الفصل 119
هزّ وصفه أعماق ذاكرة أوليفيا.
لقد قابلت الكثير من الأشخاص أصحاب العادات الغريبة، لكن أحد أصدقاء إيثان كان الأكثر تميزًا…
ذلك الذي كان مهووسًا بالصحة إلى حدٍ يكاد يكون مرضيًا، مهووسًا بالتفاصيل، بالأنظمة الغذائية، بالنوم المبكر، وبأنواع الأعشاب التي لا يُطيقها أحد سواه.
بينما كان الجميع يحتسون كأس الأفسنتين المثلّج، يضحكون ويتبادلون القصص وسط أجواء احتفالية صاخبة، كان هو يجلس في ركنٍ بعيد، يحتضن كوبًا زجاجيًا مبرّدًا يحتوي على خليط معقّد من الأعشاب، الفواكه، والمكونات الغريبة التي تُقال عنها إنها “مُطهّرة” للجسم. يشربه كما لو أنه دواء مقدّس، يغمض عينيه في خشوع ويقول:
“الجسد معبد… ومن لا يطهّره، فقد خان الأمانة.”
وحين كان الآخرون يمرحون، يتسامرون، ويستمتعون بصحبة النساء الجميلات اللواتي كنّ يتمايلن في قاعة الرقص، كان هو يرتدي قناع نوم من الحرير يغطي عينيه، ويضع قدميه في حوض من الماء الساخن المملوء بأملاح الاسترخاء، يتمتم بلا انقطاع:
“نوم هادئ يعادل عشرة أكواب من القهوة… العافية لا تُشترى.”
ومع ذلك كله، ومع طقوسه الغريبة التي أثارت الدهشة والاستغراب، لم يكن هو الأشد غرابة بينهم… بل كولن. نعم، كولن، الشخص الذي لطالما بدا طبيعيًا على السطح، كان يخفي غرابة من نوعٍ خاص.
كان يخشى الحيوانات بشكل مرضي، لا سيما تلك التي تمتلك فراءً ناعمًا وأنيابًا صغيرة. لم تكن الكلاب الكبيرة تخيفه كما تفعل القطط الصغيرة. كان يخشاها بشدة، كأنها كائنات شيطانية متخفية.
في مناسبات أعياد الميلاد التي كان يقيمها جيف، كان يتبع مايكل على مضض، يحاول أن يبدو طبيعيًا، لكن وجود قطة أوليفيا، “سنوبول”، كان كفيلًا بتحطيم ذلك التظاهر. كانت القطة تطارده بلا رحمة، كأنها تستشعر خوفه، تتسلل خلفه بخطى خفيفة، وتقفز فجأة لتفاجئه، فيركض مذعورًا ويتسلّق أقرب شجرة، ېصرخ بأعلى صوته، والأطفال يضحكون على المشهد كما لو كان عرضًا مسليًا.
وكانت أوليفيا وحدها من تبادر لمساعدته، تمسك بسنوبول، وتربت على فرائها، ثم ترفع عينيها إليه وتقول بابتسامة حنونة:
“لا تقلق، لقد أمسكتُ بها. أعطني يدك، سأسندك كي تنزل.”
ضحكت أوليفيا الآن، وهي تسترجع ذلك المشهد القديم، نظرات الأطفال، صړاخ كولن، وشعر سنوبول الأبيض يلمع تحت ضوء الشمس.
“أوه، كولن… أما زلت تخاف من القطط إلى هذا الحد؟”
هزّ رأسه وهو يبتسم ابتسامة خجولة، وتجنب النظر في عينيها، ثم أجاب بصوت خفيض:
“في الحقيقة… حاولت التغلب على خۏفي. تبنيتُ قططًا لاحقًا. في البداية، كانت تجربة مرعبة، لكنني استمريت… وأظنني نجحت نوعًا ما.”
ثم صمت قليلًا، قبل أن يسأل، وكأن شيئًا ما خطړ بباله فجأة:
“بالمناسبة… هل سنوبول بخير؟”
كأن قلبها توقّف لوهلة. لم تكن تتوقع هذا السؤال، ولم تكن مستعدة للإجابة عليه.
كانت سنوبول تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا حين حدث كل شيء. في ذلك العام، أعلنت عائلة فوردهام إفلاسها، وسقطت حياة أوليفيا فجأة من قمة الأمان إلى هاوية الفوضى. وبعدها، وقع حاډث جيف، ثم اختفت سنوبول.
لقد بحثت عنها طويلًا، في الأزقة، في الحدائق، سألت الجيران… دون جدوى.
اختفت تمامًا.
لم تعرف إن كانت قد ضلّت طريقها، أو أن أحدًا ما أخذها، أو ربما… ماټت في مكان لا يعرفه أحد.
