رواية حتى بعد الموت الفصل 10

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك


الفصل العاشر
بقيت نوران واقفة أمام قبر ليا لفترة طويلة، تتأمل الكلمات المنقوشة على الشاهد، وكأنها تحاول انتزاع الإجابات من بين الحروف. لكنها لم تكن تملك رفاهية الحزن طويلًا، فثمة مهمة تنتظرها، وتحقيق لا بد أن يبدأ.
كانت تعلم أن أكثر النساء اللواتي تواصل والدها معهن سابقًا كنّ يعملن في شركته، ولهذا قررت أن تبدأ من هناك. لكن قبل أن تتخذ أول خطوة، رنّ هاتفها فجأة.
نظرت إلى الشاشة باستغراب، فالمتصل رقم محفوظ باسم قديم: أحد الأطفال الذين كان والدها يتكفّل بتعليمهم منذ سنوات في الريف.
أجابت بصوت حذر، فسمعت صوتًا شابًا، فيه نبرة قلق:
“آنسة الهاشمي، عدتُ مؤخرًا من الخارج، وعلمت أن السيد الهاشمي مريض جدًا. هل هو بخير؟”
ردّت بلطف، رغم تعبها:
“شكرًا على اهتمامك. والدي لا يزال يتلقى العلاج في المستشفى، حالته حرجة لكنها مستقرة.”
قال الشاب بحزن صادق:
“يا إلهي! لا أصدق أن رجلاً طيبًا مثله يمرّ بكل هذا. لولا دعمه، لما تمكّنا من مواصلة دراستنا. لقد غيّر حياتنا.”
عندها، لمعت فكرة في ذهن نوران. تذكّرت أن والدها، حين كان يساعد الأطفال الريفيين، كان في الغالب يزور القرى النائية، وربما… ربما تكون ليا قد نُقلت إلى هناك بعد اختفائها.
“ريان، هل ما زلت على تواصل مع أولئك الذين ساعدهم والدي في الماضي؟”
“نعم، ساعدتُ السيد الهاشمي شخصيًا في التواصل معهم. كنت أعرف معظمهم. لكن بعد سفري للخارج فقدت الاتصال ببعضهم. إن كان هناك ما يمكنني فعله، فقط أخبريني.”
شعرت نوران كأنها وجدت خيطًا للنجاة، فقالت على الفور:
“لديّ صورة. أريدك أن ترى إن كانت الفتاة في الصورة واحدة من أولئك الذين رعاهم والدي.”
“بكل سرور، أرسليها إليّ.”
أرسلتها، وبعد نصف ساعة فقط، جاءه ردّه مصحوبًا بمعلومات دقيقة:
الفتاة في الصورة تُدعى جودي. نشأت في أسرة فقيرة، وكان السيد الهاشمي قد تكفّل بتعليمها قبل اثني عشر عامًا. تميزت بتفوقها الدراسي منذ الصغر، ونجحت في دخول أرقى الجامعات، لكنها اختارت البقاء في البلاد لمتابعة دراستها.
خفق قلب نوران، هل تكون جودي مفتاح الحقيقة؟ اتصلت فورًا بريان، وطلبت مقابلته في أحد المقاهي.
وصل رايان في الموعد، وقد تغيرت ملامحه كثيرًا منذ آخر مرة رأته فيها قبل عشر سنوات. لم يعد ذاك الشاب الخجول، بل بات رجلًا أنيقًا ببدلة رسمية، رئيسًا لشركة ناجحة.
ورغم علمه بإفلاس عائلة الهاشمي، خاطبها بلطف واحترام:
“أعتذر إن تأخرتُ، آنسة الهاشمي.”
أجابت بابتسامة باهتة:
“لقد وصلتُ للتو. سأدخل في صلب الموضوع. هل ما زلت على اتصال بجودي؟”
هز رأسه بأسف:
“كنتُ كذلك. لكن خلال سفري، فقدت تواصلي مع أغلب الأصدقاء هنا. لم نتحدث منذ عامين على الأقل.”
“هل تعرف كيف حالها الآن؟”
أطرق للحظة، ثم قال:
“عدت مؤخرًا، ولم أكن أعلم بما حدث لعائلتكِ لولا أصدقاء مشتركين. أما جودي… للأسف، لم يعد لها وجود.”
تسمرت عينا نوران في وجهه:
“ماذا تعني؟”
“أعني أنها ماتت. يا للأسف! كانت من أنبغ الطلاب، وكان ينتظرها مستقبلٌ باهر. لكن… انتهى كل شيء.”
همست نوران بذهول:
“كيف ماتت؟”
ارتشف رايان رشفة من قهوته، وقال بحذر:
“لست متأكدًا. لكن ما سمعته أنها… انتُشلت من البحر.”
عبست نوران، وتجعد جبينها من فرط التفكير. لم تجد فقط ما كانت تبحث عنه من إجابات، بل ظهرت في الأفق أسئلة جديدة أكثر حيرة.
ليا كانت في السادسة من عمرها حين اختُطفت. كان يفترض بها أن تتذكر شيئًا عن ماضيها.
إذا كان والد نوران قد تكفّل برعايتها، فلماذا لم تلجأ إليه؟ لماذا لم تطلب المساعدة؟
ولماذا لم تعد إلى المطاحن عندما انتقلت إلى المدينة؟
ثم سؤال أكثر إيلامًا بدأ يلوح في ذهنها:
