وعروق ذراعيه تنبض بجهد مرعب. كان يُمسك بنوران بكل ما تبقّى له من قوة.
نظرت إليه بجمود، بعينين خاليتين من الرجاء.
“ظننتك تكرهني، أحمد. ألم تقل إنك ستنتقم لأجل أختك؟”
زمّ شفتيه بقوة، وصاح من بين أنفاسه المتقطعة: “سأقتل والدك إن قتلتِ نفسك!”
ابتسمت ابتسامة باهتة: “إنه في غيبوبة، وقد لا يفيق أبدًا. ربما الموت راحة له أيضًا.”
قال بلهفة: “من قال ذلك؟ تابعتُ حالته. الطبيب ليو سيُجري له العملية، واحتمالية استيقاظه 80%. أنت تعلمين سمعته، وكنتِ دائمًا تثقين به.”
لاحظ ارتجافة خفيفة في ملامحها، فسارع بالكلمات:
“نعم، كنتُ أكرهك أنتِ وأباك. لكن الأمور تغيّرت. والدك في غيبوبة، ونحن مطلقان، ولم أعد أكنّ لكِ الكراهية. صدقيني.”
علقت رقاقات الثلج في رموشها الطويلة، بدت كأجنحة فراشة عاجزة.
قالت بهدوء: “أحمد، لديك حياة جديدة… وأنا لم أعد أريد الاستمرار. دعني أرحل. رجاءً.”
وأضافت بحزم: “لن نعود أبدًا. انتهى كل شيء.”
كان أحمد يحدق في معصمها المدمى، وعيناه تتسعان بخوف لم يعتد عليه. همس، كأن الموت أمامه:
“هل… هل تخيفك الحياة إلى هذا الحد؟”
ابتسمت بمرارة: “أوه، يبدو أنك خائف من موتي. هل تأمل أن تذكرني طوال حياتك إن متُّ بين يديك؟”
“لن تموتي دون إذني.” صرخ فجأة. “سأرفعك، وسأضمك بقوة، وأنت ستنهضين بمساعدتي.”
لكن هشام اقتحم الغرفة في تلك اللحظة، وجمُد في مكانه وهو يرى أحمد يتدلى من النافذة، ممسكًا يد نوران. صرخ بأمرٍ سريع:
“نحتاج للمساعدة! جهّزوا الحراس فورًا!”
اقترب هشام بسرعة، وساعد أحمد على الثبات، ثم مدّ يده ليساعد في سحب نوران. “سيدة القيسي، لا تفعلي هذا. كل ألم له نهاية. أنتِ شابة، أمامك مستقبل… فقط أخبري السيد القيسي بالحقيقة، وسيساعدك. لا تُنهِ كل شيء هكذا.”
تمكنوا بصعوبة من سحبها، لكن نوران لم تكن قد استسلمت بعد. كانت قد اتخذت قرارها.
نظرت إلى هشام، ثم إلى أحمد.
قالت بهدوء قاطع: “هذه نهاية طريقي، هشام.”
وقبل أن يستوعب أحد ما تنوي فعله، حرّرت يدها من قبضته، وعادت إلى حافة السقوط.
“السيدة القيسي!”
صرخ هشام، وأحمد كاد يجن وهو يتشبث بها من جديد، بجسده كله.
لكن هذه المرة، كانت مختلفة.
قالت له بصوت مكسور:
“كان من الأفضل لو لم ألتقِ بك. كنتَ في خيالي لسنوات، فقط لأنك نظرت إليّ ذات مرة. لكن الآن… يكفيني ما عشناه. يكفي.”
ابتسمت، ودمعة دافئة سالت على خدها المتجمد:
“أحمد، إن كان التناسخ حقيقيًا، فأرجو ألا أقابلك مجددًا.”
ثم أطلقت يدها… وسقطت.