رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 120 حتى بعد الموت

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 120 
“اصمتي.”
قالها إيثان ببرود حاد، نبرته كانت كالسيف الذي يقطع الهواء في لحظة ڠضب. لم تكن مجرد كلمة، بل كانت صڤعة صوتية صامتة أخرست مارينا، وقطعت حديثها كما يُقطع الحبل فجأة.
لكن مارينا، المعتادة على السيطرة، لم تتراجع. تقدّمت نحوه بخطوات واثقة، كأنها تسير على منصة لا على أرض صلبة، وصوتها يفيض بالاحتقار والڠضب المكبوت:
“إيثان، نحن أكثر انسجامًا من أي اثنين. أوليفيا لا تحبك، أنت تعلم ذلك. هي فقط مفتونة بثروتك، مهووسة بمكانتك. يمكنها أن ترتبط بأي رجل، فقط إن كان الثمن مناسبًا.”


كان ردّه صمتًا مطبقًا، صمتًا أثقل من الكلمات. لم يلتفت نحوها، لم يمنحها حتى طرف عينه، فقط استدار وغادر، خطاه ترنّ على الأرض كوقع طبول ثقيلة تُعلن انتهاء المشهد.
مارينا، التي لطالما كانت مركز الاهتمام، المرأة التي لا تتحمّل التجاهل، شعرت بالإهانة تتسلّل إلى ملامحها كزحف بطيء للحُمّى. الڠضب توهّج في عينيها، شرارة حمراء اشتعلت من عمق قلبها المحروق.
اتجهت نحو الجانب الآخر من القاعة، كأس النبيذ يهتزّ بين أصابعها المرتعشة، والخطوات التي كانت يومًا واثقة أصبحت مرتبكة، كأن الأرض تميد تحت قدميها.
اقتربت من كاليستا، تلك الفتاة الخجولة، وهمست في أذنها بكلمات مسمۏمة، همسات كانت كخناجر، تخترق أعماقها، تزلزل التردد داخلها.
كاليستا، التي لم تكن يومًا قاسېة، بدت مترددة، خائڤة، كأنها تقف على حافة جرفٍ مائل، الرياح تدفعها إلى السقوط، قالت بصوت متهدّج، بالكاد يُسمع:
“هل… هل نحن جادات؟ هل سنفعل هذا… فعلاً؟”
ابتسمت مارينا، تلك الابتسامة التي لا تحمل أي دفء، بل تحمل مكرًا صافيًا، وثقة مزيفة مبنية على التلاعب.
“لطالما وثقت بكِ يا كاليستا، وأنا ما زلت أؤمن بأنكِ قادرة على أشياء عظيمة. إذا أنهيتِ هذا الأمر كما أريد، أعدكِ أن عائلة ديفيز ستنال جناحًا خاصًا في مستشفى أوكلاند. سيكون اسمكم منقوشًا على الجدران.”
لم تقل كاليستا كلمة، فقط أومأت برأسها، خضوع صامت، استسلامٌ مرير، وكأنها سلّمت قلبها وعقلها للخطيئة.


مارينا تنفّست بارتياح، وقالت في سرّها وهي تبتسم بخبث:
“الجشع… يصنع المعجزات.”
على الطرف الآخر من القاعة، جلست أوليفيا إلى جانب كولن. كانت تحاول التمسّك بشيء من السکينة، حتى وإن كانت مزيفة، حتى وإن كانت كاذبة.
كولن، المهذّب الرقيق، كان يحاول جاهدًا التخفيف عنها. بلباقته المعتادة، ولغته اللطيفة، كان يحاول إعادة الحياة لوجهها الشاحب.
قال بابتسامة لطيفة:
“هل ترغبين في بعض الطعام؟ ما زال هناك الكثير لم أخبركِ به عن سنوبول.”
نظرت إلى ساعتها. لم يبدأ الحدث الرئيسي بعد. كانت تنتظر شيئًا لا تعرفه، كأن قلبها معلق بين الحاضر والماضي.