ما علاقة والدها بوفاة جودي؟
سألت نوران بتردد، كأنها تخشى سماع الجواب:
“هل… هل كان والدي لطيفًا معها؟”
أجاب رايان وهو يسترجع ما يتذكره:
“جودي نشأت في بيئة فقيرة، وتيتمت وهي صغيرة. رغم الظروف، كانت متفوقة دائمًا، وشقت طريقها إلى المدينة بجهدها. كان السيد الهاشمي طيبًا معها لأبعد الحدود. سمعتُ أنها كانت منعزلة قليلًا، وزميلاتها في السكن لم يكنّ يعاملنها جيدًا، لذلك استأجر لها السيد شقة خاصة لتتمكن من التركيز على دراستها.”
ثم وضع كوب القهوة جانبًا، وحدّق في عيني نوران باستفهام:
“لكن… لماذا كل هذا الفضول بشأنها؟”
أجابت بنبرة هادئة ولكن عميقة:
“أريد أن أعرف سبب وفاتها، فقط لأتأكد أنها لم تمت عبثًا.”
كانت تخطّط للموت بهدوء بعد حصولها على المال لتغطية جنازتها، لكن الآن… تغيّر شيء داخلها.
أرادت شيئًا أكبر: أن تُنقذ سمعة والدها، أن تعرف الحقيقة، وأن تُنصف عائلتها.
حتى لو رفض أحمد البوح بالحقيقة، فستنتزعها منه بطريقتها.
بدت على وجه رايان لمحة تذكّر، ثم أخرج بطاقة هوية من محفظته وناولها إياها.
“هذا صديقي، محقق خاص مشهور. إذا أردتِ المساعدة، اتصلي به.”
“شكرًا لك، رايان.”
ابتسم وقال وهو ينهض:
“لا تقلقي. أعرف جودي، وأتمنى لها الراحة. سأعود للريف قريبًا، لكن إن احتجتِ لأي شيء، راسليني. لدي اجتماع الآن، عليّ أن أذهب.”
“أراك لاحقًا.”
بعد وداعه، سارعت نوران إلى الاتصال بالمحقق، وأرسلت له كل ما لديها من معلومات. شعرت بشعور غامر… كأن الحياة قد منحتها فجأة هدفًا جديدًا.
عندما وصلت إلى المستشفى، طلب منها الدكتور فريد مقابلته في مكتبه. شعرت بانقباض غريب في قلبها، وسألته بقلق متزايد:
“كيف حال والدي؟ هل هناك تحسّن؟ متى سيستيقظ؟”
نظر إليها الطبيب بعينين جادتين وقال بصوت هادئ:
“آنسة الهاشمي، يجب أن تكوني مستعدة لأي شيء. العملية الجراحية نجحت، لكن… خلال الحادث، ارتطم رأس والدك بشدة، وتسبب ذلك في مضاعفات خطيرة. حتى الآن، لا توجد أي مؤشرات على استيقاظه. من المحتمل… أن لا يستفيق أبدًا.”
شعرت نوران وكأن قلبها سقط في بئر بلا قاع. تراخت قبضتها على الكوب الورقي الذي كانت تحمله، وبدأت يداها ترتجفان بشدة.
رأى الدكتور فريد الصدمة على وجهها، فأردف مطمئنًا:
“لا تفقدي الأمل. قلت فقط إنه احتمال. قد يستيقظ بنهاية هذا الشهر، إن كنا محظوظين.”
رفعت رأسها والدموع تغمر عينيها، وسألت بصوت مبحوح:
“وإذا لم يستيقظ؟ سيدخل في غيبوبة دائمة… أليس كذلك؟”
“نعم. ولهذا السبب، من الأفضل أن تبدئي التخطيط. كما تعلمين، في ظل الظروف الاقتصادية، ليس من السهل الإنفاق على مريض في غيبوبة…”
قبل أن يكمل، وقفت نوران بغضب، وضربت يديها على الطاولة بقوة:
“أنا لن أتخلى عن والدي! المعجزات تحدث، وأنا أؤمن بها!”
وغادرت المكتب مسرعة، وكأن النار مشتعلة في قلبها. لم يكن من المفترض أن تسوء الأمور إلى هذا الحد. إن لم يستيقظ والدها، فستضيع الحقيقة… ولن يكون هناك من يخبرها بها. لا، لا يمكن أن تموت الآن!
ركضت إلى قسم الأورام، حيث كان الدكتور كريم قد انتهى لتوه من تشخيص أحد المرضى. اقتحمت الغرفة، وعيناها تلمعان برجاء خفيّ.
“كريم… أرجوك، ساعدني.”
نظر إليها بدهشة، ورأى يديها المرتجفتين تمسكان بذراعه. تحدّثت بصوت هادئ، لكن حاسم، كما لو أنها تقبّلت قدرها وقررت مواجهته:
“سواء كان العلاج كيميائيًا أو جراحيًا، سأفعل أي شيء. فقط… أريد وقتًا أكثر لأعيش.”
لأنها الآن فهمت: لا يمكنها معرفة الحقيقة، أو إنقاذ والدها، إن لم تكن على قيد الحياة.
لم يفهم كريم كل ما مرت به، لكنه شعر بقوة إرادتها، وعرف أنها تستحق فرصة.
“حسنًا، سأرتّب لكِ أول جلسة علاج كيميائي فورًا.”

الرواية كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top