رواية حتى بعد الموت الفصل 76

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 76

رغم أن زياد لم ينم سوى لبضع ساعات فقط، إلا أنه دخل إلى غرفة نوران في الصباح التالي بمظهرٍ منتعش، كأنّه كان يستمد طاقته من شيءٍ خفي. بدا مرتبًا، وابتسامته الهادئة زادت من التوتر الذي يخنق صدرها. ومع غياب أحمد، وجد زياد الفرصة ليرخي صوته قليلًا ويقول لها:

“سيدة القيسي، زوجكِ يهتم بكِ كثيرًا، لا مجال للشك في ذلك. لقد رتب لكِ مجموعة كبيرة من الفحوصات الدقيقة، بنفسه. قليلون من يفعلون ذلك.”

كادت نوران أن تضحك، لكنها ابتسمت بسخرية مكبوتة. كم كان ساذجًا! لم يكن أحمد يفعل ذلك بدافع الحب أو القلق، بل ليضمن بقاءها تحت سيطرته، ليطيل عمرها بما يكفي لتتلقى عقابه. بالنسبة له، صحتها لم تكن غاية، بل وسيلة.

رغبت في أن تقول له: “لا، يا دكتور زياد، أحمد لا يهتم بي، بل يهتم بأن أبقى على قيد الحياة لأتعذب أكثر.” لكنّها التزمت الصمت. كانت مرهقة إلى حد أنها لم تجد في نفسها الطاقة للمواجهة.

بدلًا من ذلك، حدّقت في وجه زياد للحظة ثم تمتمت بصوت أجش متكسر: “حسنًا، لنفعلها.”

وكانت “الفحوصات” أكثر من مجرد سلسلة من الاختبارات الروتينية. لقد كانت رحلة طويلة من الإجراءات، سُحبت منها عينات دم، وخضعت للتصوير بالموجات فوق الصوتية، والتصوير المقطعي، وتحاليل معملية دقيقة. التنظير الداخلي، رغم أهميته، لم يكن مدرجًا على القائمة. لم يكن جسدها في حالة تسمح بتحمل ملينات منتصف الليل أو التخدير الكامل.

كان أحمد قد فرض عليها منذ بداية زواجهما نظامًا صارمًا – جدول نوم محدد، نوعيات طعام معينة، وحتى أوقات الراحة. لذلك افترض زياد أنها تملك أمعاءً سليمة بحكم نمط حياتها، واكتفى بالتصوير المقطعي. لم يكن يعرف أن كل شيء ظاهري في حياة نوران مُنظَّم، بينما فوضى لا تُحتمل تسكن داخلها.

في المساء، بينما كانت تتناول طبقًا من الحساء بعد صيام إجباري طويل، ظهر أحمد على باب الغرفة. كانت تمسك بالملعقة بيد مرتجفة، وجهها شاحب وملامحها مرهقة، ومع ذلك، حاولت التماسك أمام حضوره الطاغي.

دخل بخطى هادئة، لكن صلابته لم تتغير. كان يرتدي بدلة داكنة أنيقة وربطة عنق مخططة بالأبيض والأسود، تلك الربطة تحديدًا التي اشترتها له في عيد زواجهما الأول. نظرت إليها، وداهمها شريط من الذكريات الجميلة التي دُفنت مع مرور الأيام.

لم يقل شيئًا في البداية. فقط حدق بها، بعينيه الباردتين، كأنّه يحاول أن يكتشف ما الذي يجعلها دائمًا بهذه الهشاشة. لماذا يبدو وجهها باهتًا طوال الوقت؟ هل هو المرض؟ أم شيء أعمق؟

قالت له بنبرة فيها تحدٍ ناعم: “سيد القيسي، لا تقلق. لن أموت قريبًا، ولن أحاول الانتحار، إن كان هذا ما تخشاه.”
ثم أخذت ملعقة أخرى من الحساء، في محاولة لإظهار لامبالاتها. لكن يدها اليسرى المنتفخة من أثر الحقنة لم تسمح لها بذلك بسهولة. كانت مثيرة للشفقة بطريقة كادت تُحرجها أمامه.

اقترب منها بهدوء، وصوته لم يعد يحمل تلك القسوة المعتادة. “هل صدرت النتائج؟”

هزت رأسها، ثم وضعت الملعقة جانبًا ونظرت إليه نظرة مباشرة، أكثر صدقًا من أي شيء قالته له من قبل. “إذا… إذا كانت النتائج تُشير إلى أنني مريضة… مرض خطير مثلًا… هل ستفكر في إنقاذي؟”

سألها بحدة: “ما الذي سيحدث إن كنتِ مريضة؟”

رفعت حاجبيها قليلاً، ثم قالت وكأنها تمتحنه: “أعني، لو ثبت أنني مصابة بمرض عضال، هل ستظل ترغب في إبقائي على قيد الحياة؟ أم سترى في موتي راحة؟”

ارتجف قلبه للحظة. جلس بهدوء على الأريكة القريبة، وأسند ظهره إلى الحائط، ثم بدأ يفرك الفراغ بين إبهامه وسبابته كما يفعل حين يشعر بالضيق. رغم ذلك، بدا صوته هادئًا ومتوازنًا: “حدثيني عن هذا المرض المميت.”

ورغم أن تنظير المعدة لم يُجرَ بعد، إلا أن نتائج التصوير المقطعي أظهرت إشارات مقلقة: سماكة غير طبيعية في جدار المعدة، وربما تضخمًا في العقد اللمفاوية القريبة، وانضغاطًا في الفص الأيسر من الكبد. كل هذا يوحي بوجود ورم متقدم، وربما خبيث.

نوران أدركت أن نتائج اليوم قد تغيّر كل شيء. بقيت تحدّق فيه بصمتٍ، في انتظار لحظة الحقيقة.

ثم طرق أحدهم الباب.

قال أحمد دون أن يتحرك: “ادخل.”

دخل زياد، يحمل بيده ملفًا ثقيلًا. وجهه لا يوحي بالكثير، لكنه لم يكن مطمئنًا. وما إن رأته نوران، حتى توقفت عن تناول الحساء، وشعرت بتعرق خفيف في راحتيها.

قالت بصوت متوتر: “يبدو أن النتائج وصلت.”

أحمد التفت نحو زياد، في حين بدأت نبضات قلب نوران تتسارع. لم تكن خائفة من الموت، بل من رد فعله. هل سيشمت؟ هل سيظهر الألم؟ هل سيرحل دون أن يقول شيئًا؟ في تلك اللحظة، لم يكن المرض هو محور حياتها، بل نظرته.
توقعت منه أي شيء… وكان ذلك الانتظار، بحد ذاته، أكثر ألمًا من المرض.

جرواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 77

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top