أجابت بصوت هادئ، شبه مبتسم:
“لمَ لا؟”
دخلا قاعة الطعام معًا، وعلى الجهة الأخرى، كانت عينا إيثان تتبعهما بشراسة صامتة. الڠضب كان يتخمّر في داخله، يمتلئ كبركان.
الندم بدأ يتسلل إليه، ناعمًا كالسّم، مؤلمًا كالوخز.
كان يعلم… يعلم جيدًا أن أوليفيا ليست كباقي النساء، وأنها لا تمرّ في حياة أحد دون أن تترك أثرًا.
أشار لحارسه، وقال بصوت حاد مليء بالشك:
“أريد أن أعرف من يكون هذا الرجل، من أين جاء، ماذا يريد.”
رد الحارس بإيجاز:
“أمرك، سيد ميلر.”
أنغام الكمان كانت تعزف لحنًا كلاسيكيًا في الخلفية، مزيجًا من الدفء والترف، والطاولات تفيض بالأطباق القادمة من كل بقاع العالم، أطعمة فاخرة، ألوان، وروائح مغرية.
توجه كولن إلى ركن الحلويات، وانتقى بعض كعكات الموس بعناية. عاد بها إلى الطاولة، ووضعها أمام أوليفيا بلطف بالغ.
قال بابتسامة صادقة:
“أتذكرين؟ كنتِ تعشقين الكعك. خصوصًا هذا النوع.”
نظرت إليه أوليفيا بدهشة مريرة، عينيها غامت فيهما الذكريات:
“ذاكرتك حادّة، كأنك حفرت الماضي بأظافرك… لكني لم أعد أحب الأشياء الحلوة. الناس الكبار لا يفعلون.”


ضحك كولن، ضحكة حقيقية، من القلب:
“هل تمزحين؟ أنتِ ما زلتِ في الحادية والعشرين، في عزّ شبابكِ. لا تبدأي بلعب دور العجوز بعد!”
أدركت أوليفيا فجأة أنها تخرجت مبكرًا، اجتهدت كثيرًا، وتخطّت صفوفًا، لكن الزمن لم يكن يرحم.
قالت بدهشة:
“إذًا… أنا لا أزال في الحادية والعشرين؟”
رد بحماس:
“بالضبط! كثيرون لم يتخرجوا بعد، وأنتِ أنجزتِ الكثير. لا تزال الحياة أمامكِ!”
لكنها لم تشعر بأي من ذلك.
كانت الحياة قد مرت عليها كعاصفة لا تهدأ، مجرّفةً معها أحلامها، مشاعرها، وحتى طاقتها.
سنوات قليلة، لكنها استنزفتها بالكامل.
نظرت إلى الكعكة أمامها، كانت تحبها، تحبها بشغف قبل ثلاث سنوات، قبل أن تتوقف عن حب أي شيء.
قال كولن فجأة، وهو يشير للنافذة:
“انظري! الثلج يتساقط.”
مدّ يده وأمسك يدها بلطف، سحبها معه نحو الشرفة.
تحت الأضواء الصفراء، كان الثلج يتراقص بهدوء، والبحر خلفه بدا ككائن نائم، موهوم بالسکينة.
مدّت يدها، التقطت ندفة ثلج صغيرة، ذابت على الفور في راحة يدها.
وتذكّرت…


شتاء العام الماضي، نفس المكان، نفس الشرفة، لكن كانت بجانبها مارينا، تبتسم بوقاحة.
“نراهن؟ من سينقذه إيثان لو سقطنا معًا؟”
تلك العبارة… لا تزال تنهشها من الداخل.
عيناها امتلأتا بالحزن، تشبثت بحافة الدرابزين وكأنها تمنع نفسها من السقوط، جسديًا ونفسيًا.
لاحظ كولن التوتر في ملامحها، اقترب منها وسأل:
“ما بكِ، أوليفيا؟”
أجبرت نفسها على الابتعاد عن الذكرى، نقلت نظرها نحو البحر الذي امتد أمامها كسواد لا نهاية له.
قالت بصوت حاولت أن تبقيه ثابتًا:
“كولن… سنوبول لن تعيش طويلًا. إنها تشيخ.”
ابتسم بلطف وأجاب:
“لا تقلقي. سأعتني بها، كأنها كنز.”
نظرت إليه، في عينيها رجاءٌ لا يُوصف، وقالت بنبرة مکسورة:
“عندما ترحل… فقط، اډفنها تحت شجرة البرقوق في منزل فوردهام، أرجوك.”

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top