كانت تنوي أن تصطحبها معها إلى منزل إيثان بعد الزواج، لكنها لم تجرؤ على طلب ذلك.
إيثان لم يكن يحب الحيوانات، بل كان يكرهها، ولا يطيق رائحة الفراء، ولا تلك “النعومة” التي كانت أوليفيا تحبها في كل شيء.
رأى كولن تغيّر ملامحها، فقال بنبرة أكثر رقة:
“اشتريتُ قطة بيضاء في الشتاء الماضي. كانت كبيرة في السن، تبدو مرهقة… لا أعلم إن كانت هي، لكن…”
رفعت أوليفيا عينيها بسرعة، كأن قبسًا من الأمل اخترق قلبها:
“هل لديك صورة لها؟ أرجوك.”
“نعم… لحظة واحدة.”
أخرج هاتفه بسرعة، فتح معرض الصور، وبدأ يقلب في ألبوماته حتى عثر عليها.
ثم أراها الصورة.
كانت القطة مستلقية أسفل شجرة برقوق حمراء، تنظر إلى الأزهار المتفتحة بعينيها الزرقاوين، كما لو كانت تتأمل العالم من حولها في هدوء الفلاسفة.
شهقت أوليفيا وهي تحدق في الصورة:
“إنها هي! نعم… فأرٌ عضّ طرف أذنها حين كانت ضالة. تلك الندبة، إنها علامتها الوحيدة!”
هزّ كولن رأسه، وصوته مشوب بالدهشة:
“لقد وجدتها تسير وحدها في أحد الشوارع. كانت ضعيفة، تتنفس بصعوبة. وعندما رأيت أذنها، شعرت بشيء غريب… كأنني أعرفها.”
ثم تابع وهو يخرج فيديوهات إضافية من هاتفه:
“صوّرت لها الكثير من المقاطع… هل تودين مشاهدتها؟”
جلست أوليفيا على الأريكة المستديرة بجواره، عيناها لا تفارقان شاشة الهاتف، تتنقل من فيديو إلى آخر، تبتسم تارة وتكاد تبكي تارة أخرى.
“لقد اعتنيتَ بها جيدًا… تبدو كبيرة في السن، لكنها لا تزال مفعمة بالحيوية. فراؤها نظيف، وعيناها براقتان.”
ابتسم كولن وقال:
“إنها قطة هادئة. تحب النوم أسفل شجرة البرقوق. تبقى هناك بالساعات… وكأنها تنتظر أحدًا.”
ثم نظر إليها مباشرة، وأردف بصوت خاڤت:
“لم أكن أعرف من… لكن أعتقد أنني الآن عرفت.”
تأمّلت أوليفيا صورة القطة من جديد، نظرت إلى الأزهار المتناثرة، إلى الظلال التي غطّت جسدها، إلى تلك الأذن التي تحمل الندبة… وشعرت أن قلبها ينكسر للمرة الألف.
أغمضت عينيها، ولم تستطع منع دموعها من الانسياب. مررت أصابعها على شاشة الهاتف برفق، كما لو أنها تلامس سنوبول نفسها.
“أنا السبب… لقد أضعتها.”
لقد فقدت كل شيء في تلك المرحلة من حياتها… عائلتها، جيف، طفلها الذي لم يُولد، وحتى سنوبول… كانت بمثابة آخر ما تبقّى لها من ماضٍ لم يكن ملوثًا بالخذلان.
قال كولن بلطف:
“لا تحزني، إنها بخير الآن. تعيش في منزل هادئ… وإن أردتِ، يمكنني إحضارها لكِ.”
هزّت رأسها، صوتها مبحوح:
“شكرًا لك… لكن لا داعي. أرجوك، فقط… اعتنِ بها عني. أنا لست جاهزة لرؤيتها بعد.”
“كما تشائين.”
ثم قال، بعد لحظة صمت:
“هل تسمحين لي بالحصول على رقمك؟ حتى أرسل لكِ مقاطع الفيديو حين أصوّرها؟”
كانت تفكر في أن ترفض، أن تنهي الحديث عند هذا الحد. لكن الحقيقة التي لم تستطع تجاهلها… أنها مدينة له.
لقد اعتنى بسنوبول في الوقت الذي لم تستطع هي أن تكون فيها حاضرة.
أخرجت هاتفها، وتبادلت معه معلومات الاتصال. ثم، وبلا تردد، أضافته على تطبيق واتساب.
وذلك التصرف تحديدًا… كان كافيًا لإثارة ڠضب مارينا.
اقتربت من إيثان، وهمست في أذنه بنبرة لاذعة مسمۏمة:
“أرأيت؟ ألم أقل لك إنها مختلة؟ لم تمرّ لحظة واحدة… وها هي تضيف رجلًا إلى جهات اتصالها!”
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 120 حتى بعد الموت