الفصل 114
عرفت أوليفيا من هو الرجل دون أن تحتاج حتى لأن تلتفت. لم تكن بحاجة إلى أن ترى ملامحه لتتأكد، فهناك أشياء لا يمكن للذاكرة أن تمحوها بسهولة، حتى لو أرادت.
كان إيثان يقف هناك، مرتديًا بدلة داكنة تُبرز قوامه الممشوق، وكأنها صُمّمت خصيصًا له. كانت عيناه تلمعان بذلك البريق الخطېر الذي لطالما عرفته… ذلك البريق الذي أربكها مرارًا، وتسبب لها بالكثير من الحيرة، والضعف، وحتى الذنب. كانت تعرف هذا التوهّج جيدًا، ذلك الوميض المتقد الذي يسبق دومًا قراراته القاسېة.
خط فكه الحاد، زاوية فمه المشدودة، وطريقة وقوفه الواثقة… كلها كانت إشارات غير منطوقة، لكنها مألوفة جدًا، كأنها محفورة في ذاكرتها.
رائحة الأرز الساخن انبعثت من الكيس بجواره، ممتزجة بدفء السيارة المغلقة، لتخلق جوًا حميميًا ثقيلًا… جوًا ضبابيًا كأنهما محبوسان في فقاعة لا تخص هذا العالم. كل شيء حولها بدا ساكنًا، كأن الزمن توقف ليتركهما في لحظة لا تُشبه الحاضر ولا تنتمي للماضي.
رغبتها في دفعه بعيدًا ما زالت تسكن أعماقها، ترفض الانطفاء. لكنها لم تكن مستعدة بعد للاستسلام لذلك الشعور. أخفته بعناية، كبردٍ مُزمن تحت بطانية. كانت لا تزال بحاجة إلى المسافة، إلى خططها التي بنتها بصمت. لم تكن ساذجة لتنسى ما فعله.
كسرت الصمت أخيرًا، بصوتٍ هادئٍ لكن مشحون:
“أين كنت؟”
كان سؤالها مثل إبرة تخترق الفقاعة التي جمعتهما. لم تكن تتوقع إجابة تُرضيها، ولم تكن تبحث عنها أصلًا. كانت فقط تريد أن تُعلن أنها لم تعد تلهث خلفه. لم تعد تتابعه عبر وسائل التواصل، ولا تسهر تفكر إذا ما كان يبتسم لغيرها، أو يُرسل رسائل كما اعتاد أن يرسل لها. لم تعد تنقر على صورته كل بضع دقائق… كل ذلك انتهى، أو هكذا أقنعت نفسها.
لو لم يُخبرها بنفسه أنه يحتاج إلى من يستقبله من المطار، لما كانت عرفت أنه غادر البلاد. بات غريبًا عنها، كما هي غريبة عن نفسها.
“العمل.” قالها باقتضاب، نبرة صوته باردة لدرجة استفزت أعصابها.
كأنها لم تكن تستحق أكثر من تلك الكلمة.
كان يحمل في داخله رغبة للحديث عن ليو، عن ما حدث، عن ما لم يُقال بعد. لكنه تراجع. اللحظة لا تحتمل صدمات جديدة.
هي جالسة على حجره، جسدها متقاطع مع جسده، وحرارتها تتسلل إليه، تُوقظ فيه شيئًا دفنه طويلًا. لم يكن هناك مسافة تُفصل بينهما، فقط نبضات متشابكة وضوء خاڤت يخترق زجاج السيارة. بدت تلك اللحظة وكأنها مشهد سينمائي مسروق من زمن آخر، مشهد لا يُعرض مرتين.
مرّر إصبعه على رقبتها ببطء، كأنما يختبر تماسًا نسيه. كان يلمسها كمن يخشى أن تُكسر، أن تبتعد. توقّف عند حاجبها، ثم راح يحدّق في ندبة صغيرة أعلى الحاجب، بالكاد مرئية.
“هل شُفي؟” سأل، وصوته بالكاد يُسمع.
كانت الندبة شاهدة على جرحٍ قديم، لكنها لم تكن فقط على الجبين، بل أعمق من ذلك. بأطراف أصابعه، داعب مكان الندبة، وكأنه يعتذر بصمت.
قالت أوليفيا بصوت خاڤت، بالكاد خرج من بين شفتيها:
“شكرًا على ما فعلته في ذلك اليوم.”
اقترب أكثر، حتى لامست أنفاسه جبينها. لم تكن قُبلة، فقط دفء مبهم، مثل وعد لم يُقال.
ظنت للحظة أنه يُعاملها بلطف فقط لأنها أنقذت كونور. لكن إيثان لا يعرف… أنها تتساءل دومًا:
كيف سيكون رد فعله إن كانت هي يومًا من تسببت في فقدان كونور؟
هل سيظل هذا الرجل الرقيق؟
لا، كانت تعرف. لن يكون لطيفًا حينها.
ذلك سيكون اليوم الذي تنتظره، اليوم الذي تُريه فيه معنى الخسارة الحقيقية.
أجابت بجفاء، بعينين زجاجيتين تفتقدان الوميض:
“لا شيء… لقد كنتُ أمًا أيضًا.”
فاجأه الجواب. شدّ ذراعيه حول خصرها وكأنما يحاول تثبيت الزمن، إبقاء الحقيقة بعيدة.
لكنها سألته مباشرة، دون أن تنظر إليه:
“هل هناك أي جديد عن مكان ليو؟”
صمته كان أثقل من ألف إجابة. عبس، وزفر بتثاقل، ثم قال الحقيقة، دون تنميق.
“أعلنت عن مكافأة لمن يعثر عليه. سنجده قريبًا.”
لكنها لم تُصدقه. عرفت أن الأمر ليس كما يقول. هناك ما يُخفيه. كانت تعرف كيف يُخفي نواياه خلف الأقنعة.
“يريد مۏت أبي، ومع ذلك يبذل كل هذا الجهد من أجل ليو؟”
سخرت في داخلها، وكأنها تُشاهد مسرحية هزلية.
“يا لك من ممثل بارع، إيثان ميلر.”
نظراتها كانت باردة، محمّلة بالسخرية والاتهام، لكنه لم يفهمها. اعتقد أن صمتها خيبة أمل. اقترب أكثر، وقال بنبرة واثقة رغم ترددها:
“سأجده. أعدك.”
فقالت بهدوء، كأنها تُنهي الملف للأبد:
“حسنًا.”
ثم بدّلت الموضوع فجأة، كما لو أنها تُحوّل المشهد من مشهد مأساوي إلى لقاء رسمي:
“عيد ميلاد كونور بعد يومين… هل يمكنني الحضور؟”
ذلك اليوم… لم يكن يومًا عاديًا. كان اليوم ذاته الذي فقدت فيه طفلها.
إيثان لم يحتج لتذكيرها. هو أيضًا لم ينسَ. كان يومًا محفورًا في قلبيهما، كلٌ على طريقته.
كان ندبة لا تظهر على الجلد، لكنها تحترق تحت كل طبقات الهدوء.
“أنتِ…” بدأ كلامه، لكنه تردد.
رفعت رأسها نحوه ببطء، عيناها الداكنتان تلمعان بضوء الشارع، وشفتيها الجافتين ارتجفتا قبل أن تهمس:
“مرّ عام… أعتقد أن الوقت قد حان لأمضي قدمًا.”
كانت الكذبة تتسلل من فمها بصوت ناعم. لم تكن مستعدة للمضي قدمًا بعد. لكنها كانت مستعدة لأن تُجيد التظاهر.
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 115 حتى بعد الموت